شاعر كردي معروف من السليمانية لقب بالناصري نسبة إلى مدينة الناصرية
جميل حسين الساعدي
هو الشاعر الرومانسي عبد القادر رشيد الناصري ، الذي و لد في مدينة السليمانية في العام 1920 من أبوين كرديين ، والذي نُفيَ والده الحاج رشيد إلى مدينة الناصرية ، بسبب دعمه ومناصرته للثورة الكردية ، التي قادها الشيخ محمود البرزنجي ، وقد أمضى بقية حياته فيها ، بعد أن تزوّج للمرة الثانية من واحدة من نساء المدينة ، هي السيدة ( نعيمة علي حسين الولي).
في الناصرية أتمّ الشاعر تعليمه في مدرسة المركزية الإبتدائية ، بعدها واصل دراسته في المتوسطة المركزية ، إلا أنه لم يتمكن من إتمام دراسته ، فانصرف إلى تثقيف نفسه ذاتيا ، ثمّ انتقل إلى بغداد ليعمل جنديا متطوعا في الجناح الفنّي للقوة الجوية ، وبعد أن أنهى خدمته هناك ، عملَ منضّدا للحروف في مطابع عدد من الصحف إضافة إلى عمله كمصحح لغوي . تمّ إيفاده إلى باريس في العام 1950 لغرض الدراسة ، وذلك بتوصية من وزير المعارف آنذاك نجيب الراوي ، الذي أُعجب بشاعريته ، لكنه سرعان ما عاد أدراجه إلى بغداد بسبب تغيير وزاري، ليشغل وظيفة بسيطة في أمانة العاصمة . لُقّب ب ( الناصري) نسبة إلى مدينة الناصرية ، التي عاش فيها ،وظلّ اللقب ملازما له طيلة حياته ، وكان فخورا بلقبه هذا ومعتزا به ، فكلّ ما نشره من قصائد ومقالات في الصحف والمجلات كان باسم
( عبد القادر رشيد الناصري) ، الاسم الذي عُرفَ به بين الناس وفي الأوساط الأدبية والثقافية . لم يعش الشاعر طويلا ، فقد أدركته المنية إثر نوبة قلبية وذلك في العام 1962 ودفن في مقبرة الغرباء.
وقد وصفه أحد الأدباء ، ممن كان يعرفه عن قرب 🙁 كان الناصري من أكثر الشعراء العراقيين شهرة في العراق والعالم العربي في ذلك الوقت ، وكانوا يشبهونه بالشاعر الإنجليزي اوسكار وايلد لوسامته وبوهيميته ورقّة شعره)
للشاعر دوواوين كتب مقدماتها أدباء ومثقفون عراقيون وعرب معروفون ، مثل الشاعر هلال ناجي ، ومحمد رضا الشبيبي ، وسامي الكيالي ، وعبدالله الجبوري ، وعبد الكريم راضي جعفر ، فقد صدر في بغداد 1939 ديوانه ( ألحان الألم) عن مطبعة الأهالي ، وصدر ديوانه ( صوت فلسطين) في بغداد 1948 عن مطبعة الجامعة ، أما الجزء الأول من ديوان ( عبد القادر رشيد الناصري ) فقد صدر عن مطبعة شفيق في بغداد 1956 ، وصدر الجزء الثاني عن مطبعة العاني في بغداد 1966 ، وقد جمعه وقدّم له هلال ناجي وعبدالله الجبوري ، أمّا الجزء الثالث فقد قامت بإصداره دار الشؤون الثقافية في بغداد 1992 ، وكان من جمع وتحقيق ودراسة عبد الكريم راضي جعفر.
ينتمي الناصري إلى إلى مدرسة أبولو الشعرية ، التي أسسها الشاعر أحمد أبو زكي شادي في العام 1932 ، وكان وكيلها الشاعر ابراهيم ناجي وانضمّ اليها عدد من الشعراء مثل: علي محمود طه ، وأبو القاسم الشابي ، ومحمد عبد المعطي الهمشري وجميلة العلايلي ، وصلاح احمد ابراهيم وغيرهم ومن أهم سمات هذه المدرسة الشعرية : حب الطبيعة والولع بها ، وتحرير الأبيات من وحدة القافية ، حيث تتعدد القوافي في القصيدة الواحدة ، فيكون لكل مقطع قافيته ، وكذلك الميل إلى استخدام الرمز ، والتأكيد على ذاتية التجربة الشعرية ، وإظهار الحنين عن طريق بعث الذكريات من مخابئها وتذكر الأماكن المرتبطة بها مع ضرورة استخدام الألفاظ الرقيقة ، التي تحرك المشاعر والأحاسيس الإنسانية لدى القارئ ، وهذا ما نراه جليّا في قصائد الناصري ، ومنها هذه القصيدة ، التي أهداها إلى أديبة أسبانية شقراء جميلة ، كانت ترافقه في مشاهدة الكرنفالات ، التي أقيمت في باريس بمناسبة ( عيد الحرية)
عَبَرَتْ بي وهي شقراءُ لها وجهٌ صَبُوحْ٢
في مَساءٍ تعبقُ الفتنةُ منه وتَفُوحْ
شاعريُّ الظِّلِّ مخضلٌّ له النُّورُ مُسُوحْ
قلتُ: يا ضاحكةَ العينيْن، ماذا لو أَبوحْ؟
أنا لو تدرينَ قلبٌ بِهوَى الغيدِ جريحْ
شاعرٌ طوَّفَ في الأرضِ فأَشقاه النُّزوحْ
سَئِمَ القيدَ «ببغدادَ» وأَدْمَتْهُ الجُرُوحْ
فأتى (باريسَ) في ظِلِّ الأماني يَسْتَرِيحْ
فرأَى حُلْمَ لياليهِ بِعينيكِ فهَامَا
وتسامى نغما يُشرقُ بالحبٍّ ضراما
***
وَوَقَفْنَا نَتَمَلَّى «السِّينَ» والليْلُ سُكونْ
الثَّرَى سِحْرٌ ونُورُ القَمَرِ الظَّامِي حنينْ
عُرُسٌ، فالوَرْدُ والأنْسَامُ رقصٌ ولحُونْ
وعَذَارَى الشُّهْبِ في حاشيةِ الأفْقِ عُيون
فَتعانقنا بِرُوحَيْنا وهزَّتنا الشُّجونْ
وَهَتَفْنَا: لمن الصَّهباءْ واللحْنُ الحَنُونْ
ها هُنا يحلو لِعُشَّاقِ اللَّذاذاتِ الجُنونْ
فَهَلُمِّي نتعاطاها فدُنيانا فتونْ
ما على مُغْتَرِبي دارٍ «بباريسَ» أقاما
أن أحالا الليلَ جامًا والمسراتِ مُداما
***
وانْتَحَيْنَا حانةً تَحْكِي أساطيرَ الليالي
السَّنَى في جوِّها الصاخبِ شرقيُّ المثالِ
واندفعنا بين حَشْدٍ من نساء ورجالِ
يتساقوْنَ على نَخْبٍ ليالي «الكرنفال»
قلتُ: يا مُلهمتي الشعرَ ويا وحيَ خيالي
أترعيها مِنْ جَنَى «بوردو»٣ ومِنْ تلك الدَّوالي
خمرةٌ تكشف للشاعرِ عن سِرِّ الجمالِ
ما علينا لو أذبنا الرُّوحَ في نارِ الوصالِ
أنتِ يا زهرةَ «مدريد» ويا زهوَ الدَّلالِ:
عيدُ أفراحي، وعِطرِي، ومُدَامي والنَّدَامى
قَرِّبي ثَغْرَكِ أسْكُبْ فوقَه رُوحي هُياما
***
قالتْ: اشْرَبْ! قلتُ: سِنْيورَا اشْربي نَخْبَ لِقانَا
لا تقولي قد خلا الحَانُ ولم يَبْقَ سِوَانَا
الهَوَى العاصفُ لا يَعرفُ للنَّجوى مَكانَا
نحن أغرودة حُبٍّ ردَّدَ الدهرُ صَدانا
ما علينا لو ختمنا بدمِ القلبِ هَوانَا
حَسْبُنا أنَّا احترقنا في جحيمٍ من أسانَا
قَدَرٌ نادَى، وقلبانِ أجابا مَنْ دَعَانَا
فعسى نبعث ذكرى (شهرزادٍ) والزَّمانا
وتلاقت شفتانا ساعةً كانت مَنامَا
أَمَرَ الحُبُّ فكنَّا في فَمِ الدنيا ابتساما
فقد الناصري الكثير من قصائده قبيل وفاته في العام 1965 ، لتظهر فيما بعد بأسماء مستعارة ، لكن
قصيدة( عازفة الكمان) التي كتبها في أحد مقاهي باريس سنة 1950 / 1951 ، والتي أملاها على الفنان التشكيلي سلمان داود الخلف ، حينما كانا يدرسان معا في باريس ( حسب رواية الأستاذ ناهض الخياط ) ، لم تظهر في ديوانه الصادر في بغداد عن مطبعة شفيق في العام 1965 ، والذي ضمّ 135 قصيدة وقد أشار محقق الديوان الأستاذ كامل الخميس بأنّه لم يتمكن من الوصول إلى جميع قصائده ، ومن جميل الصدف أنني في
برلين كتبت قصيدة بنفس العنوان ( عازفة الكمان ) ، ونشرتها في عدد من المواقع الأدبية ، ويسعدني أن أقدم للقراء القصيدتين ، قصيدة الناصري وقصيدتي
عازفة الكمان / شعر عبد القادر رشيد الناصري
جسي الكمنجة منها ينبعث نغم
وروي فينا بأوتار القلوب هوى
فضي حناجر طير الأيك وأقتبسي
وردديها على العشاق ثانية
ما لحن داوود ما آهات مزهره
كأن كفك إذ تهفو على وتر
تبارك الفن لولا الفن ما انفتحت
جسي الكمنجة تنساب اللحون صدى
ورجعيها اغاريدا نطير بها
وزودينا ففي اعماقنا عطش
نكاد بالوهم نحسو من تشوقنا
كأنما أنت في آفاق نشوتنا
وكل جارحة منا غدت أُذنا
جسي الكمنجة يا حسناء وأذكري
ناء عن الصحب في باريس منفرد
يطوي على ذكريات الأمس مهجته
لعل لحنك يأسو جرح غربته
كالسحر ينساب في سمع المغنينا
أشهى اللحون كما شاءت أمانينا
أرق أنغامها شجواً وتلحيناً
لعل لحنك ينسينا مآسينا
فداء أوتارك البيض المغنونا
نسائم الفجر ترتاد الرياحينا
على الجمال عيون المستهامينا
فؤاد كل محب فيك مفتونا
على جناح خيال فيك يدنينا
وفي جوانحنا الشواق تصلينا
شجي لحنك صهباء فروينا
روح من الملأ الأعلى يناجينا
لغير صوتك لا نهفو فغنينا
مد لها في ضفاف السين محزونا
يهفو لليلات بغداد آحايينا
والذكريات عزاء للمصابينا
قاسمتك الوجد، في شدوي وتلحيني
إذ ما يزال غريب القلب مطعونا
عازفة الكمان / شعــر جميل حسين الساعدي
أعيدي اللحْـنَ عازفـــــــةَ الكمـــــانِ
فكـمْ في اللحــنِ هــذا مِــــنْ معـــانِ
فؤادي لــمْ يـزلْ طفـــلاً وديعــــــاً
برغــمِ توجّعــــي ممّـــا أعـــــاني
وبين جوانحــي يهفــــــو حنيــــنٌ
إلــى مــا فاتَ في ماضــي الزمانِ
أعيدينــي إلى لَعِبي ولهـــــــــــوي
إلى دنيـــا اندهاشي وافتتانـــــــــي
إلى زمــنِ الطفولــــةِ حيثُ أغفـو
قـــــريرَ العينِ في حضْنِ الحنــانِ
إلى زمـــنٍ تراءى مثلَ طيـــــفٍ
ومـرَّ مرورَ أحــــلامِ الحِســــانِ (1)
وخلّفَ بعدهُ زمنـــــاً عصيبـــــا ً
عنيــــداً قدْ خســرتُ بــهِ رهاني
أعيدي اللحنَ ثانيةً أعيـــــــــــدي
وصبّي خمـــرَ لحنكِ في دِنـــاني
فإنّــي مُنتشٍ باللحـــنِ حتّــــــــى
كأنّـــي قد سكـــــرتُ بخمرِ حانِ
أنــا من طافَ في البلدانِ طــــولاً
وعرضــاً سائرا ً خلفَ الأمـــاني
أهـــاجرُ من بلادٍ نحْــوَ أخــــرى
لأحيـــا مُطمئناً فــــي أمـــــــــانِ
فتسخــــرُ حينها الأقدارُ مِنّــــــي
لأنّي لـمْ أجــــدْ يومــا ً مكــــاني
تعقّبنــي الجحيــمُ على دروبـــي
يُنــــادي لا وصــولَ إلى الجِنانِ (2)
أنا فــي كلّ أرضٍ تبتغيـــــــــها
ترى نـاري هنــاكَ مــعَ الدخانِ
تجاهلتُ النـــــداءَ وقلتُ صبراً
فبالغت الليـالي فــي امتحـــاني
***
أعيدي اللحـنَ أسمعــــهُ بقلبــــــي
أنا المولودُ مِـــنْ رَحِــمِ الحنــــانِ
رقيـــقُ الطبْــعِ لكنّــــي عصـــيٌّ
على مُتجبّـــــرٍ يبغـــــي هَـوانـي
جُبلتُ على الطبيعـةِ لا أحــابي
وما في القلبِ يجري في لساني
أصــاحبُ كلّ مسكيــنٍ فقيـــــرٍ
عزيز النفسِ يُخفي ما يُعــــاني
فأوثــرهُ علـــى نفسـي وأهلــي
وأرفعـــــهُ إلى أسمى مكــــانِ
وليسَ بصاحبي رجلٌ بخيــــلٌ
ولا أرجــو الشجاعةَ من جبانِ
هوَ الإنســانُ يفنــــى ذاتَ يومٍ
وتتبعــــهُ المصـــانعُ والمباني
فإنّ العمْــرَ مهما طالَ يبقــــى
قصيــــراً كالدقائقِ والثوانـــي
أعيـــدي اللحْـــنَ ثانيــةً وغنّــي
معي بيتـــاً تردّدَ فـي جَـنانـــــي
(أضاعوني وأيَ فتىً أضاعوا)
فآهٍ ثــمَّ آهٍ يـــــــا زمـــــاني(3)
***
برلين السادس من نيسان 2020
1 ـ الحســان: جمع حسنــــاء
2 ـ الجنان : القلب
3 ـ صدر البيت المحصور بين قوسين هو من بيت للشاعر العرجي ، وهو شاعر غزل مطبوع من شعراء العصر الأموي
والبيت هو:
أضاعوني وأيّ فتىً أضاعوا *** ليومِ كريهـــةٍ وسدادِ ثغْــرِ