مظاهر الفساد في التعليم
أ. د. محمد الربيعي
يواجه العراق اليوم عددا كبيرا من المشاكل التي تهدد بقاءه كدولة على هذا الكوكب. ومع ذلك، لا تتساوى جميع ارجاءه بالمشاكل التي تصنف من بين أخطر التهديدات لنا كعراقيين: الفساد، العنف، الطائفية، البطالة، والفقر، وانخفاض مستوى التعليم، وضعف مستوى التطور الاقتصادي والتكنولوجي، والتمييز ضد المرأة.
الفساد هو اخطر ما يواجه العراقيين وبنظري ان اخطر انواع الفساد هو الفساد في التعليم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن نقص الموارد المالية المخصصة للاعمار وبناء هياكل البنية التحتية، والبيروقراطية، والتلوث البيئي، والصراع السياسي تشكل تهديدات كبيرة تجعل ضرورة التعامل مع هذه القضايا بجدية تامة. من الصعب تحديد أي من المشاكل المذكورة هو الأكثر أهمية والذي يعرض بلدنا لاكثر خطورة، نظرا لكونها مترابطة ومتداخلة. ومع ذلك ، أود أن أسلط الضوء على قضايا التعليم الفسادة، حيث أن لها آثارا سلبية للغاية على بقاء العراق كدولة وكشعب.
في العديد من البلدان، يتفشى الفساد في التعليم. لكنه يتميز في العراق بشكل واسع يشمل التعينات والسلوكيات ونظام التجهيزات المدرسية والكتب والامتحانات والشهادات وبناء وصيانة البنى التحتية مما عرّض المدارس والجامعات للخطر وتضخم في المشكلات الملحة واجهاض لدعوات الاصلاح، وادى بالتالي الى تدمير نظام التعليم السليم.
يمكن تعريف الفساد في قطاع التعليم على أنه “الاستخدام المنهجي للمنصب العام لتحقيق المنفعة الخاصة، والذي يكون له تأثير كبير على توافر وجودة السلع والخدمات التعليمية، وله تأثير على التمكن من الحصول على التعليم أو جودته أو الإنصاف في التعليم” (هالاك وبواسون، 2002 *).
الاحتيال الأكاديمي وضمان الجودة
أصبحت جمهرة كبيرة داخل المؤسسات التعليمية أكثر من أي وقت مضى متسترة بقناع التملق نحو المسؤولين الاعلى في السلطة والتماهي لهم وتتنامي المساعي من أجل الحصول على مكاسب انية وشخصية، والتقاعس في تأدية وظيفتها الأساسية – تدريب طلبة مؤهلين وقادرين على التعامل مع الأزمات التي يواجهها العراق في الوقت الحاضر.
ومن هنا نشهد ظهور المدارس والكليات والجامعات الاهلية بشكل لا يمكن السيطرة عليه، حيث تقدم نفس المناهج الدراسية التقليدية أو المناهج المماثلة من أجل جذب أكبر عدد ممكن من الطلاب، بدلاً من مناهج حديثة ورائدة وتسعى الى تطوير المعرفة في المجالات الطبية والصناعية والزراعية والاجتماعية. على سبيل المثال، نما الالتحاق بالتعليم العالي بشكل أسرع من قدرات التمويل او احتياجات سوق العمل كما هو عليه في طب الاسنان والصيدلة، ووصل إلى مرحلة حرجة حيث أدى نقص الموارد إلى تدهور حاد في جودة التعليم وفي القدرة على إعادة توجيه التركيز على النوعية والابتكار. بمعنى آخر، الكم يهدد الجودة. بالإضافة إلى ذلك، ازداد عدد الحاصلين على شهادات عليا من جامعات وهمية او تجارية بدرجة كبيرة وتبرع عدد من النواب والوزراء بالدفاع عنهم والاعتراف بشهاداتهم، كما اشتدت ظاهرة تدخل مجلس النواب بخطط واستراتيجيات السلطة التنفيذية من خلال اصدار قوانيين وقررات تصب في مصالح الفئة الحاكمة. واصبحت الدراسات العليا مجالا خصبا للفساد عبر قرارات تهدف الى فتح باب القبول على مصراعيه للنخب الحاكمة ومنح الشهادات والالقاب العلمية بدون الالتزام بما تتطلبه شروط التأهيل الشامل والشهادة الرصينة. وانتشر سوق الاحتيال في النشر حيث راجت المجلات “العالمية” الوهمية، بعضها يعلن في وسائل الاتصال الاجتماعي، وينشر المعلومات عن طريق إرسال البريد العشوائي، ويدعي احتلال المجلة مرتبة عالية في قوائم البحث في محركات البحث، واصبح النشر فيها من الامور الطبيعية ووجدت مكاتب واكاديميين يروجون لها، وتبؤا العراق المرتبة العالمية الثانية من ناحية النشر في المجلات المفترسة. يمكننا أيضا أن نرى أنه يمكن شراء أطروحات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه عبر الإنترنت، وكثرت المكاتب التي تجري التجارب العلمية وتعد الرسائل والاطروحات وتقدم البحوث الجاهزة، وبدأ المشرفون بتشجيع طلبتهم على الاستعانة بالوسطاء لاجل نشر بحوثهم في مجلات ضعيفة او فاسدة او مفترسة ولمجرد انها مفهرسة في محرك سكوبس، مما ادى الى الاستهانة تماما بأهمية البحث والتعليم والشعور به. وفقا لذلك، تدهورت القيمة العلمية للشهادات بسبب فرط إنتاجها وعدم كفاية المعرفة والكفاءة التي تحققت من خلال التعليم لدعمها. يؤكد احد التدريسيين على ان بعض اطاريح الدكتوراه تكتمل باسابيع وبمجرد فحوصات بسيطة وبعض القياسات الروتينية لتنشر البحوث في مجلات زائفة مدرجة في محرك سكوبس. من الواضح أن هذا الإنتاج المفرط للشهادات لا يمكن أن يحل مشكلة المستوى التعليمي غير الكافي، ولا يمكن أن يرفع بشكل مصطنع مستوى المعرفة في البلد، ويزيد من تهميش الباحثين المجتهدين والملتزمين بالامانة العلمية ويقضي على الرغبة والدافعية عندهم.
بالنظر إلى أن التعليم هو أساس تطور البلد وبقاء اقتصاده، فمن الضروري كبح هذا الاتجاه السلبي في أسرع وقت ممكن. لا شيء يمكن أن يدمر أي بلد أكثر من نظام التعليم المفقر والفاسد. ومن ثم، فإن هذه القضية لا تتطلب فقط اهتماما خاصا من الاكاديميين والتدريسيين، ولكنها تمس إلى حد كبير مجال القانون الجنائي. وبالتالي، من الضروري إطلاق حملة مكثفة لإغلاق المؤسسات شبه التعليمية التي تنتج “معاقين فكريين” ومعاقبة الفاسدين. يجب إعادة التعليم إلى دوره الأصلي، مع ذلك، ببادئة جديدة، وهي إنشاء تعليم موجه لاحتياجات الطلاب والمعرفة الجديدة التي ستكون متآزرة مع الطلب في أسواق العمل المحلية والعالمية. نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى معرفة يمكن تطبيقها على اقتصاد القرن الحادي والعشرين، الاقتصاد القائم على المعرفة. ولهذا السبب يجب الاهتمام بشكل فوري بالتعليم لما له من آثار على الحد من الفقر والبطالة وغيرها من المشاكل التي يواجهها العراق الذي نعيش فيه اليوم.
أخيرا، أود فقط أن أضيف أن إنشاء نموذج جديد للتعليم يلبي معايير تشجيع الفرد والإبداع ويركز على اهتمامات المجتمع التعليمي السليم بدلاً من اهتمامات قيادات الدولة والمؤسسات التعليمية لا يمكن تحقيقه دون حل مشكلة الفساد في التعليم. يجب أن تعني الشهادة المكانة العلمية والمهنية والمعرفة والجودة والاصالة، بدلاً من أن تكون مجرد “ورقة” وطريقا إلى عالم من العاطلين عن العمل.
المصادر:
* Hallak, J.; Poisson, M. 2002. Ethics and corruption in education (Policy Forum No. 15). Results from the Expert Workshop held at the IIEP, Paris, France, 28-29 November, 2001. Paris: IIEP-UNESCO.