“العراق نحو المجهول”: بين رؤية المواطن والسياسي
د. إياد العنبر
يردد السياسيون والمراقبون في العراق كلمات التحذير بشأن انفلات الوضع الأمني والتحديات الاقتصادية وغياب الرؤية والسياسات العمليّة نحو تحقيق الإصلاح ومحاربة تغوّل الفساد وسوء الإدارة. وفي الآونة الأخيرة تكررت كثيراً عبارات التحذير من الذهاب نحو الفوضى، وهذه الأيّام تُردَد عبارة الخوف مِن سير العراق نحو المجهول.
لازلتُ أعتقد بأن التحذيرات التي تصدر من السياسيين في العراق هي أصدق تعبير عن ما يمكن تسميته بالفجوة الإدراكية بين المواطن والسياسي في بلد تعصف به الأزمات ويشهد الانهيار والتغييب المتعمّد لدَور المؤسسات وسلطة القانون في عمل النظام السياسي، وانعدام الثقة ما بين المواطن ومؤسسات الدولة.
أيُّ مجهول وأيّ فوضى يمكن أن تجعل المواطن العراقي المغلوب على أمره يستشعر الخوفَ منها؟ فهو طوال ثمانية عشر عاماً يعيش تكراراً لنفس الأزمات، وهو يدفع ثمن فساد الحكومات والطبقة السياسية، ويواجه الجماعات الإرهابية، ويخرج متظاهراً مطالباً بالعيش الكريم فيدفع الثمنَ عشرات الشهداء والجرحى! ولا يحتاج الموضوع إلى الاستشهاد بالأرقام والمؤشرات عن فساد وفشل النخبة الحاكمة في العراق، إذ يكفي أن تسير في الطرقات والأزقّة وترى حجم الخراب في البنى التحتية مقارنةً بالأموال التي ترصد لترميمها أو إعمارها أو تشييدها! ويمكن اختزال حجم الخراب في هذه المعادلة: بلد يملك أكبر احتياطي من النفط والغاز، لكنّه فشل في بناء محطات الطاقة الكهربائية لتوفّر الكهرباءَ على مدار 24 ساعة، ويستورد بمليارات الدولارات المشتقات النفطيّة والغاز!
محنة العراقي أنّه يرى أمام عينيه ثرواته تُسلب وتنهب من قبل حكام تسلّطوا عليه بعنوان “شرعية الانتخابات”، وآخرون يريدون أن يتسلطوا بعنوان “شرعية الجهاد والمقاومة”، وقبلهم ضاعت ثروات العراق وشاع الفساد والفوضى بفضل حكم زعامات سياسية كانت تدّعي بأنّها تعارض النظام الدكتاتوري. ويرى أن هذه الطبقة السياسية ما عادت تشعر بالعار من اتهامها بالخيانة والولاء للأجنبي وتنفيذ أجندته في دمار العراق. ونجد الكثيرَ من السياسيين يبرر التدخل الإيراني في العراق بعنوان إسلاميّ أو مذهبي، وبالوقت ذاته يتهم خصومه بالعمالة للأجنبي وبأنّهم ينفذون أجندة أميركية أو خليجية أو تركية!
لا يدرك السياسي معنى المجهول، كما يعيش المواطن العراقي؛ لأنَّ السياسي يعد المجهول بمثابة خسارة السلطة والنفوذ والمكاسب. في حين المجهول بالنسبة للمواطن هو خيار قد يحمل فرصة للخلاص من هذه الطبقة السياسية التي تريد منه الذوبان في رمزية زعاماتها، ويتم التعامل معه باعتباره رقم لزيادة رصيدهم السياسي في المواسم الانتخابية. المجهول للمواطن هو بقاء هذه المنظومة السياسية حاكمة ومهيمنة على ثروات البلاد ومتسلّطة على رقاب العباد، وتريد أن تعاملهم معاملة القطيع التابع والمستعد للتضحية من أجل بقاء الزعيم وحاشيته.
وأيّ مجهول يمكن أن يتخوّف منه المواطن العراقي بعد أن استهلك كلَّ محاولات إيصال صوته ومظلوميته من نظام حكم الاقطاعيات السياسية، ومن نظام سياسي وظيفته الأساس خدمة مصالح الزعماء السياسيين وتابعيهم، ولا يعرف لحدّ الآن مَن هو المسؤول عن تراكمات الخراب والفشل التي تحيط بكلّ مفاصل الحياة العامة.
أمّا المجهول بالنسبة للطبقة السياسية، فهو لا يتضمّن الخوف من تفكك العراق أو تحدي الجماعات الإرهابية، أو تنامي مؤشرات الفساد، أو على أقل التقديرات بقاء العراق دولة فاشلة والسير نحو نموذج الانهيار اللبناني أو اليمني أو الليبي. وإنما يحمل هذا الخطاب نوعاً من التلويح بالتهديد لكلّ مَن يفكّر بالتظاهر أو الاعتراض على إدارتهم لِلحكم، فهم يريدون إيصال رسالة مفادّها: بأنَّ بديلنا الفوضى!
حقيقةً لا أعرف أي فوضى ممكن أن يتخوّف منها المواطن، وهو في كلّ يوم يتلمّس فيه ملامح غياب القانون وغياب ملامح وجود الدولة عندما تعيش في نظام مفرَط في تفككه وتعدد مراكز القوى داخله، ولا يملك من يتصدى للحكم أي خطط أو استراتيجيات للتنمية، ولا نعرف من يرسم السياسات العامة بالبلاد، ومن المسؤول عن سياسة البلد الخارجية!
يتجه العراق نحو المجهول حتماً إذا بقيت المنظومة السياسية تعمل على ترسيخ مبادئ التعايش مع عشوائيات متحكّمة ومهيمنة على المجال العام بعناوين دينية وطائفية وقوميّة تنتمي إلى مجالات ما قبل الدولة. وتتنافس معها جماعات مسلّحة تستغل ضعف الحكومات وعجزها عن احتكار العنف وتريد أن تفرض نفسها كقوة متحكّمة ومسيطرة على الدولة والمجتمع.
يدرك المواطن أنَّ مصير بلده المجهول سيواجهه لوحدة، فأغلب السياسيين ضمنوا مستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم في البلاد الأجنبية التي أتوا منها حاملين جنسياتها، أو في البلاد التي يتبعون قرارَها السياسي وينفذون أجندتها، ولذلك هم لا يدينون بالولاءِ لِلبلد الذي يتولّون فيه أعلى المناصب ويحصلون على أعلى الامتيازات وينهبون أمواله. وهؤلاء لا فرق بينهم وبين الغزاة الأجانب، فالعراق بالنسبة لهم مكان غير صالح للعيش، وهو مجرّد محطّة استثمارية لتنمية الثروات بطرق غير شرعية.
كيف لا يخاف السياسيُّ مِن المجهول الذي يحمل في طيّاته التحذير من خسارة المكاسب والمغانم؟ ونحن نعرف أنه لولا الفوضى في العراق وانعدام المعايير لَما تفككت بُنى الدولة التي سمحت لطبقة سياسية من الطفيليين والانتهازيين بالوصول إلى سد الحكم، ليفرضوا سيطرتهم على مؤسسات ووزرات ومحافظات بأكملها. فالكثير من السياسيين تحوّلوا إلى “زعماء” و”قادة” و”رموز سياسية” مِن دون أن يمتلكوا أيَّ موهبة أو مؤهل سياسي يسمح لهم بالتميز. وصار هؤلاء يتشبثون بالوهم ويعيشون أكذوبة الزعامة، ولذلك باتوا على استعداد لتقديم التنازلات والتضحية بموارد الدولة كلّها في سبيل ضمان بقاءهم في السلطة.
وفي ظلّ حكم هذه المنظومة السياسية كيف يمكن للمواطن العراقي أن يتأمل غير الخراب والفوضى، إذ أن بدائلها حتّى لو كانت عالية التكلفة، فهي ليست أسوأ من البقاء تحت رحمة نظام حكم يخضع لسيطرة الفاشلين والفاسدين.