ماذا يراد من الفوضى “الخلاقة القاتلة” الجارية في العراق المستباح؟
كاظم حبيب
نحن أمام لوحة سوريالية بالغة التعقيد والتشابك والفهم رسمها فنانون مغمورون وصغار في فن السياسة سياسيون خبثاء معروفون في إشاعة الفوضى والرعب والموت والدمار أينما امتدت أصابعهم الخبيثة، وحيثما حلّوا. لقد أصبح العراق منذ ما يقرب من عقدين مسرحاً أساسياً لنشاطهم وفعالياتهم التي حصدت أرواح ما يقرب من مليون إنسان عراقي وأكثر من ذلك بكثير من الجرحى والمعوقين والمهجرين والمعوقين. وهم اليوم متفقون على أن يستمر هذا الوضع في البلاد ليحققوا مقاصدهم الخبيثة في الهيمنة الكاملة عليها والتحكم بثرواتها وقواها العاملة لصالحهم وصالح إيران.
في حربين مجنونتين لا مبرر لهما نفذتهما الإدارة الأمريكية برئاسة جورج دبليو بوش في أفغانستان في عام 2001 بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وفي عام 2003 في العراق بذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل ومخاطر تعاونه مع تنظيم القاعدة. وعلى أثر هاتين الحربين أشعلت الولايات المتحدة النيران في منطقة الشرق الأوسط التي نعيش دخانها الكثيف الذي غطى (أو) وما زال يغطي سماء العراق وسويا واليمن وليبيا وما تبقى من فلسطين ولبنان والحبل على الجرار. هذه الأجواء كانت وما تزال ذات فائدة للولايات المتحدة في فرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على منطقة الشرق الأوسط المليئة بالثروات الأولية والنفط على وجه الخصوص، ولـ “حماية!” إسرائيل من الأعداء المحيطين بها!، وهي الدولة النووية الوحيدة بالمنطقة! ولكن السؤال المهم: من أصبح المستفيد الأول بعد إسرائيل من هذه الفوضى الخلاقة التي أشاعتها الولايات المتحدة بسياساتها الخرقاء والعدوانية؟ المستفيد الفعلي هي الدولة الإيرانية، وبتعبير أدق حكام إيران القوميون الطائفيون الفاسدون، التي أصبحت المتحكمة فعلياً في أوضاع الدول التالية: لبنان والعراق وسوريا واليمن وإلى حد غير قليل قطاع غزة، مع حقيقة فسح المجال أمام إسرائيل للتوسع على الأرض الفلسطينية ليصبح الأمر مستحيلاً قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة، وتوفير مستلزمات تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية، كما هو الحال مع عدد من الدول العربية مثل مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب، وستلحق الدول الأخرى: السعودية وقطر وعمان وغيرها لاحقاً حتى قبل ان تجد الضفة الغربية وقطاع غزة إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية!
رغم وجود قوات استخباراتية واستشارية أمريكية وضباط وجنود لها في العراق وسوريا، فأن المتحكم الفعلي فيهما هي الدولة الثيوقراطية الإيرانية ذات الأطماع التوسعية في هاتين الدولتين وفي منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا. وهي الدولة التي تمارس سياسة “حافة الهاوية” مع الولايات المتحدة من جهة، وقدرتها على المساومة الماكرة مع الولايات المتحدة للوصول إلى ما تسعى إليه من جهة أخرى، بالرغم من الأضرار الشديدة التي تلحق بشعوب إيران المضطهدة والمبتلاة بهذا النظام السياسي الإسلامي الطائفي الفاسد والمتعفن من الباطن وبشعوب الدول الأخرى، ومنها شعب العراق. ويبدو أن الولايات المتحدة مستعدة للمساومة إلى ابعد الحدود على مصالح العراق الحيوية لصالح إيران في العراق بهدف الوصول إلى اتفاق يقضي بإيقاف نشاط إيران النووي والتحكم ببرنامجها الصاروخي، وهي العملية الجارية حالياً بين الدولتين، وبضمنها الصراع والمناوشات الصاروخية والطيران المسير على الساحة العراقية!
أين تبرز هيمنة إيران في العراق، وما هي عواقبها الفعلية؟
تتحكم إيران تحكماً تاماً بالمجالات والأنشطة العراقية التالية:
** بكل الأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية وبيتها الشيعي أولاً، وإلى حدود بعيدة بالأحزاب الإسلامية السنية المشاركة في الحكم حالياً ايضاً. أما الصراعات الجارية فيما بين هذه الأحزاب فهي داخلية وعلى المناصب والمكاسب ولمن يستطيع منها أن يقدم أكبر خدمة لإيران ليحقق الحظوة المطلوبة ليدها!، حيث تبرز اختلافات جزئية حول هذه القضية أو تلك، كما في حالة الموقف من الضربات العسكرية ضد المواقع العراقية التي فيها قوات أمريكية، والتي ترغب فيها إيران تماماً.
** بكل الميليشيات الطائفية المسلحة، سواء أكانت ولائية أم غير ولائية، إذ أنها وفي المحصلة النهائية، وفي حالة احتدام الصراع مع قوى الشعب المحتج، تقف غير الولائية مع الولائية في خندق واحد ضد التغيير المنشود في العراق ولصالح استمرار العملية السياسية الفاسدة الجارية حالياً.
** بغالبية قرارات الحكومة العراقية التي وصلت إلى السلطة بشرط أساسي هو الالتزام الكامل بالمحاصصة الطائفية للأحزاب الحاكمة في الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، والتي تجلت أخيراً في خضوع مصطفى الكاظمي للمصادقة على قائمة توزيع سفراء العراق وفق القائمة التي قدمتها تلك الأحزاب المشاركة في الحكم أولاً، وباستمرار التعاون مع إيران في كل المجالات ثانياً، والإبقاء على الحشد الشعبي والميليشيات الطائفية المسلحة دون المساس بها أو بسلاحها ثالثاً.
** بالمواقع الأساسية والمراكز الحساسة في القوات المسلحة العراقية (الجيش والشرطة والاستخبارات والأمن الداخلي) وبقية المؤسسات التابعة لها، بحيث يصعب، أن لم يكن مستحيلاً، استخدام القائد العام للقوات المسلحة، حتى إن رغب بذلك، القوات المسلحة ضد الحشد الشعبي أو ضد الميليشيات الطائفية المسلحة الولائية وغير الولائية التي تتجاوز يومياً على سياسة الحكومة الرسمية والدستور العراقي والمجتمع المدني ومهمشة الدولية وضاربة هيبتها عرض الحائط، بما في ذلك ضرب المواقع العسكرية حيثما يوجد أمريكيون فيها.
** بالتأثير المباشر على بعض المرجعيات الدينية الشيعية وغير المباشر على بعضها الآخر من خلال المرجعية الدينية الشيعية الصفوية الحاكمة في إيران، رغم الخلاف الموجود بشأن ولاية الفقيه بين المرجعية الأساسية في العراق ومرجعية إيران.
** بالتأثير المباشر على كثرة من الحسينيات الشيعية، وليس كلها، وعلى منظمات المجتمع المدني الشيعية المشكلة عبر الأحزاب والميليشيات الشيعية وما يحصل فيها من عزاءات فيها كثير من الخطب التي تثير الفتنة بين الشيعة والسنة والموجهة ضد السنة أساساً.
** بالتأثير الفعلي على الإعلام الرسمي وغير الرسمي العراقي بنسبة عالية جداً، ولإيران قنوات تلفزيونية كثيرة بأسماء عراقية ممولة من إيران والمعبرة عن فكر وسياسات ومصالح إيران في العراق والمنطقة.
** التحكم الواضح بالشؤون الاقتصادية لإعاقة تنمية العراق وتطور الطاقة الكهربائية واستمرار زيادة استيرادات العراق من إيران للحصول على كمية أكبر من العملة الصعبة من إيرادات العراق النفطية بشكل رسمي، وعبر المكاتب الاقتصادية التابعة للميليشيات والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية بشكل غير رسمي.
** كل هذه المجالات والنشاطات تتحكم بها الدولة العميقة التابعة لإيران والتي يقودها فيلق القدس الإيران وممثليه العاملين في الأحزاب الشيعية والحشد الشعبي والميليشيات الشيعية وبإشراف وتوجيه مباشر من خامنئي عبر رئيس وزراء أسبق ورئيس حزب الدعوة الإسلامية في العراق. وهي القوى التي تقاوم أي إصلاح أو تغيير في واقع العراق والعملية السياسية، وهي التي تسعى للفوز بالانتخابات القادمة وعبأت لها المال السياسي الفاسد والسلاح والإعلام التضليلي والقوة الغاشمة وفساد الأجهزة.
في المقابل نلاحظ توجهاً وحركة بطيئتين من جانب القوى المدنية والديمقراطية واليسارية وقوى الانتفاضة التشرينية الأخرى صوب التعاون والتنسيق والتكامل النضالي ضد هذه القوى الغاشمة، وضد الأوضاع المزرية من جهة، وامتناع القوى المدنية والديمقراطية الكردستانية الحاكمة عن التعاون والتنسيق الضروريين عراقياً مع القوى المدنية والديمقراطية واليسارية العربية وغير العربية الأخرى بدعوى ضعفها، في حين تمارس التعاون والتنسيق المخل مع الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية والفاسدة الحاكمة، الشيعية منها والسنية، رغم معرفتها بأن قوى الإسلام السياسية الحاكمة، الشيعية منها والسنية، لا تضمر الخير للشعب الكردي والقضية الكردية ولا حتى للفيدرالية التي أقرها الدستور العراقي. إنها معضلة كبيرة في غياب وجود أي تعاون مدني ديمقراطي فعلي على مستوى العراق كله، كما كان عليه الوضع في مراحل النضال الوطني السابقة والتي برهنت على ضرورة التعاون والتنسيق باعتباره الضمان لتحقيق النجاحات للعراق كله. إنها، وكما أرى، نظرة ذات أفق قومي ضيق من جهة، وحسابات قصيرة النظر وغير دقيقة متطلعة لمكاسب آنية وثانوية من جهة أخرى، وفيها عجز عن استيعاب التغيرات المحتملة والجارية في الحراك المدني والديمقراطي الشعبي في البلاد.
إن الظروف القاسية جداً التي يعيش تحت وطأتها الشعب، وإصرار القوى والأحزاب الحاكمة على استمرارها ورفضها لأي تغيير يمس الواقع المزري القائم، بل هي جادة على زيادة غوصها عميقاً في إذلال الشعب ونهب موارده وتجويعه وحرمانه من الخدمات الأساسية والتآمر على صحته بتفجيرات مميتة للمستشفيات، كما في ذي قار، وأبراج الكهرباء وقتل نشطاءه المدنيين أو ملاحقتهم وتشريدهم، أو إشاعة الفوضى بإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة على أربيل والسفارة الأمريكية ودور السكان الآمنين في بغداد أو زرع الألغام الأرضي’، إن هذه الظروف ستفجر الأرض تحت أقدام الحكام الطائفيين والفاسدين. إن صوت الشعب، صوت تشرين الهادر، سينطلق من جديد ليصرخ بوجه أعداء الشعب لا للطائفيين الفاسدين، لا لسارقي لقمة عيش الشعب وكادحيه، لا لقتل النشطاء واختطافهم وتغييبهم، لا للتبعية المذلة لإيران ولا لغيرها.. نعم للتغيير المدني الديمقراطي، نعم لحياة حرة وكريمة، نعم للكرامة المهدورة ورفض استباحتها، نعم لعراق حر وديمقراطي وذي استقلال وسيادة
13/07/2021