كنت في بغداد / حلقة 2 ـ 4
د. عدنان الظاهر
إشارة
كنت والاستاذ د. عدنان الظاهر في حديث ونحن نستذكر بغداد وما حل بها بعد غزو العراق في العام 2003 ، وما أصابها من دمار وأذى وتشويه الحقته القوات الامريكية الغازية بمعالمها الحضرية والثقافية والبيئية، فيما بعد أصبح حالها على يد عراقيين برابرة جاءت بهم الادارة الامريكية في حالة يرثى لها.. وكأني بحديثي معه قد دغدفت بعض الشيء ذكرياته مع عشيقته “بغداد” عاصمة الرشيد، فراح يغدق عليّ بنصوص كتبها خلال زيارته لبغداد في أواخر 2011 . وضعني ذلك أمام وجدٍ من الخيارات، عثرات القراءة لوحدي بين الحين والحين حتى استقر بيّ الامر بالخاتمة السعيدة كما هو دارج في نهاية الافلام الرومانسية، اقوم بنشر كل ثلاث حلقات سوية في “موقع الصعاليك” ليشاركني رواده القراءة، اذ أن المدونات هذه تحمل الكثير من الدلالات والمفردات التي تجمع الكثير من القيّم والغايات البالغة الحساسية الفكرية والادبية والسياسية، على الرغم من مرور اكثر من عشر سنوات على نشرها..
عصام الياسري
** تنويه: لم نبدأ بنشر الحلقة الاولى لغاية؟، انما ستأتي في خاتمة الحلقات.
التي ستنشر تباعا / الحلقة القادمة 5 ـ 7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنتُ في بغداد (2)
عدنان الظاهر
(تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011 )
أنجزتُ معاملات بطاقة السكن والحصة التموينية ثم تزودتُ بكتاب قوي ينص على أني مهاجر قسراً. هناك المهجّر وهناك المفصول سياسياً. عرفتُ طريقي إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي القريبة من ساحة الأندلس. طلبتُ مقابلة المفتش العام في هذه الوزارة. في مكاتب الإستعلامات طلب مني موظف كيّس مؤدب أنْ أترك معه عنوان سكني ورقم التلفون الموبايل. قال ستتم المقابلة ولكن على الأغلب يوم الخميس أي في نهاية الدوام الأسبوعي. بالفعل، خابر هذا الرجل وترك لي رسالة يطلب فيها مني الحضور في ساعة معينة من صباح يوم خميس. كنتُ هناك في مكتب الإستعلامات الخاص بالمفتش العام في الوزارة. طلب مني بعد حين مراجعة السيد معاون المفتش العام! علّق في رقبتي كما تقتضي الأصول ( باج ) يسمح لي بدخول حجرات الوزارة وهذا تقليد متّبع في دوائر بغداد. يأخذون الموبايل منا ويعلقون في رقابنا باجات. سألتُ عن مكتب السيد معاون المفتش العام فدلوني عليه. إنتظرتُ زمناً في مكتب السكرتيرة ثم سمحت لي بالدخول. وجدتُ مكتب المعاون مكتظاً بالزائرين. طلب مني عرض أمري فقلت له : لا نستطيع الكلام في أمر هام وأنا جالس بعيد عنك كأننا نتبادل قذائف مدفعية بعيدة المدى. إقترح عليَّ الدنو منه فجلست قريباً جداً منه. ما أنْ فتحت موضوعي حتى عاجلني بالقول إنَّ موضوعي هذا تختص به اللجنة المركزية للمفصولين السياسيين التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. طلب مني مراجعة شخص بعينه فزرت هذا الرجل وعرضت عليه أمري. رحب بي بكل أدب مع الكثير من المبالغات والمجاملات . كتب على قصاصة ورق أصفر ملاحظات وطلب مني تجديد جدول خدماتي في كلية العلوم ورئاسة جامعة بغداد ( ما زلت أحتفظ بهذه القصاصة فالرجل أنكر فيما بعد أني قابلته وإنه نصحني بتجديد جدول خدماتي ). حسب تعليماته… زرت كلية العلوم ورئاسة جامعة بغداد في الجادرية. لم يجدوا شيئاً يخصني في ملفات كلية العلوم ولا في رئاسة جامعة بغداد. كانت معي كتب رسمية أصولية بأرقام وتواريخ. كانت سيدة في غاية اللطف نظمت لي جدول خدماتي وتم طبعه سريعاً. وقعه معاون عميد كلية العلوم للشؤون الإدارية ثم حوله إلى رئيس جامعة بغداد. زودني رئيس جامعة بغداد بكتاب موجه إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي هذا نصه :
[[ جمهورية العراق
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
رئاسة جامعة بغداد
قسم الشؤون الإدارية
العدد : 41364
التاريخ : 20.12.2011
إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي / اللجنة المركزية للمفصولين السياسيين
م / إعادة تعيين
تحية طيبة :
قدم الدكتور عدنان عبد الكريم الظاهر المدرس في كلية العلوم بجامعتنا سابقاً والمنقولة خدماته إلى ملاك وزارة الصناعة والمعادن بموجب الأمر الجامعي المرقّم 18970 في 9/4/1978 طلباً يروم فيه إعادته للخدمة وإحالته على التقاعد. ونرفق لكم طيّاً خلاصة مفصلة بخدماته … مع التقدير.
أ.د. موسى جواد الموسوي
رئيس جامعة بغداد
20/12/2011
المرفقات
خلاصة خدمة
جدول خدمات
أمر إداري بالنقل
نسخة منه إلى //
ـ عمادة كلية العلوم/ إشارة إلى كتابكم المرقم 40/ 10395 في 18/ 12/ 2011. للتفضل بالإطلاع، مع التقدير
ـ قسم الشؤون الإدارية/ وحدة التدريسيين/ مع الأوليات ]].
جرت الأمور في الجادرية بسلاسة ونظام. نظمت في اليوم التالي ملفاً كاملاً يحوي كل ما لديَّ من وثائق . أخذته وتوجهت إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. قلّب شاب ( أحتفظ بإسمه ) هذا الملف فأبدى ملاحظتين غاية في السخف والإستفزاز. قال إنهم في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ليسوا ملزمين بقرارات وزارة الهجرة والمهجرين! ثم زاد فقال : إنهم لا يعترفون بشهادتي وزيرين يمثلان الحزب الشيوعي! صرختُ في وجهه أمام الملأ : إذا كنتَ لا تعترف بشهادتي وزيرين فهل تطلب مني أنْ أزوّدك بشهادة ثالثة يوقعها المام جلال طالباني ؟ لاذ بالصمت لكنه أخفى أو ضيّع الملف الضخم ثم غادر الوزارة على عجل! خرجت من طوري فصرت أتكلم بصوت عالٍ شاكياً مهدداً متوعداً حتى رقّت سيدة شابة لحالي فطلبت مني مراجعة موظف في الطابق الرابع دعته [ أبو زيد ]. راجعت هذا الرجل اللطيف المؤدب وطلبت منه البحث عن ملف معاملاتي المفقود. قال قد حمله السيد حسين صباح هذا اليوم فزره في المكتب الفلاني وقد فعلتُ. بحثوا عنه طويلاً حتى وجدوه أخيراً. جلس شاب خلف مكتبه بجد فنظم كتابا إلى وزارة الصناعة والمعادن يطلب فيه النظر في شمولي بأحكام قانون إعادة المفصولين السياسيين رقم 24 لسنة 2005 المعدل كوني منقول الخدمات . هذا نص هذا الكتاب :
[[ جمهورية العراق
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
مكتب الوزير
اللجنة المركزية لإعادة المفصولين السياسيين
العدد : 33894
التاريخ : 25/12/2011
وزارة الصناعة والمعادن / اللجنة المركزية لإعادة المفصولين السياسيين
م / طلب
تحية طيّبة …
نُحيل إليكم أوليات الدكتور ( عدنان عبد الكريم الظاهر ) رفقة الطلب المُقدّم من قبله للنظر في شموله بأحكام قانون إعادة المفصولين السياسيين رقم 24 لسنة 2005 المُعدّل كونه منقول الخدمات على ملاك وزارتكم.
مع التقدير …
المرفقات
أوليات
د. محمد عباس محسن
رئيس اللجنة المركزية لإعادة المفصولين السياسيين
25/ 12 / 2011
نسخة منه إلى :
ـ اللجنة المركزية لإعادة المفصولين السياسيين.
ـ الصادرة.
نضال / جعفر 25 / 12
كان كتاباً قوياً مُحكماً أفرحني بعد كل الذي عانيتُ وقاسيتُ في الدوائر الحكومية. ستقوم وزارة الصناعة والمعادن بتحويل هذا الكتاب مع الملف إلى مجلس الوزراء للبت فيه وسنرى. هذه هي الخطوة الأخيرة في مسيرة الألف ميل.
ما أسباب التفاوت بين وزارة وأخرى أو بين دائرة وأخرى في أخلاق وتسلكات وطرق التعامل مع المراجعين ؟ كنت ممتنا ومرتاحاً من إستقبال ومعاملة أساتذة وموظفي جامعة بغداد. إستقبلني معاون عميد كلية العلوم بالأحضان والقبل . دُهشتُ ! سألته أيعرفني ؟ نظر في وجهي مليّاً ولم يُجب .
كنتُ في بغداد (3)
عدنان الظاهر
( تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011 )
أنهيتُ رحلة المرار والعذاب وسوء الطالع بوصول الملف الخاص بي إلى وزارة الصناعة والمعادن حيث ستتولى هذه الوزارة مخاطبة مجلس الوزراء للنظر في أمر شمولي بقانون إعادة المفصولين السياسيين الذي يحمل الرقم 24 لسنة 2005 . فكّرت أنْ أرتاح لبعض الوقت وأن أرى بعض البقية الباقية من الأهل والأقارب في بغداد والحلة. زرت سرداب الأهل في مقبرة السلام في مدينة النجف . في النجف حصلت مفاجأة سارّة هي وجود قريبي الأستاذ عبد الجبار بجّاي في النجف مدعواً للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي بإعتبار النجف عاصمة الثقافة العالمية. عدنا للحلة مساء يقودنا الشاب الممتاز رائد نوري محمود القيّم بسيارته الفخمة الهايونداي. وصلنا الحلة الفيحاء فالتأم شمل الأقارب والأصدقاء نساءً ورجالاً وأطفالاً فكان أحد لقاءات العمر: بنات شقيقاتي وتوابعهنَّ وابن العم الأستاذ حمزة داوود السلمان فضلاً عن كوكبة فاضلة من رجال قضاء المحاويل. أصرّت إبنة شقيقتي الست إلهام أنْ أكون ضيفها على العشاء وكان معنا بعض الأهل والأقارب. صباح اليوم التالي جاء وفد المحاويل بسياراتهم الفارهة فأخذوني إلى هناك حيث كنت ضيف إبنة شقيقتي الأخرى الست ختام وزوجها السيد عماد عبد الصاحب وأولادها الثلاثة السادة كرّار وحيدر وعلي. كنتُ حقّاً في حلم : أيمكن أنْ يحدث هذا بعد غياب لقرابة أربعة وثلاثين عاماً؟ في المساء المبكر قرأنا الفاتحة في حسينية المحاويل على روح سيدة متوفاة ثم طلبت الإلتقاء بأصدقاء وزملاء الطفولة وكان حاضراً زميل دراستي وصديق طفولتي السيد عباس جبار السويدي. سلمت على الأستاذ محسن علي العباس الذي وقف يتقبل التعازي فالمتوفاة هي زوج شقيقه خضوري. لكم تمنيتُ أنْ أرى الصديق العزيز الأستاذ محمود رشيد الجبر لكنه ما كان هناك بين المعزين وقارئي الفاتحة لشديد الأسف. غادرنا مجلس الفاتحة فاعترضني شاب طويل القامة أجهل مَنْ هو ليسألني سؤالاً غريباً رأيته إستفزازياً . سألني أما زلتُ شيوعياً ؟ بعتب غاضب أجبته : الشيوعي لا يتنازل عن شيوعيته ! ما كان لائقاً أنْ يوجّه لي مثل هذا السؤال في مثل ذاك الموقف والمناسبة. بدل الأستاذ محمود زارني في بيت أم كرار الصديق القديم الأستاذ الحاج كاظم عبد الحمزة بنيان . جاء سوية مع الضابط الكبير المتقاعد السيد فتاح عبد الحمزة فلفتت نظري ثقافته وسعة ما يحمل من معلومات ثم شخصيته المتميزة.
مع خيوط الصباح الأولى جاء السيد رائد ليأخذني بسيارته إلى بغداد حسب ترتيب سابق. في طريقنا إلى بغداد أجرى رائد إتصالات تلفونية مع خاله الأستاذ رياض دعاني على الغداء في بيته في منطقة السيدية من بغداد. في المكان المتفق عليه وجدنا رياض في إنتظارنا مع سيارته الفرنسية. بالغ السيد رياض في كرم ضيافته وكلّف زوجه أم قائد جهوداً إضافية لا لزوم لها لكنها حميّة وحماوة العراقي المعروفة. قال ما دمتَ أكلت الباجة في مطاعم النجف فعليك أنْ تجرّب باجة أم قائد. تناقشنا وتعاتبنا ونبشنا تربة ماضينا وشربنا الكثير من ستكانات الشاي ثم قدّمت السيدة أم قائد مسبحة كريستال جميلة قالت إنها هدية لإبنتي قرطبة. أما السيد أبو قائد فقد باعني [ نعم باعني ] مسبحة يسر مكاوي بمائة دولار ! هل هو خشب اليسر يا رياض ؟ الله العالم! تقدم الوقتُ فأخذني رياض إلى الشارع العام ولم يعرض عليَّ أنْ يحملني حيث بيت إقامتي في منطقة أخرى من بغداد. أوقف سيارة تاكسي صفراء اللون ( كل سيارات التاكسي صفر عدا إستثناءات قليلة جداً ) . حدد للسائق العنوان الذي أبتغي ثم ودعني وقفل للبيت راجعاً.
زرت النجف وزرت الحلة ووعدت عائلة حلاوية كريمة أنْ أزورها لكن سقوطي مريضاً حال دون التنفيذ. لهذا السبب لم أستطع تلبية نداء قوي خفي ووعد مُعلن أنْ أزور العزيز الأستاذ حمودي الكناني في كربلاء. أصابني سعال غير مسبوق أحس معه أنْ القفص الصدري يتمزق مع آلام حادة في عظم القص وجانبي الصدر فصار نومي مستحيلاً. نزولاً عند رغبة إبنتي قرطبة حملتُ أوجاعي وأسقامي واصطحبت والدتها معي قاصدين الكاظمية لنبتاع عباءة لقرطبة تحمل مواصفات خاصة تفهمها والدتها لا أنا. كانت شوارع الكاظمية مقفلة وتحت حراسات عسكرية مشددة لضمان أمن مواكب اللطم وضاربي الزناجيل رأيت فيهم أعداداً كبيرة من الأطفال في أو دون العاشرة. لا حاجة بي للقول إنَّ بيت أم حيدر كان غارقاً بقدور الزردة والهريسة والقيمة تأتيه من كل حدب وصوب من الجيران الأقربين وسواهم من المعارف.
مع الجناح الآخر / دعتنا أرملة شقيقي المرحوم جليل لتناول الغداء في بيتها الكبير فذهبتُ بصحبة آل حيدر وكان هناك عدد كبير من الأقارب والأحباب صغاراً وكباراً مَنْ أعرف ومن لا أعرف من الأجيال الجديدة. تخللت هذا اللقاء ذكريات حزينة وأين وكيف نهرب من الحزن؟ قبل مغادرتنا بيت أرملة شقيقي تم الإتفاق أنْ يكون الغداء يوم الجمعة القادم لدى الأستاذ زهير في منطقة العطيفية.
في شارع المتنبي /
زرت شارع المتنبي مرتين تنفيذاً لتعليمات وأوامر إبنتي قرطبة . كانت متعة حقيقية أنْ أرى هذا الشارع مكتظاً بمخازن وأكشاك وبسطات الكتب على جانبيه كليهما . كذلك كان مكتظاً بالزبائن والمرتادين . دخلت مقهى الشاهبندر ـ كما أرادت إبنتي ـ فلم أجد فيه مكاناً أجلس فيه . غادرت المقهى وتسلقت دروج منتدى المدى حيث فوجئت بإحتفالية خاصة لتكريم زميل الدراسة القديم الدكتور كمال مظهر أحمد . أرجأتُ زيارة سوق السراي حتى مناسبة أخرى لأني كنتُ راغباً في زيارة أسواق الشورجة وكان بصحبتي الشاب أسامة شقيق حيدر الأصغر . ألقيت نظرة عجلى على النصب التذكاري لعبد الكريم قاسم في شارع الرشيد ثم دلفنا نجوب الدرابين باحثين عن الشورجة لنبتاع منها بعض القضايا . ساءني جداً وضع شارع الرشيد فأين شارع الرشيد زمان خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي ؟
في زيارتي الثانية لشارع المتنبي جلست في مقهى الشاهبندر وطلبت شاياً . كنت غريباً بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ . كان المكان غريباً وكان الناس غرباء كأني نزلت عليهم من عالم آخر لا يمت للبشر بصلة . عجيب شعورك يا إنسان حين تفقد الصلة والجذر بالمكان .
تركت المقهى وتمشيت في الجزء الآخر من شارع الرشيد المفضي إلى باب المعظّم قاصداً زيارة مقهى حسن عجمي وصالون حلاقة الصديق الحلاوي السيد حكمت محمود الجبوري. إقتربتُ من مقهى إعتراه الهرم والبؤس فلم أتبينه . سألت بعض مرتاديه أهذا مقهى حسن عجمي ؟ قالوا نعم . تذكرت الأوقات التي كنتُ أقضيها في هذا المقهى أيام زمان مع هذا أو ذاك من الأصدقاء وخاصة الأدباء منهم وقرّاء العشت الذين يقرأون الصحف المنتثرة على الطاولات ولا يدفعون شيئاً للطفل ( عنيّد ) المسكين صاحب هذه الصحف . سألت زبائن آخرين وأين صالون حلاقة حكمت الحلي ؟ قالوا توفي حكمت وانقلب صالونه كما ترى إلى دكان يبيع كل ما يخطر على بال . ألقيت نظرة حزينة على صالون حكمت وما فيه من ذكريات حيث كان نادياً وملتقى لأهل الحلة . واصلت التمشي صوب باب المعظم فهالني ما رأيت من حال شارع الرشيد ! سقوف مائلة وبعضها آيل للسقوط والأرصفة تعج بالبضائع حتى لا مكان لماشٍ . من ساحة الميدان خابرت أم أمثل وأخبرتها أني في طريقي إليك فهل تحتاجون شيئاً ؟ قالت إحمل معك الخبز الحار والصمون.
كنتُ في بغداد (4)
عدنان الظاهر
( تشرين الثاني ـ كانون الأول )
بغداد الغبراء الصفراء
ماذا حلَّ ببغداد أو بغذاذ أو بُغدان ؟
ما سر كل هذه الأتربة والأوساخ المتراكمة في دوائر الحكومة والدولة ؟ هل تصدق قارئي العزيز أني كنت أصبغ أحذيتي ( حملتُ معي زوجين ) مرتين في اليوم الواحد ؟ من أين يأتي هذا الغبار ؟ أما إذا أضطررت للمشي قليلاً في بعض الشوارع فالتراب يبلغ ركبتيك … ما هذه القدرة العجيبة على التسلق ضد قانون الجذب العام لنيوتن ؟ بلى ، رأيت في مناسبتين رجلين يكنسان شوارع بعض الأحياء الشعبية ولكن ما وكيف يكنسان ؟ يحولان الأتربة من وسط الشارع إلى الرصيف ليعود ثانية إلى حيث كان وأسوأ ! تنتشر أنواع الحلويات الرخيصة على الأرصفة والعربات مكشوفة تحت رحمة الذباب وتراب السماء. كذلك الفاكهة والخضرة واللحوم . لك الله يا بغداد ولكم الله يا أهل بغداد . بغداد غبراء نعم لكنها صفراء في عين الوقت . تصطبغ شوارع بغداد باللون الأصفر الشبيه بأصفر العلم الألماني ( الحمد لله ! وجدت في بغداد شيئاً يذكرني بألمانيا ) . إنه لون صفار البيض تحمله متنقلة به سيارات عجيبة غريبة إيرانية وصينية وكورية تحمل أسماء لا يعرفها جيلي . تاكسيات بغداد عالم غريب عجيب . ركبت مع سائقين مثقفين من خريجي الجامعات لم يعثروا على عمل سوى قيادة سيارات التاكسي . سائقون آخرون كانوا شديدي الفضول يكثرون من الأسئلة الشخصية جداً جداً . كنت كثير التحفظ في إجاباتي متّبعاً نصائح الأهل في ألاّ أكشف نفسي لهؤلاء . كانوا جميعاً حانقين متذمرين شاكين لاعنين غاضبين . وكنت كريماً معهم فإذا اتفقنا على أجرة مقدارها ثماية آلاف دينار عراقي أعطيتهم عشرة آلاف .
وبدون إستثناء ، لم ينقطع صوت القرآن والمقاتل الحسينية في سيارات التاكسي جميعاً . هل كنت أجرؤ أنْ أطلب من السائق أنْ يُدير أغنية ما بدل هذه الأصوات الحزينة المالنكولية ؟ مغامرة ، أجل مغامرة لا تُحمدُ عقباها يا رجل . ماذا أتذكر من تاكسيات بغداد من طرائف ؟ إتفقت مع سائق تاكسي شاب أنْ يحملني من حي أور إلى شارع حيفا في الصالحية مقابل عشرة آلاف دينار . ضيع السائق الطريق ولم يهتدِ . أوقف سيارته فجأة وطلب مني إضافة خمسة آلاف وأن أترك السيارة ! رضخت للأمر وأذعنت فسلمته خمسة عشرألف بدل العشرة وأضطررت أنْ استأجر تاكسي آخر أوصلني إلى المكان الذي أريد . ولاية بطيخ كما يسميها الصديق المحنك زهدي الداوودي أم خان جغان أم ولاية فرهود أو بلد الواق واق حسب وصف الصديق دكتور مصدق الحبيب ؟ لكم الله يا أهل بغداد ولكم ألف رب يا زائري هذه البغداد . شاعت في ستينيات القرن الماضي تسمية أحد موديلات السيارة الأمريكية ( دوج ) ب [ أبو عليوي ] أما دوج بغداد العصري والحالي فيسمونه [ أوباما ] فما الذي جعل أهل بغداد ينقلبون على أبو عليوي ليصبح الرئيس الأمريكي أوباما ؟
زحام شوارع بغداد ونواب المنطقة الخضراء /
إذا تطرقتُ للحديث عن زحام شوارع بغداد والإختناقات في مداخل ومخارج الساحات الدائرية وغير الدائرية فلسوف أحتاج إلى مجلد كامل يُضنيني ويستهلكني . إستأجرت تاكسي صباح أحد الأيام من ساحة صباح الخياط في حي أور ليأخذني إلى وزارة التربية لمتابعة قضية تخص أم أمثل . إستغرقت هذه الرحلة ساعتين ونصف بالتمام والكمال . ساعتان ونصف للإنتقال من جانب الرصافة إلى جانب الكرخ قريباً من أسوار المنطقة الخضراء. ضحكت طويلاً ذات يوم من محاولة أم أمثل للقاء بعض أعضاء مجلس النواب . تصورت المسألة سهلة متاحة ميسورة . دخلت الباب الرئيس للمنطقة الخضراء فأجلسوها في قاعة إنتظار ثم كان السؤال الأول : هل لديكِ تخويل ؟ فوجئت بهذا السؤال فاستفسرت عن معنى التخويل . أصر الحرس المدجج بالسلاح أنَّ التخويل يعني التخويل لدخول مكاتب السادة النواب . أجابت أنْ ليس معها تخويل فطلبوا منها عنوان السكن ورقم الموبايل ليتصلوا بها فيما لو أفلحوا في ترتيب هذا التخويل . إنتظرت وانتظرت سُدى فلا خبر جاءها منهم ولا ( طارش ) زارها يحمل لها البشرى . أحد هؤلاء النواب هو الذي عرض عليها أنْ تقابله في مكتبه في المنطقة الخضراء . قبل سفري للعراق بعثت للسيد الطبيب إبراهيم الجعفري إيميل مستفسراً عن إمكانية الإلتقاء به لتيسير بعض شؤوني . لم يرد السيد الجعفري علماً أنه يعرفني شخصياً وجمعتنا لقاءات في ثمانينيات القرن الماضي . كذلك طلبت من الأمانة العامة لمجلس الوزراء رقم تلفون أو عنوان أحد مستشاري السيد نوري المالكي وهو صديق ما كان يفارقني وبيتي في العاصمة الليبية طرابلس . لم يردوا عليَّ ! إنه الدكتور أحمد عبد الكريم الأعرجي أمريكي الجنسية .
حدثت مشادة كلامية ذات يوم قريباً من أبواب وزارة التربية وكنت مع أم أمثل . تركنا السيارة التاكسي سريعاً لكنَّ سائق سيارة تالية ضاق ذرعاً بالوقوف خلف التاكسي فشرع يصوّت ببوق سيارته فلم يكترث السائق الذي أقلنا . فجأة … إنفجر هذا صارخاً : إنتظر يا هوش ! ضحكنا كثيراً على هذه المسبّة فكيف تفاعل السائق الثاني معها ؟ مدّ رأسه وذراعه ثم صرخ : لا والله إنت هوش ! شتيمة جديدة ما كانت معروفة في زماننا في العراق .
كنت في الحاسبة المركزية ذات يوم . بعد أنْ أنجزوا معاملتي طلبوا مني مراجعة مديرية تموين الرصافة . سألتهم أين أجد هذه الدائرة ؟ قالوا مقابل وزارة النفط . سألتهم وأين تقع وزارة النفط ؟ قال أحدهم قريباً من مستشفى الجملة العصبية . عدتُ أسأل وأين هذه المستشفى ؟ ضحكوا ثم قالوا : جوار ضريح السيد ملا حَمَد … رأوا الحيرة في وجهي فسألني أحدهم : ومن أين جئت أستاذ ؟ قلت على الفور من أهل الكهف ! لا أعرف بغداد فقد نسيتها وضاعت مني ملامحها الخاصة والعامة وخاصة أحياؤها وأطرافها الممتدة المترامية.
رأيتُ في بغدادَ ما لم أَرَه في هذا الكون : سيارات تحمل لوحات أرقامها باللون الأبيض وأخرى باللون الأسود ثم الأحمر … أما الفئة الأخرى من سيارات بغداد فأعجب من العجب : سيارات تجوب الشوارع لا تحمل لوحاتٍ أصلاً [[ هب بياض ]] بلغة أهل الآزنيف . أفهمني بعض سائقي سيارات التاكسي أنَّ أرقام بغداد تُباع وتُشترى بمبالغ كبيرة لذا فبعض القادرين يبتاعون سيارات من إقليم كردستان وبالفعل ، لفت نظري وجود سيارات فارهة من أحدث الموديلات تحمل أسماء مدن كردستانية مثل السليمانية وأربيل ثم دهوك بدرجة أقل . كما رأيت سيارات تاكسي باللون الأصفر إيّاه تحمل لوحات عليها أسماء محافظات عراقية شتى مثل أربيل وبعقوبة والأنبار وبابل وكربلاء . تساءلت فأوضح لي صاحب إحدى سيارت التاكسي أنْ لا من مانع في تشغيل سيارة التاكسي في بغداد بصرف النظر عمّا تحمل من لوحات التسجيل !
الكهرباء في بغداد /
هناك ثلاثة ـ أربعة أنواع من الكهرباء في بغداد . الكهرباء الوطنية وكهرباء الشارع ثم الكهرباء الخاص الذي تزوده ماطورات ( مولّدات ) صغيرة خاصة منصوبة في حدائق البيوت تعمل بالبنزين . في بعض البيوت نوع رابع من الكهرباء يسمونه العاكس فضلاً عن أنابيب النيون التي تنير البيوت ليلاً بواقع أنبوب واحد في كل بيت . تدفئ العوائل بيوتها بدفايات نفطية وكهربائية . أظن إنَّ الكهرباء الوطنية تصل البيوت لست ساعات في اليوم ( 24 ساعة ) وربما أكثر من ذلك بقليل . صعدتُ مصعد إحدى العمارات صباح أحد الأيام فما أن تحرك المصعد صاعداً بي إلى الطابق الرابع حتى توقف كهرباء الوطنية وبقيت عالقاً لقرابة نصف ساعة في المصعد في ظلام دامس . كنت أدقُّ باب وجدران المصعد بعنف طالباً النجدة ولكن لم يسمعني أحد من سكنة العمارة الضخمة . فقدت قواي وجف فمي ولساني فأعددت النفس للمصير المحتوم . إستأنفت الضرب على الجدران بكفيّ حتى سمعتني سيدة فطلبت مني الإنتظار قليلاً . لم أصدق قولها . كنت كالفاقد وعيه . بعد بضعة دقائق جاء الكهرباء ( الوطني ) وتحرك المصعدُ لأجد نفسي على الطابق الأرضي بين الموت والحياة. كانت هذه تجربتي مع الكهرباء الوطنية التي أوشكت فيها أنْ أفقد حياتي لأنني كنت أجهل متى تأتي هذه الكهرباء ومتى تتوقف . عيش وشوف … عشنا وشفنا وبعد نشوف … لعزيز علي .
النفط متوفر والبنزين متوفر وكذلك إسطوانات الغاز ولكن … أكل الناس قادرين على تأمين هذه الحاجات الأساسية لإدامة الحياة ؟ الخبز والصمون الجيدان متوفران على الدوام . اما فطور الصباح الذائع الصيت في العراق فزمنه محدود ينتهي في الصباح الباكر . أقصد القيمر والكاهي والبورك . أكلت كيمر الجاموس أربع مرات حتى شفي غليلي . سعر الكيلو عشرون ألف دينار . كانت أمنية كبيرة أنْ أفطر ذات يوم بكيمر جاموس معدان العراق . أما دبس التمور العراقية فقد كان متاحاً مع الشلغم المطبوخ به . أكلات كثيرة كنت أتمناها فوجدتها في بيوت الأهل والأقارب يقدمونها بسخاء خاصة السمك المشوي وكباب السوق المشوي وغير ذلك . لحوم الغنم والبقر غالية فسعر الكيلو 15 ألف ديناراً أي حوالي 15 دولاراً للكيلو الواحد صحيحاً أو مفروماً سواء . أشد ما كان يسؤوني في شوارع بغداد رؤيتي لرجال ونساء يستجدون ما بين السيارات مجازفين بحيواتهم ومصير مَن سيتركون خلفهم فيما لو قتلتهم سيارة مارّة بسرعة . كذلك لم تكن لتخلو هذه الشوارع من الباعة الجوالين صغاراً وكباراً يعرضون رخيص البضاعات على راكبي السيارات الخاصة والتاكسي . الحاجة تُلجئ الناس إلى قبول الخطر ومعايشته حتى يكون جزءاً من الحياة .