قراءة سياسية-اجتماعية لمسرحية “جزاء مينالي” للكاتب المسرحي ماجد الخطيب
مسرحية في ثلاث فصول
كاظم حبيب
اسم الكاتب: ماجد الخطيب
اسم الكتاب: مسرحية “جزاء مينالي” في ثلاثة فصول
اسم دار النشر: دار الرواد المزدهرة، بغداد-العراق
سنة النشر: 2021
عدد صفحات الكتاب: 136 صفحة
المدخل: عن الكاتب
ولد الكاتب ماجد الخطيب في مدينة البصرة، جنوب العراق، حيث شط العرب، ملتقى دجلة والفرات، حيث يصب في الخليج العربي، وحيث النخيل وبساتين الفاكهة الغناء، وموطن التراث الفكري والأدبي والفني والسياسي المميز والحركة الاجتماعية النشطة، حيث ترعرع فيها، وتربّى على روح المدينة النضالية ضد كل أشكال الاحتلال والقهر والاستغلال في أحضان شعب متحفز وضمن عائلة مناضلة ضد الاحتلال العثماني ومن ثم ضد الاحتلال البريطاني للعراق. حين غادر العراق استبطن الوطن كله، بتراثه التقدمي منذ حضارة العبيد ومروراً بالسومريين والأكديين والكلدان والآشوريين وانتهاء بالحضارة الإسلامية والعربية في هذا العراق المتعدد الأقوام والديانات والفلسفات والأفكار والثقافات والمواقف، بألآمه وأحداثه، بمآسيه وكوارثه، بأفراحه وأتراحه، بطموحات وتطلعات شعبه للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقلال والسيادة الوطنية، بشعبه المغلوب على أمره. فتجلى ذلك في حياته اليومية ونشاطه وما يكتب.
يعيش الكاتب منذ عقود في المهجر، في الشتات العراقي، ولكنه شديد الصلة والارتباط بالوطن والشعب وبالدول العربية. ويتجلى كل ذلك لقرائه وقارئاته في خياراته، ككاتب وصحفي وكاتب مسرحي ومترجم، في الموضوعات والأحداث التي كتب فيها مسرحياته أو التي قام بترجمتها، وكذلك في روايته الموسومة “درويش”، التي تتحدث عن نضال عائلته، ضد المحتل العثماني المتخلف والظالم منذ نهاية القرن التاسع عشر، وضد المحتل البريطاني مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
صدرت للكاتب ماجد الخطيب 12 مسرحية أصيلة، و11 مسرحية مترجمة، وكتاب عن الشاعر الألماني هاينرش هاينه بعنوان “روح الشعر الألماني” ورواية واحدة بعنوان “درويش” التي تجري أحداثها في مدينة البصرة.
تسنى لي قراءة مجموع كبيرة من مسرحياته الأصيلة وتلك المترجمة وكذلك روايته درويش وكتاب هاينرش هاينة. كتبت ونشرت عن العديد منها. وكانت متعتي واهتمامي بمضامين ما كتب، لاسيما اختياره موضوعات مهمة ذات وجهة اجتماعية سياسية ناقدة وساخرة أحياناً ودرامية في الغالب الأعم لمسرحياته، هي التي دفعتني إلى الترحيب بما يكتب وينشر ومحاولة الكتابة عنها والتعريف بها التشجيع على قراءتها أو مسرحتها.
يستفيد الكاتب في نصوصه المسرحية ويسخر أحداثاً تاريخية وأساطير قديمة لشعوب عدة في توليفة موفقة مع الأحداث المعاصرة، لمنح قراءه وقارئاته فرصة التأمل والتفكير وربما التأويل ايضاً، إنها أحداث زمكانية ونافية للزمان في آن واحد. كما يختار ويوظف اللغة الحوارية بشكل أساسي للوصول إلى عمق المشكلة التي يعالجها في نصه المسرحي. لغته رشيقة وسهلة وتصل إلى القارئات والقراء بيسر، إذ يخضع الكلمة المنطوقة لمبتغاه ويسهم في توفير فرصة مناسبة لإبداع المخرج لفي إملاء الفجوات المحتملة في نصوصه، وبالتالي يمكن أن نجد إبداع النص وإبداع المخرج في توليفة ناجحة على المسرح.
قراءة في النص المسرحي
موضوع المسرحية قديم ومعاصر، موضوع متجدد باستمرار، فكان حاضراً في عراق البابليين والآشوريين ومصر الفرعونية، وفي الدولة الساسانية والرومانية والإغريقية، في عهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين والصفويين، في الدولة العراقية الحديثة في عهودها ونظمها السياسية المختلفة، كما يمكن أن نجد هذه الظاهرة التي يبحث فيها الكاتب في جميع دول العالم. إنها العلاقة المعروفة بين الحكم والدين، بين الحاكم وكهنة الأديان وشيوخها. وإذ كانت العلاقة في الغالب الأعم تقوم على أسس التنسيق والتعاون والتحالف بين الطرفين، الحاكم وكهنة الدين، كانت تشير أحياناً إلى صراع بينهما لا يدور حول تحقيق مصالح الشعب، بل لمن تكون الغلبة في تأمين أقصى المكاسب وفي الهيمنة على الشعب. ويقدم لنا تاريخ العراق القديم والحديث نماذج صارخة في التحالف الطويل بين جبروت الحاكم الطاغية وعنف كهنة المعبد، أو بين الخليفة أو السلطان أو الملك أو رئيس الجمهورية أو الأمير من جهة، وشيوخ الدين من جهة أخرى أو في الصراع بينهما حول توزيع المصالح بينهما على حساب الفرد والمجتمع.
ولكي يمنح ماجد الخطيب لنصه المسرحي هذه المسحة العامة أو سمة الشمولية الفعلية والواقعية، التي نجدها شاخصة في كل العهود المنصرمة وفي الوقت الحاضر، اعتمد توليفاً أو تعشيقاً ناجحاً لتراثٍ متنوعٍ من مناطق مختلفة من العالم، وثلاثة كهنة من ثلاثة ديانات، سواء أكانت الديانات الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، أم ديانات ثلاثة أخرى أو أكثر في العالم، وسواء أكانت الكونفوشيوسية والبوذية والهندوسية مثلاً، أم الديانات التي سبقت الديانات الإبراهيمية، ومنها الزرادشتية والمانية والزرفانية…إلخ. استوحى من البلقان الأسطورة الرومانية “أسطة مانوله”، ومن العهد الجاهلي اسطورة الصنم نسر وما تعرض له معبده من تهديم، ثم من العرب واقعة “جزاء سنمار”، هذا المعماري البيزنطي الذي هو الوحيد الذي حدد إمكانية انهيار قصر الخورنق، فجوزي برميه من أعلى سطح القر ليقضي نحبه، فكان نصه المسرحي الحديث بمسحة تراثية ميثولوجية ودرامية هادفة بعنوان “جزاء مينالي”.
تتجلى في النص المسرحي ثلاثة أنواع من الصراعات السياسية والاجتماعية التي تكشف عنها الحوارات الجارية بين أطراف المسرحية حيث تدور حول المصالح الأساسية لكل طرف من الأطراف الثلاثة التالية: الحاكم الدكتاتور، وكهنة الديانات الانتهازيين، والمهندس والعمال الذين يبيعون قوة عملهم وينتظرون ينتظرون أجورهم؛ والصراع الثاني يدور بين الجهلة وحاملي الخرافات والأساطير، وبين العلم والمعرفة والخبرة المكتسبة في العمل، والتي محورها الكهنة والحاكم من طرف، والمعماري المصري الخبير الذي يعتمد العلم والمعرفة والخبرة المديدة في بناء العمارةـ أي بين من يعتقد بأن الأرض مسكونة بالصنم نسر الذي ينتقم لنفسه بانهيار البناء بعد اتمامه وبين المهندس الذي يرفض هذه الفرية وادعاء؛ والصراع الثالث يدور بين الحب الذي لا يعرف حدوداً جغرافية أو تمايزاً دينياً أو تبايناً اجتماعياً بين البشر، وبين التقاليد والعادات والتزمت الديني، وبالملموس بين الحب الذي يجمع البنت العمياء الجميلة والمغنية البارعة والمهندس الشاب الفقير والعاشق الراغب في الزواج منها من طرف والأب الذي يرفض تزويج بنته بسبب الاختلال في الدين والجغرافية.
ولكن أين يكمن عمق الإشكالية في هذا النص المسرحي؟ إن الكاتب يضعنا وجهاً لوجه أمام المسألة الأكثر أهمية التي نشأت وتنشأ عنها الصراعات المتنوعة، إنه أسلوب الحكم ومعه أسلوب كهنة الذين، فكلاهما يمارس قاعدة “الغاية تبرر الواسطة. فهما هنا متحدان الحكم والدين في أسلوبهما: التآمر والكذب ونشر الخرافات وممارسة العنف، بما فيه القتل لتحقيق الهدف المنشود، وهنا القصر، ولكن في حقيقة الأمر هو الحكم ذاته وبنيته الأساسية. فالتخطيط لمؤامرة قتل يتم تنفيذها باتفاق مصلحي مشترك بين الحاكم وكهنة الدين، حيث تقتل المغنية العمياء بدفنها وهي حية، وقتل عاشقها المهندس الشاب الفقير أيضاً، وهنا يقتل الحب أيضاً على أيدي الطاغية وعنف الكهنة. إنها واحدة من أبرز سمات الحكم المستبد وعنف الكهنة المخادعين منذ القدم وحتى الآن.
هل يبتعد هذا النص المسرحي عن واقع العراق الجاري منذ 18 عاماً، دع عنك الفترات والعهود السابقة، أم أنه يشخص بوضوح العلاقة التحالفية المتفاعلة بين المرجعيات والمؤسسات الدينية والحكم القائم في العراق، ففيه ما يؤكد على وجود توزيع أدوار تنافس على المواقع، ثم الاتفاق على مواجهة قوى المعارضة من خلال تشويه سمعتها وممارسة العنف، بما في ذلك إشعال الحرائق والاختطاف وقتل نشطاء معارضة النظام السياسي الطائفي الفاسد والمستبد والسير في جنائزهم أو أرسال التعازي لذوي الشهداء!!! لقد برهنت الأحداث الجارية في العراق عن الدور الذي تمارسه أحزاب الإسلام السياسي، الشيعية منها والسنية وعموم الفكر الديني، في ممارسة الخديعة والشعوذة والتمييز بين البشر والتنسيق والتعاون والتحالف التأمري فيما بينها للوقوف بوجه قوى المعارضة والقوى المدنية السلمية والديمقراطية الراغبة في التغيير والساعية إليه. أنه تحال الفكر الديني والظلامي لشيوخ الدين بالفكر الاستبدادي للحاكم الظالم.
كتب النص المسرحي بأسلوب سلس وحواري يبدأ الإنسان بقراءته ولا يتوقف حتى ينتهي منه ليواجه المغزى الواضح والجريء في كشفه عن أجواء وممارسات التآمر والخديعة والزيف التي تجري وراء الكواليس ضد العلم والمعرفة، لصالح تكريس الجهل والخرافات والشعوذة والسحر، والتحالف المستتر والمكشوف بين كهنة الدين والحاكم الظالم وضد العلم والمعرفة ومصالح الإنسان والمجتمع.