سركون بولص الشاعر الذي وصل بيروت مشيا على الأقدام
جميل حسين الساعدي
(( يمكنك أن ترمي بمفتاحك في البحر، طالما أنّ القفلَ ليس في الباب ، ولا الباب في البيت ، ولا البيت هناك )) .
هذه الكلمات قالها الشاعر سركون بولص ، بعد أن غادر العراق في رحلة طويلة شاقة قاطعا ًمئات الكيلومترات مشياَ على الأقدام ، قاصدا بيروت لينطلق من هناك إلى أثينا ولندن وبرلين وسان فرنسيسكو. هناك عند صخرة الروشة ــ صخرة الحب ـ كما يحلو للبنانيين أن يسمّوها ـ وقف الشاعر متأملا في الأمواج ، ماذا كان يدور في رأسه في تللك اللحظات ؟ هل كان يفكر بأن يرمي مفاتيح منزله في البحر ؟ ولِمَ لا ؟ فما معنى أن يحتفظ بمفاتيح منزل في وطنٍ تحوّل إلى سجنٍ كبير ! لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى ، ولم يعُدْ من وجود لذلك المنزل ،الذي يحنّ إليه ويواسي نفسه بأنّه ذات يوم سيعود إليه بعد أن اقتلعت العاصفة الهوجاء كلّ شئ وحلّ الخراب في الوطن من أقصاه إلى أقصاه. لا عليك أيّها البحر ! كلّ شئ في أوانه . اليوم ستخرج المفاتيح من مخبئها لتستقر في قاعك وغدا بعد أن تطأ الأقدام برّ الأمان سيقذف بالجواز لتحمله أمواجك بعيدا عن أعين الرقباء في المطارات والموانئ.. ما أثقلها على النفس هذه الأشياء الصغيرة ؟ لا بدّ من التخلص منها !
كان على الشاعر أن يواصل سفره ، وأنْ يغيّر المحطّات باستمرار ويجتاز الحدود تلو الحدود كان هنالك سؤال كثيرا ما كانت تطرحه عليه نفسه بإلحاح كلما أحسّ بالتعب والضيق وهو: إلى أين سيقودك الطريق ؟ ، لم يكن بمقدور الشاعر أن يجيب على هذا السؤال ، وهو ما زال في بداية الطريق، لكنه بعد سنين طويلة من حياة المنفى ، تأكّدت له حقيقة عبّر عنها بوضوح واختصرها في هذه الكلمات : (( البدءُ نختاره ، لكنّ النهاية تختارنا، وما من طريق سوى الطريق)) .
الشاعر سركون بولص من الرموز الرائدة والمهمة في كتابة قصيدة النثر، التي لم تحل بينه وبين كتابة أشعار موزونة . فهو متمكن من بحور الشعر العربي وقوافية ، لكنه وجد أنّ قصيدة النثر تفتح له آفاقا أرحب للتعبير عما يدور في ذهنه من أفكار وما يعتلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس ، خصوصا وأنه كان معاصرا لحركة حداثية في الشعر اتخذت من مجلة شعر منبرا لها ، والتي كان من أبرز شعرائها أنسي الحاج .
knife Shapener الصادرة بالإنكليزية في نيسان من العام 2007 بعنوان في مجموعته الشعرية
والتي تشتمل على مقالة ترجمها الى العربية خالد الجبيلي يفصح الشاعر عن مكان ولادته وأصله الآشوري بهذه الكلمات: (( ولدت في بلدة صغيرة تدعى ( الحبانية) في وسط صحراء لم يكن يعيش فيها إلا البدو والماعز لذلك كان للبحيرة الاصطناعية التي شيدت حولها البلدة تأثير كبير على حياة السكان الذين جلهم من الآشوريين الذين جلبهم البريطانيون إلى هذه المنطقة بعد أن ذبحت عائلاتهم وطردوا من ديارها )) .
ثمّ يضيف في موضع آخر قائلا: (( بعد فترة من الزمن غادرنا الحبانية وانتقلنا إلى كركوك المدينة التي تقع في شمال البلد والتي لم يكن يوجد فيها ماء تقريبا سوى نهر صغير يظلّ جافا طوال تسعة اشهر في السنة ثمّ تفيض ضفتاه فجأة)) ، ويضيف واصفا سكانها : (( وكان جلُّ السكان الذين يعيشون في هذه المدينة من التركمان الذين كان يعيش العديد منهم في قلعة قديمة يلفها الغموض ـ كأنّك تواجه التأريخ هناك كلّ يوم)). إنّ التأريخ الآشوري والأرمني والتركماني والكردي والعربي متداخل وقد صُبّ في قالب.
واحد مثل برج بابل هائل. لذلك فإني عندما أكتب قصائدي باللغة العربية التي هي آشورية ( آرامية وسريانية) بنسبة سبعين في المائة، اشعر بانني أردد كلّ هذه الأصوات ، لأنني أعتقد بأنّ أيّ لغة تحتوي على جميع مسارب ذاكرة المجتمعات التي ساهمت فيها ولا يمكن أن يضيع أيّ شئ منها على الشاعر ـــ نفس المصدر السابق ترجمة خالد الجبيلي ــــ .
من المعروف عن الشاعر سركون بولص أنّه كان يتردد كثيرا على برلين وقد شاء القدر أن يتوفى فيها لا في المدينة التي حظّ فيها رحاله آخر المطاف وجعلها محل إقامته ـ سان فرنسيسكو ـ المدينة التابعة لولاية كاليفورنيا الأمريكية والتي تمثل مركزها الثقافي والمالي والتجاري بعد أن طاف في مدن كثيرة يسامر الذكريات في ليالي المنافي الباردة.
في برلين جمعتني لقاءات عديدة بالشاعر الراحل سركون بولص أولها في العام 2002 على ما أتذكر في مقهى . كان في حوزتي آنذاك كتاب هو (( مختارات شعرية مترجمة عن الإنجليزية)) للأستاذ توفيق علي منصور من مصر، فتحت الكتاب فوقع بصري صدفة على قصيدة ( رثاء الأبرياء ) لوليم شكسبير ، بدأت في القراءة فسرح سركون بأفكاره بعيدا وهو يتأمل في معاني القصيدة ، وكأنّه كان هو المعنيّ بتلك القصيدة . لم أكن أعلم بعد أن مرّت سنوات على ذلك اللقاء ، أنني سأرثي سركون بقصيدة على نفس الوزن والقافية ، التي اعتمدها المترجم آنذاك في نقل قصيدة شكسبير إلى العربية.
اعتمد المترجم توفيق علي منصور بحر الرمل وقافية الهمزة في نقل النص الشعري ، لكنه مزج تفعيلات بحر الرمل بتفعيلات بحور أخرى فجاءت أبيات كثيرة غير موزونة. وأدناه القصيدة كما وردت في الكتاب:
رثاء الأبرياء لوليم شكسبير
ترجمة توفيق علي منصور
لا تضقْ همّــاَ بلفحــــات ذكـــــــــاء
أو تخفْ بعدئذٍ عضّ الشتــــــــــــاء
فنهايــة عمــــرك اليــــــــــوم ثواب
إذْ هجرتَ الأرضَ من أجل السمــاءْ
سوفَ يدفنُ في الترابِ الأثريــــــاءْ
مــنْ شبـــــابٍ أو كهولٍ فقهــــــــاءْ
حيثُ يرقــدُ ذو الثيــــابِ الذهبيــــة
جنبَ صنـــــوٍ من شباب الفقـــــراء
***
لا تخــفْ من بعدُ سطوِ الأقويـــــاء
حينِ تنأى من عذاب الأشقيــــــــاء
لســــتَ محتاجاَ لثوبٍ أو طعـــــام
فهنــــاك يماثلُ القشّ اللحـــــــــــاء
صولان الملك رمــز العظمـــــــاء
والعلــــــــوم وكلّ ما يشفي البلاء
يحتويها الخلدُ حتمــــاً في النهــاية
حيــث تلقاهــــــا بدار الشهـــــداء
***
لنْ يخيف البرقُ إلّا الضعفـــــاء
لنْ يصمّ الرعـــدُ سمعَ الأذكيـاءْ
لنْ يضيــركَ أيُّ زجـرٍ وافتـراء
لنْ يفيـــــدكَ أيّ مدحٍ أو رثـــاء
كمْ حبيــبٍ مـن أناسٍ سعـــــداء
عشقــوا الدنيا كعشــق الأوفيـاء
ثمّـــَ عادوا للحيــاة السرمديّــــة
لبسوا تحت الثـــرى ثوب الفناءْ
***
لنْ يلاحقكَ المشعـــوذُ بالهـــراء!
أو يذيبُ السحرُ قلبكَ في الهباء!
أوْ تدورُ برأسكَ الأشباحُ حيرى !
فلتطبْ عيشاَ بدنيــا الرحمــــاء!
غاية حققتها فيهــــــا الهنــــــاء!
فليكنْ لحدكَ قصـــد الشرفـــاء !
فهوَ معـــــروفٌ لكلّ الأصدقاء
ينشدونَ له رثاء الأبريـــــــاء!
في الثاني والعشرين من تشرين الأول من العام 2007 ، وبعد صراعٍ طويلٍ مع المرض في أحد مستشفيات العاصمة الألمانية برلين ، غادرنا الشاعر سركون بولص الى عالم الخلود . كان لرحيله أثرٌ كبير في نفسي فرثيته بقصيدة سميتها ( وداعا أيتها البسمة ) ، ألقيتها في الأمسية الأدبية ، التي أحياها ــ صالون حوارات برلين الأدبي ــ في مقر المعهد الثقافي العربي في برلين بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الشاعر وهذا هو نصّ القصيدة:
وداعا أيتها البسمة
سألتني ذات يــومٍ باستيــــــاء
أيّ شئ ٍ قـدجنـــــــاهُ الشـــــعراءْ
عشـــتمُ الآلام والفقــر ّ معـــــا ً
وسواكــــمْ عاش ّ في دنيــا الثراءْ
قلتُ مــَنْ تعنينهــمْ لــمْ يملكــوا
فعبيــــــد ُ المــالِ ليســـــوا أغنياءْ
أشكـــرُ اللهَ بأنَــــي شـــــــاعر ٌ
قدْ تقاسمــــتُ معَ الطيْـــرِ الغنــاءْ
وتعطّــرتُ بأزهــارِ الربـــــى
وتوهجتُ بنجمـــــاتِ المســـــــاءْ
كلّ ما حولـي َ حباني سحْـــرهُ
فجمـــالُ الأرضِ مُلكـــي والسماءْ
عمُــري شعري الذي أكتبـــــهُ
عِشــتُ أوْ متُّ همــا عنـدي سواءْ
شعـــــراءُالروحِ أحيــــاءٌ وإنْ
حُجبـــــــوا عنّا بأستارِ الخفــــــاءْ
نتغــذى نحنُ بالمـــوتِ الذي
لمْ يّزلْ يحسبنــــــا نخْنُ الغـــــذاءْ
***
أيّهــــا الشاعرُ ما أروعهـــا
بسْمـــــــة ً لم تنطفئْ رغْــمَ العناءْ
زمنٌ خلفــك َ قاسٍ مُتْعِـــب ٌ
وجــــــــراحٌ لمْ يلامسْــــها الشفاءْ
مدنٌ تسألُ عـــن أبنائــــــها
وقرىً تحلُمُ دومـــا ً دومــا ً باللقاءْ
والمحطّاتُ التي غصّت بنا
حمّلتْ أوجهنــــا ألف َ طــــــــلاءْ
ما عسى أكتبُ عنْ أحوالنا
أيّ وصـفٍ ســوف َ أُعطي للشقاءْ
عندمـــا تقذفـنـا أقدارنـــــا
كلّ حيـنٍ فـــي بــلادٍ وفضـــــــاءْ
تصبحُ الأوطانُ طيفا ً عابرا
ويصيـــرُ الأهلُ مثْـل َ الغربـــــاءْ
***
شــاعرٌ طافَ بعيـدا مثلمــا
يرحلُ الغيمُ بعيــــــدا ً في السمـاءْ
صامتــا ً تسكنُ فـي أعماقهِ
لغــــــــة ٌ أحرفُهـــا نورٌ ومــــــاءْ
شـــاعرٌ خبّأَ فــي معطفِـــهِ
صــــــورة ّ الأمّ وتبْغـــــا ً ودواءْ
زادهُ فــي سفرٍ لمْ يبْغِــــــه ِ
إنّمـــــا قرّرهُ حُكْــــــم ُ القضـاءْ
هلْ وفينا حقّهُ حيــن ّ مضى
آه ِ ما أنْدره ُ هــذا الوفـــــــــاءْ
لمْ يكنْ حين َ نعينـاه ُ ســوى
حامل النعْش ِ وبعض الأصدقاءْ
آهِ مــا أفظعّـــه ُ مِنْ زمــن ٍ
جِين َ لا تظفرُ حتّـــــى بالعزاءْ