حول المليشيات الولائية مرة أخرى
د.عبدالخالق حسين
بعد نشر مقالي الأخير الموسوم: (أسلم طريق في مواجهة المليشيات المنفلتة)(*)، وكالعادة استلمت العديد من التعليقات بين مؤيد ومعارض. والملاحظ أن أغلب المعارضين هم من مؤيدي إيران بشدة، ويعتبرون أي نقد لها وللمليشيات الولائية يعني عمالة لإمريكا والصهيونية. والغريب أن معظم هؤلاء يعيشون في الدول الغربية التي وفرت لهم الأمن والكرامة، ويشتمونها ليل نهار. والأغرب أن معظم هؤلاء رغم أنهم يدعون أنهم كانوا مضطهدين من قبل حكم البعث الصدامي، ولكنهم يكيلون الشتائم ليل نهار ضد أمريكا التي أسقطت لهم أسوأ نظام جائر في التاريخ، ويباركون إيران ونظام ولاية الفقيه والمليشيات العراقية الموالية لها، رغم أن إيران شأنها شأن السعودية والدول العربية الأخرى، وقفت ضد إسقاط النظام الجائر لإبقاء العراق ضعيفاً وشعبه يعاني من الحصار الاقتصادي وثرواته النفطية معطلة….
فهل سأل هؤلاء أنفسهم، لماذا أكثر من 67 مليشيا بدلاً من أن تتوحد بتنظيم واحد، وبقيادة واحدة رغم أنها موالية لإيران؟
السبب في رأيي لأن إيران تريدهم متفرقين لكي يسهل عليها ضرب بعضها ببعض فيما لو شقت أية منها عصا الطاعة على الولي الفقيه، يعني أن تضرب واحدة بالأخرى عند الحاجة.
والسؤال الآخر هو: هل وجد هؤلاء الذين يرون سلامة العراق ببقاء هذه المليشيات التي أطلقوا عليها (الحشد الشعبي المقدس)، هل رأوا أية دولة تفشت فيها المليشيات استطاعت أن تحقق الأمن والإستقرار والإزدهار الاقتصادي لشعبها؟ خذوا سوريا ولبنان و اليمن “السعيد” كمثال.
السبب الوحيد الذي يتمسك به هؤلاء كتبرير لبقاء “المليشيات الولائية” هو كإجراء احترازي ضد عودة الإرهاب الداعشي كما حصل في حزيران/يونيو عام 2014.
أؤكد لهؤلاء أن العراق اليوم هو ليس عراق عام 2014 عندما سلَّمت الحكومات المحلية في المحافظات الغربية مناطقها للدواعش دون إطلاق رصاصة واحدة، رغم وجود نحو 60 ألف من عناصر القوات الأمنية التي لم تحرك ساكناً إزاء هذه المهزلة بسبب خيانة ضباط قياديين من تلك المناطق نكاية برئيس الحكومة المركزية نوري المالكي لأنه شيعي؟ والعديد من هؤلاء الضباط التحقوا بداعش. واليوم صارت هذه المليشيات تهدد أمن وسلامة الدولة العراقية لا تقل خطورة عن داعش، خاصة وأن ولاءها لإيران وليس للعراق، لذلك فهذه المليشيات صارت مشكلة وليست حل.
فالعراق اليوم يمتلك قوات مسلحة منضبطة، عدد أفرادها يفوق المليون، مجهزة بأحدث الأسلحة، وملتزمة بالانضباط العسكري الصارم ، بإمكانها سحق (داعش)، أو أية عصابة تتمرد على الدولة بما فيها المليشيات الولائية. ولكن الحكومة لم تقم بمواجهة المليشيات المتمردة، وتتحمل إهاناتها لأنها تريد حل المشكلة بدون إراقة دماء، وعسى ولعل أن يعود قادة هذه المليشيات إلى رشدهم. فكما أكدنا مراراً أن المليشيات التي يدافعون عنها هي ليست من الحشد الشعبي الذي تأسس استجابة لفتوى السيد السيستاني. فعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وربع الله، و(جيش المهدي) الذي غير اسمه إلى (سرايا السلام)، وعشرات غيرها، كانت موجودة قبل فتوى الجهاد الكفائي، وبعضها تأسست حديثاً. وهؤلاء أصلا ضد السيد السيستاني، وحتى ضد (الحشد الشعبي)، الذي تم دمجه مع الجيش بقانون.
وكنتُ قد ناشدتُ في مقالي الأخير(*)، سماحة المرجع الأعلى بإصدار فتوى ثانية لحل هذه المليشيات الولائية لأنها راحت تهدد أمن وسلامة الدولة. فوصلني تعليق جاء فيه: “لا أتفق أن اصدار الفتوى سيحل هذه المعضلة الكبيرة. فالسيستاني سبق وأن عبر عن توجيهه بهذا الشأن وهو حصر السلاح بيد الدولة أكثر من مرة، لكن دون فائدة. هذا مخطط كبير للجارة إيران ولن يتخلوا عنه بسهولة.” انتهى.
ولكن يبدو أن هناك سوء فهم من قبل غالبية الناس بمن فيهم كاتب السطور، لمضمون فتوى السيد السيستاني الأولى. فقد جاء ذلك في تعليقين للسيد ثائر عبدالكريم مشكوراً، على مقالي في (صحيفة المثقف الإلكترونية)*، وهو متابع جيد، ومطلع على الأمور، اجتزئ منه ما يلي:
((ما ورد في خطبة الجمعة لممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في (14/ شعبان /1435هـ) الموافق ( 13/6/2014م )، ادون الجزء الذي يدعو فيه ممثل المرجعية للتطوع و الانخراط في “القوات الامنية” و ليس لتأسيس “جيش موازي للجيش العراقي” و خارج عن التغطية. وهذا هو نص كلام السيد الكربلائي:
” ومن هنا فان المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الارهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية”. ويضيف الأخ ثائر عبدالكريم: “الفتوى واضحة وضوح الشمس من انها تدعو الى تطوع العراقيين للدفاع عن وطنهم، و ذلك بالانضمام الى “القوات الامنية” فقط – اي وزارتي الدفاع و الداخلية- و ليس لتأسيس جيش آخر موازي للجيش العراقي و القوات الامنية الاخرى، و لكن يأخذ أوامره من وراء الحدود.” انتهى الاقتباس.
ونفهم من كل ذلك أن المرجع الديني الإمام السيستاني لم يدعو إلى تشكيل مليشيات مسلحة مستقلة عن الدولة، وتحت أي مسمى، أو تأتمر بأوامر دولة أخرى باسم الدين والمذهب، بل دعى إلى التطوع في القوات المسلحة التابعة للدولة. وكما جاء في تعليق قارئ آخر أشرنا إليه أعلاه، أن المرجع قال مراراً: “أن السلاح يجب أن يكون بيد الدولة فقط”.
ومن كل ما تقدم، نعرف أننا ربما لا نحتاج إلى فتوى ثانية لحل هذه المليشيات المنفلتة، وإذا أصدر السيد الفتوى الثانية فهي خير على خير لإبطال حجج قادة المليشيات. فكل ما نحتاج إليه هو أن القائد العام للقوات المسلحة أن يستفيد من الفتوى الأولى ويعيد نشرها على الشعب، ويوضح لهم أن الفتوى لم تدعو إلى تشكيل مليشيات، بل دعت إلى التطوع والانخراط في القوات الأمنية. وهذا يعطي المبرر للحكومة أن تحل المليشيات الولائية وغير الولائية التي تريد جر العراق إلى مواجهة انتحارية مع أمريكا وحلفائها.
فهذه المليشيات وبأوامر الولي الفقيه، تريد عزل العراق عن العالم، وتحويله إلى محافظة تابعة لحكم ولاية الفقيه، وأغلب العراقيين يرفضون ذلك. أما تبرير وجودها عن طريق إثارة الخوف من عودة (داعش)، وأن السنة سيبيدون الشيعة بدعم خليجي، فهذه المخاوف وهمية لاتخاذها ذريعة لإبقاء هذه المليشيات تستنزف الطاقات الوطنية، وتواصل قتل العراقيين، و تدمير الدولة العراقية وجعلها مستعمرة إيرانية وسوقاً لبضائعها، وتعطيل المعامل العراقية، وترك الغاز الطبيعي العراقي يحترق، ويستورد العراق الغاز والكهرباء من إيران.
كذلك هناك حملة تعتيم خبيثة على دور القوات الأمنية الحكومية المسلحة (الجيش والشرطة) واستخباراتها، وحتى السخرية منها، تقابلها حملة تضخيم دور المليشيات الولائية التي أطلقوا عليها (الحشد الشعبي المقدس)، في محاربة عصابات (داعش)، وإلحاق الهزيمة بها، والقصد من كل ذلك هو تدمير معنويات الجيش العراقي الذي تكبد عشرات الألوف من الشهداء والجرحى، كتمهيد لمنح الأولوية للجيش الرديف أي (المليشيات الولائية)، وتحويل الدول العراقية إلى الدولة العميقة يحكمها الولي الفقيه الإيراني من خلال هذه المليشيات المنفلتة.
لذلك أرجو أن يعيد المغرر بهم من العراقيين أنصار إيران النظر في مواقفهم من هذا المخطط الإيراني الخطير بعد قراءة المشهد قراءة متأنية بعيدة عن أية نزعات طائفية وعاطفية. فالولاء يجب أن يكون للوطن العراقي، وليس تدميره بذريعة الخوف على أبناء الطائفة من الطائفة الأخرى.
فالعراق بوضعه الحالي، والتكالب عليه من كل حدب وصوب، ليس من مصلحته رفض الدعم الدولي بقيادة أمريكا. وهل استطاعت الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي إلحاق الهزيمة بداعش بدون المساعدة من التحالف الدولي بقيادة أمريكا؟ فلماذا نحن العراقيين دائماً نضرب على اليد التي تمتد لمساعدتنا؟
لذلك يجب على أنصار إيران من العراقيين الكف عن العزف النشاز باتهام كل من يرفض التدخل الإيراني أنه صهيوني وعميل أمريكي. فهل ملايين المتظاهرين في العراق وخارجه هم عملاء أمريكا وإسرائيل لا لشيء إلا لأنهم ضد التدخلات الخارجية في الشأن العراقي سواءً كانت من إيران أو غيرها؟
هؤلاء يرددون أن أمريكا هي التي خلقت (داعش) وقبلها (القاعدة) وغيرهما. قد يكون ذلك صحيحاً، ثم انقلب السحر على الساحر، ولكن ألا يدل هذا على أنه إذا ما ناصب العراق العداء ضد الغرب بما فيها أمريكا فسيعاد سيناريو داعش عام 2014 ؟ ولماذا لا نكسب أمريكا وحلفائها إلى جانبنا ولصالح العراق بدلاً من جعلها عدوة تلحق بنا الأضرار كما حال إيران البائسة؟
هذا ليس دعوة للخنوع والخضوع كما يتصور البعض من أدعياء الشرف والشجاعة والكرامة كذباً وزيفاً، بل لعلمي الأكيد أن معاداة الغرب عمل ناتج عن قصر نظر، وهو من أهم أسباب عدم استقرار العراق خلال المائة سنة الأخيرة، أي منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وإلى الآن. فإلى متى يساهم العراقيون في تدمير وطنهم، ويلقون اللوم على الغرب وإسرائيل ويبرئون أنفسهم؟
تفيد الحكمة أن خير الأمور أوسطها، وعلى سبيل المثال، هناك الجبن والتهور، وكلاهما رذيلة، فالجبان يدعو إلى الاستسلام، والمتهور إلى الإقدام بدون تعقل، ومهما كانت العواقب كارثية. يعني على طريقة المجرم المتهور صدام حسين حينما زج البلاد والعباد في حروب عبثية، وكان المنافقون يهتفون: (صدام اسمك هز أمريكا!). والنتيجة صدام ينتقل من حفرة إلى حفرة ذليلاً خائراً. والفضيلة هي الشجاعة التي تأتي بين الجبن والتهور. فالشجاع هو الذي يقدم على عمل جريء في صالح الوطن بعد أن يحسب كل احتمالات الربح والخسارة، ولا يزج البلاد والعباد في معارك دونكيشوتية خاسرة لا تبقي ولا تذر.
خلاصة القول:
أولاً، إن فتوى الجهاد الكفائي من السيد السيستاني في عام 2014 لم تنص على تشكيل مليشيات مسلحة رديفة للجيش العراقي، بل دعت القادرين على حمل السلاح للتطوع في القوات الأمنية الحكومية التي هي بقيادة القائد العام للقوات المسلحة، أي رئيس الوزراء حسب الدستور.
ثانياً، أكد السيد السيستاني مراراً، وعلى لسان ممثله الشيخ عبد المهدي الكربلائي، على حصر السلاح بيد الدولة فقط،
ثالثاً، ينص الدستور في المادة (9) فقرة (ب): “يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة”.
ومن كل ما سبق، فالواجب الوطني والدستوري، يفرض على القائد العام للقوات المسلحة مطالبة جميع المليشيات بتسليم اسلحتها سلمياً، وحلها و تحويلها إلى مؤسسات مدنية خدمية. وإذا رفضت قادة هذه المليشيات فالقوات العراقية اليوم متمكنة من فرض إرادة الدولة عليها إذا اقتضت القوة.
خصم الكلام، إذا لم يتم الخلاص من هذه المليشيات باتخاذ الاجراءات الحكيمة الضرورية الرادعة، فالعراق مقدم على انهيار تام كما هو حاصل في اليمن وسوريا ولبنان.
ألا هل بلغت؟ اللهم إشهد!
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
*- عبد الخالق حسين: أسلم طريق في مواجهة المليشيات المنفلتة (وفيه تعليقات موثقة حول فتوى الجهاد الكفائي، جدير بالإطلاع)
https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=955939&catid=325&Itemid=1236