كيف نظر الشاعر حسين مردان إلى المرأة ؟
جميل حسين الساعدي
لم يحدث شاعر ضجة كبيرة في تاريخ الشعر العراقي الحديث ، مثلما أحدث الشاعر البوهيمي المتشرد حسين مردان بنشره لمجموعته الشعرية الأولى ( قصائد عارية) في العام1949 والتي رأى فيها الوسط العام خدشا لحياء المرأة وتحقيرا لها ، والتي تسببت في مثوله أمام القضاء . أما الوسط الأدبي فقد اعتبرها نتاج نظرة أحادية الجانب الى المرأة ، فالشاعر كما يعتقد بعض النقاد يصف لنا المرأة الجسد والمتعة ولايصف لنا المرأة الفكر والروح .. أليس هو القائل؟
ما قيمة القبلات إنْ لم تنطفِ
نارٌ من الشهوات تسري في دمي
ما الحبُّ إلّا شهوةٌ فلتبعدي
أمّ الزنى فمك المدنّس عن فمي
وتجرّدي لأراكِ جسماَ ناعمــاً
بلظى الفجور يضجّ مثلَ جهنــمِ
وذري أحاديث العفاف لمعشرٍ
لم يفهموا سرّ الحياةِ المبهمِ
ما الطهرُ ما الشرفُ القديم وما التقى
إلّا اختلافات الزمانِ الأقدمِ
أمّا في قصيدته ( من بنات الليل ) ص67 من نفس الديوان فلا يتورع الشاعر عن إعلان حكمه القاسي على الحب والمرأة كما هو واضح في هذه الأبيات:
فلا تعيدي حديث الحبّ واضطجعي
فالحـبُّ وهـــمٌ تغذيـــه الخيـــــالاتُ
لقد عشقــتُ وجرّبت الهوى زمنـــاً
حتـــــى نحلـــتُ وأردتني الحبيباتُ
لقدْ كرهتُ نســاءَ الأرضِ قاطبـــةَ
إنّ النســــاءَ بذيئاتٌ حقيــــــــــرات
لكن هذا الموقف من المرأة والحب قابله موقف آخر مناقض عبّر عنه في البيت التالي :
مسّني الحبُّ فانقلبتُ ملاكــــــاً
مفعم الروح بالرضـــا والحبـورِ
بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد في تمجيد المرأة حين قال: ( لن ينهض الشرق ، ولن ينزل المطر المقدّس من السماء بدون أكفّ النساء). وقد رأى فيها رمزا للجمال ، الذي وصفه بالعبارات التالية: ( إنّ الجمال لا يجذبني فقظ بل يدفع بي إلى الصرع، وعندما أستفيق أجد نفسي في حالة متناهية من الشفافية والصفاء، وخلال تلك اللحظات التي لا توصف ، تورق الأشجار العتيقة في روحي ، ويولد ذلك النوع الغريب من الشوق ، لاحتضان الكون بكلّ ما فيه ) .
هذا التناقض في توصيف الشاعر لهو دليل على أنّه لم يكن محقرا للمرأة ، ولم يكن قصده أن ينال من مكانتها فالأرجح أنه لجأ إلى هذا اللون من الشعر بدافع حب الشهرة ، تماما كما فعل الشاعر نزار قباني عملا بالقول الشائع : ( كلّ ما هو ممنوع مرغوب) . فقد سيطر عليه هوس الشهرة حتى أنه ادعى أنه يعيش قصة حب مع الفنانة عفيفة اسكندر. القصة كانت من نسج خياله الجموح ، فهو لم يرها سوى
مرة واحدة حين دعاه بعض الاصدقاء إلى الملهى الذي كانت تغني فيه ،وكانت وقتها في ريعان شبابها جميلة تلفت الأنظار ، فقصة الحب هذه هي من القصص والحكايات الكثيرة ، التي كان يختلقها الشاعر حسين مردان ليثير فيها انتباه الأخرين ويلفت أنظارهم إليه ،فقد ذكر بعض الذين عرفوا الشاعر عن كثب ، بأنّ صديقه المقرب منه يوسف طعمة فرمان هو الذي جعل من هذه الخرافة حقيقة حينما تطرق إليها في روايته المعروفة ( خمسة أصوات ) والتي حولت إلى فلم ( المنعطف) فيما بعد ، وقد عرض الفلم في سينما بابل وقد ظهرت كذلك في مسرحية مثل فيها دور حسين مردان يوسف العاني حيث يظهر فيها حسين عريان بملابسه الرثة وهو يستجدي الحب من عفيفة . المسرحية كانت متأثرة بقصص ألف ليلة وليلة الخيالية ، ومن الجدير بالذكر والتنويه أنّ الأشعار التي نشرها الشاعر في حياته ، و تلك التي عثر عليها بعد وفاته لم يرد فيها أيّ ذكر للفنانة عفيفة اسكندر لا من قريب ولا من بعيد .
المشكلة التي كان يعاني منها حسين مردان حين قدم إلى بغداد في منتصف الأربعينات مودعا مدينته بعقوبة بلا رجعة هي الإعتراف به كشاعر لذا لجا إلى موضوع المراة والجنس ليثير الإهتمام. اما الفنانة عفيفة اسكندر فكانت تسمع بهذه القصص المختلقة وحالها حال أية فنانة تشعر بالزهو ويزيدها إعجابا بنفسها حين تختلق حولها قصص الحب والإعجاب الكاذبة .
في فجر الرابع من أكتوبر للعام 1972 لفظ حسين مردان أنفاسه الأخيرة في مستشفى مدينة الطب ، الشاعر، الذي ظلّ حتى آخر أيّامه صادقا مع نفسه رغم القصص التي كان يختلقها من وحي الخيال ، وينشرها بين أصدقائه على أنها قصص واقعية حقيقية .
لقد قام الشاعر حسين مردان بما لمْ يقُم به شاعرٌ من قبله ، حين أهدى ديوانه ( قصائد عارية) إلى نفسه ، فقد استهله بهذه المقدمة: ( لم أحب شيئاَ مثلما أحببتُ نفسي ، فإلى المارد الجبار ، الملتفّ بثياب الضباب ، إلى الشاعر الثائر المفكر الحرّ ، إلى حسين مردان ، أرفع هذه الصرخات ، التي انبعثت من عروقه في لحظات هانئة)
هذه المقدمة تجعلنا نلتمس العذر لحسين مردان عن كلّ شطحاته ، وأن لا نحمل كلماته التي صبّ فيها جام غضبه على النساء محمل الجدّ ، لقد بحث عن الحب فلم يجده .. أراد أن يحتسي خمرة الحبّ ليصبح ملاكا ، لكنه وجد نفسه وحيدا بلا مأوى يفترش الأرض ويلتحف السماء في المقبرة
الملكية ، وفي جيب سترته الرثة زجاجة خمر ، دسّها له الشيطان.