عبد الأمير الحصيري آخر الشعراء الصعاليك
جميل حسين الساعدي
في أوائل السبعينات من القرن المنصرم تعرفت على الشاعر عبد الأمير الحصيري صدفة في سوق السراي ، وهو سوق شعبي لبيع الكتب ، يتفرع من شارع المتنبي ، الذي يضمّ أكبر وأشهر المكتبات في بغداد مثل مكتبة المثنى ودار البيان ودار التربية وغيرها من المكتبات , كنت كثيرا ما أتردد على سوق السراي لشراء الكتب القديمة ، التي كانت تباع بأسعار رخيصة ، وكان لي هناك صديق صاحب (كشك) لبيع الكتب القديمة هو الأديب عبد العزيز القديفي مؤلف كتاب (شوقي في الميزان) ، كنت بعد أن أنهي تطوافي في السوق ، أذهبُ إلى محلّه الصغير ، الذي يتوسط أحد جانبي السوق لأمضي عنده بعض الوقت نتجاذب فيه أطراف الحديث في مواضيع عديدة ، وعلى رأسها الأدب والشعر . كنت أذهب إلى السوق مرتين كلّ أسبوع ، لأبحث عما هو جديد من الكتب والمجلات مثل: مجلة الفكر المعاصر وتراث الإنسانية والهلال وسلسلة (كتابي) ، وكنت في كلّ مرة أزور صديقي عبد العزيز القديفي . وفي إحدى تلك الزيارات عرّفني بالشاعر عبد الأمير الحصيري ، الذي التقيته فيما بعد مرّات كثيرة، كان آخرها في اتحاد الأدباء العراقيين في العلوية قرب ساحة الأندلس . كان مخمورا كالعادة ، ووقف غير بعيد عني ، وهو يشير بيده إلى شفيق الكمالي وزير الثقافة والإعلام في زمن النظام السابق ، الذي كان يلقي محاضرة في ذلك المساء في اتحاد الأدباء العراقيين ، صارخا بأعلى صوته (لقد أفسدت اللغة العربية يا شفيق). ثمّ استمر الحصيري في مقاطعة الكمالي وتصحيح الأخطاء اللغوية ، وحين انتهت المحاضرة ، قامت حماية وزير الثقافة والإعلام شفيق الكمالي ، الذي كان عضوا كذلك في القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم في العراق باقتياد الشاعر الحصيري إلى خارج مبنى الإتحاد وانهالوا عليه ضربا ، حتى سقط على الأرض والدماء تسيل من أنفه وفمه على قميصه وسترته
.
كان الشاعر عبد الأمير الحصيري حجة في اللغة العربية ، أبصر النور في العام 1942 في النجف الأشرف ، المدينة التي أنجبت كبار الفقهاء والشعراء والأدباء . أمضى سنوات شبابه الأولى فيها يحضر مجالسها الأدبية و يصرف معظم وقته في قراءة الشعر العربي قديمه وحديثه ، وقد أخبرني في أحد لقاءاتي معه ، أنّه كان يحفظ أكثر من 150 ألف بيت من الشعر عن ظهر قلب ، ثمّ انتقل إلى بغداد في العام 1958 ليبدأ حياة مختلفة تماما عن تلك التي عاشها في النجف ، حياة أقلّ ما يقال عنها أنّها حياة صعلكة وتشرد وعدم استقرار ، مارسها الشاعر ، ليعلن بذلك رفضه للواقع والتمرد عليه ، ويهيم على وجهه متنقلا بين الأرصفة والحدائق والحانات . وقد وصف حاله بهذه الأبيات ، المقتبسة من قصيدته ، ( أنا الشريد ) :
ما زلت طفلا غريرا، كيف تقربني
أنا التشرد والحرمان والأرق؟!
أنا الشريد!! لماذا الناس تذعر من
وجهي؟ وتهرب من أقداميَ الطرق؟!
وكنت أفزع للحانات، تشربني
واليوم!! لو لمحت عينيّ، تختنق
كان الحصيري متأثرا بسيرة شاعر الصعاليك في العصر الجاهلي عروة بن الورد ، حتى أنه أصدر في العام 1973 مجموعته الشعرية (مذكرات عروة بن الورد) ، والتي عبّر فيها عن نزعته إلى التمرد وإلى تمجيد الصعلكة والإشادة بشعرائها ، حتى نعته بعض شعراء الستينات ب (عروة زمانه) . فالصعلكة في منظوره منهج حياتي ، ومنظومة قيم جديدة ، تتصدى لقيم المجتمع المفروضة من قبل علية القوم ، فشعراء مثل تأبّط شرا والسليك بن سلكة وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي كانوا أصحاب قضية تنتصر للمحرومين والمظلومين وتسعى إلى كسر شوكة الأقوياء على طريقتها الخاصة .
في العام 1978 عثر على أمير الشعراء الصعاليك ، عبد الأمير الحصيري جثة هامدة في فندق شعبي في منطقة الكرخ . وبرحيله فقد الشعر العراقي شاعرا تفرّد بأسلوبه الشعري وبطاقته الشعرية المتميزة، التي ضخّت دماء جديدة في عروق الشعر العمودي ، فجعلته ينهض ويندفع إلى الأمام قاطعا أشواطا بعيدة على طريق الحداثة والتجديد مع الإحتفاظ بالأصالة وفخامة اللغة.