مُتناثرٌ مَوصولٌ
يحيى علوان
كُنّا ” ثالوثاً ” منذ ما يزيدُ على نصف قرنٍ . ومُذ رحلَ ” ثالث الأثافي “- صادق البلادي- مُستعجلاً ، قبل أربع سنوات ، غدونا ” ديو”! نحرص على إدامة ما تبقى لنا من عيشٍ ، نسقي زهورَ الوصل والودّ…
صاحبي يُتابعني في كلِّ نصٍّ أنشره ، وإنْ سكَتُ ، يلاحقني .. وأنا مُمتنٌّ له في ذلك .
أقولُ له ، أحياناً ، أنني منشغلٌ بشحن ” بطارية الكتابة ” قراءةً ، حتى لا تَترهّل مفردتي ..
فيردُّ عليَّ بـشيءٍ من” التقريعٍ الشفيف ” بأنَّ لغتي ما تزالُ ” مُترفِّعَةٌ “! غيرَ سَلِسَةٍ ، تستعصي
على ” غالبية القرّاء “!!
لستُ هنا في مَعرضِ الجدل حولَ مصدر أو مصادرِ ما توصَّلَ إليه من رأيٍ !
لكنني أقولُ له أنها مُقايسةٌ قد تكون مُتعجّلة بعض الشيء ، كي لا أقول شيئاً آخر! لأنني أعرفُ كلَّ الحُجَجِ التي دَرَجَ صاحبي يرشقني بها ! فقد تَرَيبّنا سويةً في ” المدرسة ” عينها .. وعلى” مَسطرة ” مَن قبيل” مَنْ المسؤول عن الأوضاع ، ومَن المُستفيد..إلخ ؟”
قد يكون ” درسُ المسطرة ” ، الذي تعلّمناه سابقاً ، ينطبق على المادة السياسية ، والبرنامج السياسي والمادة ” التعبوية “! ، لكن الأمرَ يختلف في النشاط الثقافي – الإبداعي ، لأنَّ للإبداع شروطه !!
وهذا الرأي ليسَ جديداً ، أو من ” عِنديّاتي “! بل واجهته البشرية منذ القِدَم ، حتى قبلَ سقراط و إفلاطون و سينيكا ، مروراً بالفارابي و إبن سينا و إبن عطاء و إبن النجّار و إبن رُشد و أبي تمّام و أبي نؤاس والمتنبي والمعرّي و ملتون … وحتى أوسكار وايلد واندريه بريتون :”الكتابة الإبداعية طريقٌ فَذٌّ لتحرير الإنسانِ من عبادة الله وعبادة المال .. فالأولى عبادةُ وهمٍ ، والثانية وَحشٌ …” ناهيكم عما أورده رولان بارت في ” لذة النص ” … إلخ من العديد من النصوص والمقولات ، التي غدت معروفةً ، ولا حاجة لإيرادها ، فلسنا في معرض السجال !!
فللمفردة رنينٌ هاديءٌ يَهتِكُ خَرَسَ الخَؤون ، وردحَ المرتدينَ الضِعاف ، الذين هَتَكوا تأريخهم ، كي يَنعموا بـ”دفء حُضن السلطانِ”! ، أَيّاً كان !!
أقولُ أَنَّ الكنايةَ والجِناسَ ، وحتى الطِباقَ ، تُغريني ،
لأنها تَترفّعُ على أُحادية المعنى ومباشرته ..!
ففي هذا الزمن ” الحداثي وما بعده !” وإنْ كانت مجتمعاتنا العربية ، لمّا تزل في طورِ ما قبل الحداثةِ ، بإستثناء المؤسسة الأمنية والرقابية !! تحتاجُ الناسُ كما أظنُّ – وإنْ قيلَ أنَّ بعض الظن إثمٌ !! –
تحتاج نصٍّاً مشحوناً يُقطِّرُ الدلالةَ والمعنى ، دون أنْ يستدعي مزيداً من وقتٍ يتسرَّبُ بين الأصابع في زحمة العيش” الحديث “!
وأضيفُ أنَّ مادتي هي الحياةُ كلّها ! فهي ” مُلقاةٌ ” في الشارع !! ما عليكَ إلاّ تناولها .. فطالما بقيتْ أرصفةُ المدن والبلدات تَعجُّ بالمُفقَرين والمهَمَّشين ، وطالما بقيت زنزانةٌ لسجين رأيٍ ، وطالما تَشَوّقَتْ زهرةٌ لَفَراشةٍ ، وتَشَبّثت نبتةٌ بصخرةٍ شَبَقاً ، ولم تَرتهب الشمسُ أنْ تُدحرجَ كُرتها خلف المدى .. هناكَ أجدُ ما يكفيني مادةً للكتابة ، تَتَناغمُ مع إيقاعِ ” أَنا “يَ بكَدَحٍ ذهنيٍّ ، يبتعدُ عن المحكيِّ . فقد ذَهبَ إليه غير شخصٍ ممن وجدَ فيه ضالَّته ، وأَبدعَ البعضُ فيه !!
وأُزيدُ فوقَ ذلك .. نقرأُ ونسمعُ في أحيانٍ ، غير قليلةٍ ، مَنْ يتحدَّثُ عن لغةٍ ” بريئةٍ “! وتعاملٍ “بريءٍ ” مع المفردة ! أقولُ أنا أتعامل معها بشكلٍ غائيٍّ (مُغرض) .. أستحلبُ معانيها ، أُلقِّحُها بمضاداتها ونقائضها أحياناً ، أصطادها من جُموعِ ما يهرَبُ جزعاً من سَقطِ المقيلِ والتَحبير، أجلوها من صَدَأ الصمت ومُكْرِ التورية ..! أرنو إلى ما سينتج عن ذلك من مجازٍ و” تناصٍّ” أو ما لمْ أخطِّطْ له أساساً .. فالمجازُ هنا ساحةُ الحياة والتأريخ كلِّه .. من فلسفةٍ وسياسة وتأريخ وأسطورة وخرافة وإبداع … كلها ” ملعبي “..!!
وأقولُ ، زيادةً ، أنَّ العالم الذي نحيا فيه مُعقّدٌ بما فيه الكفاية ، يستلزمُ فهمه أَنْ يرتقي المُتلقّي فيه ، لُغةً ومفاهيمَ وأفكاراً تستفزُّ كلَّ طاقاتِ حواسّه وخياله ليفهم العالم الذي يحيا فيه أولاً ، ومن ثمَّ التفكير بتغييره “تطويره ” .. هذا إنْ أرادَ أنْ ينسلخَ عن عالم الحيوان ، ليَلِجَ عالم الثقافة والإنسان !
عليه فإنْ لم نستخدمَ العقلَ ، لا ” النقل ” ، أياً كانَ نوعه فكرياً ، سيبقى الفردُ حيواناً غريزياً ، بليداً … فالجاهل إنْ لم يرتقِ بأفكاره ومفاهيمه ، كيف يمكن للمبدعِ أنْ يتحاور معه …؟!!
فالسؤال ، الذي يطرحه صاحبي ، يُغيِّبُ مسؤولية الفرد/ المتلقّي ، يُرحّلها إلى عاتق ” ظروفٍ موضوعية / إقتصادية ” .. كذا!
……………
……………
كُنّا ندخلُ أحياناً ، في “سِجالٍ” غيرَ ذي جدوى ..! لا هوَ أَقنعني برأيه ، ولا إستطعتُ إقناعه برأيي .. بقينا هكذا ..! ففي مكانٍ ما من الوعي أدركتُ عدمَ إمكانية ” التصالحِ “! بين موقفينا ، لأسبابٍ مختلفةٍ ، أَحجبُ عن ذِكرها وفاءً لعمر العلاقة ، كي لا تنخدِشَ الآصرةُ ما بيننا ، ونحن في عمرٍ لا يسمح لنا بتَرَفٍ كهذا !!
إذن ، علينا أنْ نتعايشَ مع هذه الحالة ، كلٌّ له رأيه . لكن ظلَّ سؤاله مِطرَقةً تَدُقُّ في يافوخي !!
طبيعيٌّ جداً، من حقِّ صاحبي ، وكل قاريءٍ أنْ يرى في ” النص ” ما يراه ، طبقاً لثقافته وخبرته.
وأُ ضيف أنَّ للمتلقّي حريةً أوسع من حرية المبدع المحكوم بشروط الإبداع !! عليه لا أجدني مُلزَماً ، ولا اُلزمُ نفسي بالردِّ على كلِّ إجتهادٍ في هذا الصدد ، أو الدخول في مساجلاتٍ لا طائلَ منها ، حينَ تغيبُ مُشتركاتُ المفاهيم والمعاني ، فتَتَمَنَّعُ على ” التسامحِ ” مع “الآخر” بهدف التصالحِ من أجل ” الأعم ” !!
* * *
أَزعمُ أَننا نَنَبري لمعالجة عَطَبِ الأوضاعِ بالكلماتِ .. هي سلاحنا ، لا نَملِكُ غيره ..! نُشاغِبُ بها عَلَّها تُحرِّكُ المياهَ الراكدَةَ ، لنَكشِفَ دَرَكَ ” البهيميةِ “! التي أوصلنا إليها سَدَنَةُ الإستبداد والغيبِ والخرافة الكذّابونَ ، الذينَ إنْ قالوا ” صباح الخير”! يتحتَّمُ علينا أنْ نتَطلَّع من الشُبّاك كي نتأكَّدَ مما يقولون ، وإنْ تَلفّعوا بأستار الكعبة !!
لذلك تراني أرفَعُ عقيرةَ السؤال ، لأنَّ السؤالَ حاجةٌ معرفية .. مُتحرّراً من التكتيك السياسي المُتغيِّرِ. أَشتَبِكُ مع متواليةِ التحقُّقِ من مرجعياتِ الفَرَضيّةِ والمعلومة ، كما تصِلُ إلينا إثرَ تراكمٍ تأريخي ، لم تَثبُتْ براءتَه من التزوير ! طالما أنَّ التفكيرَ النقدِي يقتضي أولاًّ التشكيكَ في المفاهيمَ ، كي نُغادرَ حالةَ السُبات اليقينيِّ …!!
فأسئلةُ المعنى ، خُلخالُ الثقافة وذاكرة الوعي المُجرّب !
فإنْ كُنّا نحنُ سليلونَ نَجيبونَ لِمَنْ أَتقَنَ صُنعَ الشعارات ! أَلا تَجدرُ بنا مساءلةَ ما ، ومَنْ أَوصلَنا إلى
ما نحنُ فيه من تيهٍ ، نتيجةَ الإفراط في الإفتتانِ بماضٍ ” ظنَّاً ” أنه شكلٌ من أشكال ” إستراتيجياتِ ” الدفاع عن النفس ..؟!! بإعتبار أنَّ ” الأحلام الكبيرة ” لا وظيفةَ لها سوى توفيرِ المناخِ الملائم لإنسيابِ الأحلام الصغيرة ، للعاديِّ ، للبشريِّ فينا ، وما وُعِدنا به وأمَّلنا النفس فيه ، دونَ إحتسابٍ معقولٍ لمُمكناتِ الواقع المُتقلِّب ، المُتغيِّر في عالمٍ دائم التحوُّل … ؟!!
أَقولُ ذلك لأؤكِّدَ حقنا في الحلم .. نُعلي فيه بسالةَ الصوتِ الشجاع .. حتى المنفردَ منه ![ ولا نُقلِّلُ من شأن مَنْ تحصَّنَ بشرنقة الصمت ” تقيَّةً “!! حتى لا يبيع نفسه وشَرَفَ الكلمة للشيطان ..!] ضدَّ مَنْ هَيَّجَ قَمْلَ الخرافة ” الخُردة ” مما لا تَنفَعُ معه المصطلحاتُ والتوصيفاتُ ، مهما إستنفَرَنا طاقةَ المعاني ومحمولاتها !!
الشجاعةُ بُعدٌ رؤيويٌّ ، لا يتجلّى في النزالات وحدها ،
بل في أنْ تَجرؤَ على البدء بشيءٍ تعرف مُسبقاً أنكَ الخاسر فيه !
فالحلم أنْ ترى الضوءَ في زُحامِ العتمة .. حتى بعدَ وصول الغُزاةِ الجَهَلة إلى غَدنا المُرتجى ، حين أحرقوا وخرّبوا كلَّ شيءٍ .. حتى خيوطَ ثوبِ السراب ، الذي كُنّا نَنْسِجُه !! ولم يتركوا لنا غير ذكرياتٍ تجوبُ واحات الفراغ بليلٍ وثنيٍّ نتَسلَّقُ فيه سفوح الخوف ” مِعراجاً “! فقد قَتَلوا فينا القدرة على الفَرَح .. سرقوا تلألؤَ البهجة وفيضَ النور ..
…………………
ليقُلْ مَنْ يقول ، ومَنْ شاء ما شاء !
لم أُولد في مكانين ، لكن في وُسعي أنْ أموتَ في أكثر من مكانٍ . تلك هي حريتي ! فلماذا يكونُ مكانُ ولادتي الجغرافي نقيضاً لهذه الحرية ؟! وبعيداً عن شاعرية بلادي التأريخية ، أرضاً وميثولوجيا … ممراً لهوياتٍ وحضاراتٍ … بعيداً عن كل هذا وذاك ، هي نزوعُ إسطورة القِفار إلى شَبَقِ الإستقرار .
فهل في بلادي ما يُفقِرُ الشاعريةَ الإنسانية ، أم فيها ما يُغنيها بتذكيرِ الإنسان بسيرته في تأريخ الكون والكلمة ، وفي إنفتاح المعنى على معنىً آخر، وفي قُدرته على إنقاذِ الواقع بالإسطورة ، وفي عودة الإسطورة إلى عناصرها وأهلها ؟! فلا حاضرَ للغةٍ إلاّ بماضيها … وإلاّ سَنأتي إلى اللغة يتامى ، من الفراغ !!
لا أستطيعُ الإنتماءَ إلى جَسَد حداثةٍ مُشَوّهٍ ، يُغيّرُ إسمَه وملامحه ، كيفما شِيءَ له ، وفي حالاتٍ غير نادرة ، يُهدّدُ بفائض من التشابه والتقليد المُخلْ .. بل حتى بإغترابِ المبدعِ والإبداعِ معاً !
صحيحٌ أنَّ التحولات الإجتماعية المتسارعة بخطىً حثيثة ، وهيمنة وسائل الإعلام ومواقع “التراشق” الإجتماعي ! وإنتهاك اللغة بتحويلها إلى مادة إستهلاكية ، قد أسهمت في تراجع الإصغاء للإبداع .
بيد أنَّ الصحيحَ كذلك ، أَنَّ غير قليلٍ من المبدعين قد ساهم في هذه الظاهرة ، منذ أصبحَ مفتوناً ،
إمّا بعزلته المُقَعّرَة ، أو بجماهيريته المُبسَّطة ! ففي الحالة الأولى صيَّرَ الغموضَ صورةً لـ” أنا ” لا تحتوي غيرَها ، فلا تَخرجُ من الذات إلى العالم . وفي الحالة الثانية جعَلَ الوضوحَ رسالةً نهائية تقتلُ المتعة ، التي نبحث عنها في الإبداع ! وبذلك يُترَكُ المُتلقّي عاطلاً عن العمل !! هناكَ إذاً ما هو أسوأ من الغموضِ المُعتِم ، ألا وهو الوضوحُ التعليمي ، الذي يَحرمُ المتلقّي من المشاركة في عملية الإبداع ، بإعطاء العمل الإبداعي حياةً ثانية .
هكذا سيظلُّ سؤال الحداثة والإبداع عموماً في مجتمعاتنا المطحونة بأسئلة وجودها الأساسية ، سؤالاً مأزوماً ، ما لم يوضَعَ في سياقِ إنعتاقها ! وعليه لا يكون هناك ، في هذا المجال تحديداً ، ما هو أسوأ من قَسرِ السياسة على العملية الإبداعية بمعناها المباشر ، إلاّ الإفراط في تعالي الإبداع عن قضاياه السياسية ، بمعناها العميق .. أي الإصغاء إلى حركة التأريخ والمجتمع والمشاركة في صياغةِ مقترحاتٍ لصورة المستقبل . من دون ذلك يُغَيّبُ المبدع نفسه عن فضائه الجيو – سياسي ويعزله عن الكينونة المشتركة وعن المجتمع !
يحيى علوان