لا خيارَ بين السيء والأسوأ !
يحيى علوان
[ سنبيعكم .. لكنْ لِمَنْ ؟!
……………..
مَنْ يشتري منّا العَفَنْ !! ] من قصيدة لشاعرٍ أجهل إسمه،وصلتني عبر الواتس أب
غير مرة أُقرِّرُ أنْ أنأى بنفسي عن السياسة وشؤونها في بلادي ، وعمّا وصلت إليه من حضيض ، بفعل الزُمر الحاكمة . فقد عَفَّنوا السياسة وأفقدوها كل معانيها . كنتُ سابقاً أرى فيها جزءاً من الثقافة ، لكن آخرَي يُطنطنُ الآن بداخلي أَنْ “هذا هو موقفٌ سياسيٌّ أَيضاً” .. فأجدني مُنزلِقاً إليها مرةً أخرى ! مُعللاً النفس ” إذا لم تستطع إزالة العَفَن ، فلا أَقلَّ من إدانته وهجائه !”
يتهمني صديقٌ ، كان رفيقاً قُحّاً ، هداه الله فأصبح يتوه هياماً بالرأسمالية والليبرالية الجديدة!، يتهمني بأنني لا أزال يسارياً متطرفاً ، عاجزاً عن مسايرة الواقع ! فالرأسمالية قد إنتصرت على النطاق العالمي بأسره ، وما عليَّ إلاّ أَن أفتح عينَيَّ لأرى إيجابياتها …كذا
من جانبي أقولُ له : أنتَ مُحِقٌّ يا هذا في توصيفك ، الذي تريد به شَتمي ! ما زلتُ أكره زمن الحرباء هذا ، الذي جعلَ كثرةً من الناس تتلوَّنُ بلون البترو دولار وتطربُ لرنين الليرة ، طبعاً لا الليرة السورية ولا التركية ، ومن بابٍ أولى ليس اللبنانية !! إنما”الليرة الرشادية”!! فهل في صدرك “المتسامح” متسعٌ للتعايش مع يساريتي المتطرفة ، دون أنْ تشمئزَّ منها ومني ؟!! أرجو ذلك ..
* * *
أعودُ بعد الإستطراد إلى ما إبتدأتُ به ، فمنذ الإنتخابات العامة في أكتوبر الماضي ، والوضع السياسي في العراق لم يتحرك من نقطة الصفر لأن الطغمة الحاكمة مُصرَّةٌ على التمسُّكِ بالسلطة حتى الموت !!
مافياتٌ من اللصوص والأغبياء والقَتَلَةِ والمشعوذين التافهين ، تتولّى العبَثَ بجثة وطنٍ ، كانَ إحتمالاً فصار على أيديهم مُحالاً .. لصوصٌ من كل الطوائف والقوميات إستولوا على بلادٍ لا يستحقونها ، لولا “اليانكي” و”الآيات!”
أتى هؤلاء الزعران فخربوا كل شيءٍ .. الإقتصاد والجامعات والمدارس ومؤسسات العلاج والإستشفاء ، نهبوا الأرض ، ما فوقها وما تحتها ، همَّشوا الثقافة وحولوا البلاد إلى مباءة ومزبلة .. لم يكتفوا بذلك ، بل خرّبوا حتى القيم الإجتماعية والإنسانية الخيرة .. كالتسامح والإخلاص ، الصدق ، الوفاء ، النزاهة والأمانة ..إلخ
في العنوان
أعرفُ مسبقاً أن عدداً من الأصدقاء والديمقرطيين والليبراليين سيقولُ عندما يرى العنوان : “هذا موقفٌ عدميٌّ ، طُهراني وغير عملي سياسياً …كذا ” لكن تعالوا معي لنفحص العنوان ، ما بعد الـ”لا” ونحاول تفكيكه في عدة وجوه ، نتوكأ فيها على “عكازات” لغوية ، أبستمولوجية وسياسية ..
لغوياً وأبستمولوجياً
المفاضلة بين السيء والأسوأ ، تغدو غير مجدية – حسب ما أرى – ، بل باطلة لأنها تجري بين إثنين من “الأصل” نفسه ، أي “السوء” ، في حين أنَّ المفاضلة أو المقارنة التفاضلية يجب أن تجري بين السيء والجيد أو الحَسِن ، مما لاينتمي إلى نفس “الأصل”! ذلك أنَّ ” الأشياء تتمايز بأضدادها”.. عليه لا تصحُّ إقامة “تمايز تفاضلي” بين السيء والأسوأ ! فإذا كانت المقارنة لا تنفي ما هو موجود في “الأصل”، سيبدو السيء في هذه الحال ، بوعي أو من دونه ، جيداً وحسناً ! وهو أمرٌ يُسوِّغُ القبول به ، ولو بالإيحاء دون التصريح المباشر !!
إذاً ما القصدُ من المفاضلة بينهما ؟!
إذا إستبعدنا القصدية ، سيكون الغرضُ ، المُمَوّه ، منها إبعاد الشعور بالذنب بإقترافِ خطيئة “أقل” ، تُولِّدُ الإحساسَ بالرضا لتفادي الندم وجَلد الذات ..! لكن هذه المفاضلة تستبطنُ مقولةً مفادها [نرضى بالسيء تَفاديأً لما هو أسوأ !!] أو ما دَرَجَ عليه المثل الشعبي المعروف “يدوِّر – بمعنى يفتش – بالخ… حَبْ رگي – بطيخ أحمر-” معذرة من القراء لإستخدام هذا المَثل، فبعض الأمثال الشعبية رغم كونها فاقعة أحياناً ، إلاّ أنها مُتخمةٌ ببلاغة المعنى ، بعيداً عن التزويق اللفظي ومحسنات القول ، بل قد تكون أكثر قدرة على التعبير ، في حالات معينة ، ممّا تعجز عنه الصياغات الفصيحة والمتزنة !
سياسياً
دعونا ننتقل من “تهويمات” التجريد إلى الواقع العملي الحالي في العراق .
دون إتهام أو مُعايرة ، بل تقريراً وتوصيفاً . هناك من القوى والشخصيات السياسية ، ممن يدعي الإستقلالية ، لكنه دخل لعبة الخيار بين “السيء والأسوأ” بالإنحياز لتفضيل طَرَفٍ ضد الآخر : “الإطار التنسيقي” ومالكه ! أو “التيار” وسيده !* وبهذا يكون قد غادر ما كان يدعيه ..! وفي أحسن الفرضيات وقع في “الفخ” نفسه ، الذي أوقعت السي آي إي وإدارة بوش الإبن قوى في المعارضة ، إذ خيرتهم – أو بالأحرى إبتزّتهم – إما أنْ تقبلوا بإجتياحنا للعراق أو أنْ تقبلوا بنظام صدام ..! فمن ليس معنا هو ضدنا عملياً – وهو الفخ عينه ، يستخدم حالياً في الحرب الدائرة بأوكرانيا ، بالإصطفاف إما مع بوتين وحسابات حربه ، أو مع الناتو وبرنامجه/ مشروعه! في حين أنَّ الحس الوطني والإنساني السليم يقضي بالوقوف ضد الحرب ومشعليها ، وضد صقور الناتو وخطط تمدده شرقاً ! لأن الحروبَ تفتك بالناس من كلا الجانبين ، وغالبيتهم العظمى من النساء والأطفال والشيوخ ، ناهيكم عن الخراب المادي من بنىً تحتية وهياكل إرتكازية ، إضافة إلى الخراب الروحي والصدمات النفسية ..إلخ
دعونا الآن نتساءل : ماذا قدّم كلا الطرفين المتصارعين الآن “الإطار” و”التيار” ، منذ “العهد الجديد”! أي منذ تسيَّدوا المشهد السياسي في العراق ، بعد 2003 حتى اليوم ؟!
لم يكتفوا بإسقاط النظام السابق – الذي قام به المحتل وحلفاؤه وليس هم !- وحل الجيش .. بل ألغوا الدولة ، ككيانٍ ينظم بشكل ما أمور المجتمع ، بكل القصور الكبير ، الذي إعتوره في ظل نظام البعث البائد . وهذا ما أفضى إلى حدوث فراغٍ أمنيٍ وإنفلات عام وفوضى ، دَفَعت الناسَ إلى اللجوء إلى صِيَغٍ ما قبل الدولة، كي تَجدَ فيها ما يؤمِّنُ جزءاً من حاجاتها للإستقرار والأمن بعد الحروب العبثية الخاسرة .. والحصار الدولي القاتل ..إلخ إذ لم يعد هناك من مرجعٍ يُحتَكمُ إليه سوى العشائر والميليشيات المسلحة ، بكل تلاوينها المذهبية والقومية ، التي تكاثرت كالفطر !
………………………………
لا نجد ضرورة لإستعراض تفصيليٍّ لما قاما به ، وما زالا حتى الساعة ، من موبقاتٍ وجرائم (فساد تحاصصي ، نهب للمال العام قلَّ نظيره ، ميليشيات مسلحة بحروبها الطائفية وترهيبها للناس ، إختراق أجهزة الدولة من وزارات وسفارات والجيش وقوات الأمن والشرطة ومؤسساتها ، وحتى القضاء والإعلام ..) وما لم يقوما به من خدمات كان يُفترض القيامُ ، فقد بات كل ذلك معروفاً لدى العامة ، لدى القاصي والداني لا حاجة لتكراره الآن …
عليه سنكتفي بتفكيك “مُسوغ”! المقارنة التفاضلية بين “الإطار” و”التيار”.
1) نزعمُ أنَّ ما يجمعُ بينهما أكثر مما يفرقهما . فكلاهما طائفي يعتمد المحاصصة أداة للهيمنة على الدولة وممتلكاتها والمجتمع والمال العام ، الذي يعتبرانه “سائباً ، ليس له مالك”! وبالتالي يجوز الإستحواذ عليه، ويصبح حلالاً “شرعاً!” – في عرفهما طبعاً – بعد أنْ يتم دفع ” الخُمس “!! وهو ما قام به “السيد” مع ربيبه بهاء الأعرجي – الرئيس السابق للجنة المالية ورئيس لجنة النزاهة في البرلمان- إذ إحتجزه لمدة إسبوعين ، بعد أنْ أزكمَ الأنوفَ فسادُه والثروات الحرام التي راكمها .. بعدها أُعلن عن إطلاق سراحه والعفو عنه بإجباره على الإعتراف علناً بفساده ..إلخ ليبعد عن نفسه التهمة ويحمي ممثليه من التهمة نفسها ، مما يذكّرُ بما قام به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع إبن عمه الوليد بن طلال وأضرابه من القطط السمان ..!!
2) كلا الطرفين لا يحمل مشروعاً وطنياً عراقياً . فـ”الإطار” ولاؤه لأيران و”الولي الفقيه” خامنئي،
و”التيار”كيانٌ يقوم على الفرد “الأوحد” من دون دراية أو خبرةٍ فكرية/سياسية ، ويتسم بمزاجية نزقة ، لا أدلَّ منها تقلبات مواقفه ، التي يصعب الركونُ إليها ،
3) كلا الطرفين يسخران ، عملياً من “حُطام” الدولة ، يستبيحانه في وضح النهار ، بميليشياتهما المسلحة وبالتهريب من منافذ حدودية غير رسمية وأرصفة موانيء موزعة بين فصائلهما، ناهيكم عن تنظيمات مافيوية للإبتزاز والتحكم والتجارة بالعملات والمخدرات وحتى الدعارة .. والإتجار بكل شيء مما يخطر ولا يخطر على البال!! وحين يحاول “جزء” من القضاء الدفاع عن شرف مهنته بمحاسبة البعض ، طبعاً ليس من حيتان الفساد!، يجري تهديد القضاة ، وخلافاً لذلك ، يجري”تحرير!” المتهم بالتهديد وبقوة سلاح الميليشيات ، مثال رافع العيساوي وقبله قاسم مصلح..! وهذا ما يجري علناً وتنقله الفضائيات ببثٍ مباشر ![ ولاية بطيخ !! كما يقول اللسان الشعبي تهكُّماً وسخريةً]
4) كلاهما غَيبيّان ، ولا يؤمنان بالديمقراطية ، رغم الإدعاء اللفظي بها . فهما يريدان عملياً
إقامة نظام ثيوقراطي ، كأترابهما الحاكمين في طهران . لذلك رأيناهما يتصديان بالإرهاب والعنف الدموي المفرط ضد أية محاولة من جانب الشعب للمطالبة بحقوقه المشروعة.. كما جرى غيرة مرة ضد “التشرينيين”!
5 ) كلاهما ساهم في تدمير الصناعة والزراعة في البلاد ليغدو العراق بلداً ريعياً بأمتياز ، يعتمد بالأساس على الإستيراد في كل ما يحتاجه من سلعٍ ومواد إستهلاك ، بما في ذلك ماء الشرب والكهرباء والغاز ، مما يتهدد أمنه المعيشي من مواد غذائية وأدوية.. ناهيكم عن الإنهيار شبه التام للخدمات والبنى التحتية من طرق ومجاري ومؤسسات تعليم ومستشفيات .. إلى جانب الخراب العمراني للمدن ، التي غدت غاباتٍ من المزابل والنفايات بكل أنواعها .. وغيرها كثيرٌ مما لا يتسع له المجال هنا !
6) كلاهما ساهم في إفقار الحياة الثقافية والروحية ، بإشاعة الجهل والخرافة والتشبث بزبالة عهود الإنحطاط .. بدعوى “التمسك بالتراث”!…كذا وتزايد ، بل وإنتشار الأمية ، ليس الثقافية حسب ، بل حتى الأمية الأبجدية !! في حين أنها كانت قد إختفت أواسط السبعينات بشهادة اليونسكو !!
……………………………
أما ما يفرِّق بينهما ، فهي ، أساساً ، أمور وأحقاد شخصية بين المالكي ومقتدى الصدر .. وليس خلافاً أو تعارضاً بين “برنامجين” أو “إستراتيجيتين”! ذلك أنَّ “الإطار” لا يريد أن يكون بعيداً عن “كعكة” السلطة و”إمتيازاتها” أولاً ، ويخاف ، ثانياً ، أَنَّ إنفرادَ الصدر بالسلطة، قد يدفعه لرفع الغطاء والكشف عن مدى إنغماس “الإطار”ورموزه في الفساد ، وغير ذلك مما يتعارض والصورة التي يسوقها المالكي وحلفاؤه . وإذا كان “الإطار” يسعى إلى عدم فقدان “الإمبراطورية” التي أقامها ، فإنه يخشى كذلك من جموح الصدر لإقامة”سلالة صدرية”حاكمة ، قد لا تكتفي بسلطة “الدولة”! ، بل تتعدى ذلك لتشمل “المرجعية الشيعية” بعد أنْ يُعبَّد الطريق إليها ! فقد أُشيرَ إلى ذلك غير مرة عبر مقولة “المرجعية الصامتة”..
………………………..
ختاماً ، كي لا نُطيل أكثر ، لا أستبعدُ أَنَّ أحداً من النهّازين والطبّالين سيقولُ :[ ما لكَ تتحاملُ على – المقارنة التفاضلية – ؟! إذ يمكنُ لعلوم الطب والأحياء ، من جسم مريضٍ ، إستخراج مصلٍ مضاد لمرضٍ ما ..!] سنقولُ بإنَّ هذا المثال تبريريٌّ ومشبوهٌ ، لأنه لا ينسحب على مجال السوسيولوجيا والسياسة !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* التركيز على هذين الطرفين لا يعني أبداً إعفاء ونزاهة المتحالفين معهما من عربٍ وكرد وغيرهم .. إذ أنَّ حلفاءهما لا يقلّون سوءاً وفساداً …إلخ لذلك إقتضى التنويه !