كوابيس
يحيى علوان
حافياً أسرعَ ، الى حاسوبه .. يشعر بخضّة في جسمه .. راحت أصابعه تتراقص
فوق لوح المفاتيح ، مخافَةَ أنْ ينسى ..
لماذا هربَتْ أخذت أَلوانَها معها وتركتني وحيداً..؟!
كانت السماءُ صافيةً ، تَتَشّهّى كِسرةَ من غيمٍ تَمُرُّ مُتهاديةً تغمز شمسَ الضحى ..
إستلقيتُ على العشب ، عند البحيرةِ أقرأُ في “غراميات غجرية” لفيدريكو لوركا !
[.. ربما نسيتُ عُمري في غمرة المنافي وقِفار الوحشة ،
ربما في إغفاءةٍ قصيرة عند الفجر لَمّا كان الظلام هشّاً..
حينَ صَحوتُ ، وجدتُ الفراغَ دَبِقاً .. يَسُدُّ الهواء ، فينهض الربو اللعين ،
يسكبُ يأسي في عيون ليلٍ دامس ،
فَرُحتُ أصبُّ خمرةَ عجزي هذياناً مُجعّداً ،
رأيتُ قدَماي تَمشيانِ دون رجلاي ، أتسمَّعُ أنينَ خَطوِي ..!
مَنْ ذا يقودُ خُطايَ ؟!
أسئلةٌ تكتِبُني بحبرِ الخوف ،
العتمةُ تُرهِف الحواسَّ ، وتشحذُ ” فُسقَ” العيون ..
فأشهقُ همساً ..
……………………
……………………
كان صاحبي ، الذي أرهقَته تضاريسُ المنافي ، يلهثُ وهو يقُصُّ عليَّ مَنامَه :
مُثقلاً بحنينِ لَقْلَقٍ إلى عِشٍ فوقَ مِئذنَةٍ .. يتدفَّأُ فيه بالأذان ،
يستيقظ “رأسي” من رماد النسيان ، حينَ أَنامُ ،
لا أَستسيغُ غواية الأحلامِ ..
أَقطعُ تذكرةً لقدميَّ ، أَتسكّعُ على شواطيء ،
أَتجاسرُ فيها على وقاحة النسيانِ بالذكرى ..
في زمنٍ لا يجودُ عليَّ بيدٍ تُرتِّقُ مِزَقَ أنايَ اللائب ..
مثل غجريٍّ ضالٍ في غاباتِ العصورِ ، يطاردُ فتاتَ خبزِ ذكرياته ،
كي لا يُضِلَّ الطريقَ إلى “الكوما” الروحية ! وسطَ بُرَكٍ من الهراء الرقراق !!
أَروحُ أُقلِّبُ جراحي ، مثل لصٍّ يجلسُ ليُحصي غنائمَه !
رجلايَ تقوداني في شوارعَ مصدورةٍ بدخانِ عوادمِ السياراتِ والحافلات ،
في طرقاتٍ وأزقّةٍ ، عارياً إلاّ من اشواق “إبن زُريق” البغدادي ..
……………………….
منذُ زمنٍ أوغَلَ في البَعاد ، ما عدتُ أَتذكره ، عرفتُ الكهولةَ ، وإنحناءةَ ظهرِ الطفولة ،
بقيتُ أَحملُ رأسي بين كتِفي ، وأيامي على ظهري ..
أَمشي فوقَ نفسي ،
جسَدي أمسى ذِكرى زماني ،
دروبي مستديرة ، مُلتَفَّةٌ على حالها ..
حُلمُي يقودُ خُطاي ..
ما تبقى لي من عمرٍ أمسى مثل صالة إنتظارٍ في محطة قطاراتٍ مهجورة ،
ترعى بها الريح ، يتربَّعُ فيها الصمتُ على مقاعد مُترَعةً بالغبار ..
أُقامرُ منذُ سنينَ من أجلِ “بيدرِ فَرَحٍ ليلةَ الحصاد”!
أَتلهَّفُ لفرحةٍ ، كلهيبِ موقدٍ يلوحُ خلف الشباك ، لتائهٍ في صحراء من الثلجِ ..
أحببتُ بلاداً رَحلتُ عنها .. أُريدُ زيارَةَ أمسِي .. كي أُقوِّمَ ما إحدودبَ من ظهرَ الذاكرة !
…………………….
بضعُ خطواتٍ تفصلني عن مكانٍ بقيتُ أُؤجِّلُ العودة إليه دهراً ،
قلبي يَنُطُّ مثلما كانَ في أوّل موعدٍ غراميٍّ ،
ما عادَتْ لي غيرَ عينٍ واحدة ! تركتها مفتوحةً ترصدُ أحلامي العابرة ..
إرتديتُ ذاكرتي ، رَشَشتُ شيئاً من عطريَ الأثير ،
خرجتُ لا ألوي على شيءٍ ، ولا أَعرفُ كيف أُريحُ الظلَّ من شمسِ الظهيرة ،
في سكونٍ فَرّت الأصواتُ منه .. وعافَه الصدى ،
مثلَ جرحٍ يَصدحُ بأنينٍ خافِت ..
……………………..
متردداً أمسيتُ أمام دهليز تحرسُه “ليثي”* ،
حينها شَعرتُ كأنَّ شَفّاطةً رهيبةً شَفَطَتْني ،
لم أَقْوَ على مقاومتها ..
أرخيتُ قوايَ مُتزحلقاً ،
شعرتُ بخفةٍ ، ربما لأنني تَرَكتُ ظلَّي مُعلَّقاً على شماعة خلفَ باب الدار ..
في نهاية الدهليز ، رأيتُ قوماً بوجوهٍ من نحاس ، تفيضُ إبهاماً ..
لا تَشي بفرَحٍ أو بحزنٍ ،
أيدي مبتورة تُصفِّقُ، لا أدري لماذا أو لِمَنْ .. !
رهطٌ “بابليٌّ”،
الكلُّ يصرخ .. ولا أحد يفهمُ ..
مدينةٌ مُسَوَّرةٌ بالطوف**والعَجاج ..
ساعة “القُشلَة” ، وحدها تعملْ !
إرتعبتُ !
حاوَلتُ العودةَ من حيث أتيت .. لمْ أَفلح !
تحلَّقَ القومُ من حولي كأنني “تسومبي!” ،
صرختُ بهم :
ـــــ أنا إبن هذه الأرضُ ، التي طَشَّتْ في الدُنى حرفَاً ،
وما جَنَتْ غير الحروب !!
جئتُ لأكتبَ بدمٍ أسود ، حِبر الغراب ــ
* نحن ، قاتَلنا ، يا هذا ، لكننا لم نَنتصرْ .. عملنا ” الممكنات !”كلِّها ..
لا ندري أنَفرحُ الآنَ أم نَحزن ؟!
ـــــ هذا سؤالٌ ساذجٌ ! أتنتظرونَ فَتْوَى بالحزنِ وأُخرى بالفرحِ ؟!
* ماذا تريدُ ، يا غريب ؟!
فنحنُ لا نملكُ إلاّ الوفاءَ وإجسادٍ من غُبار وشمس !!
ـــــ جئتُ إذ طوَّحَ الحنينُ بي ،
جئتُ لعلَّ شيئاً فيَّ يَنبُذُني .. أو لعلّي أصيرُ غيري !
قد جئتُ من قبلُ ، وربما من بعدُ … فلم يكنْ أحدٌ بإنتظاري ،
..لم أجدْ أحداً يُصدِّقُ ما أرى ،
فالكلُّ منشغلٌ بإعلان “براءة” الخطأ !
…………………….
…………………….
أنا البعيدُ .. مَنْ أنتَ يا أَنــا ؟!
في أيِّ سِركٍ تُراني ؟!
مَنْ خَلَطَ أوراقَ اللعبةِ علينا ، فلم نَعُدْ نعرفُ “الثُوّارَ” من”الكِلِدّار” ؟!!
سأكُفُّ عن الكتابةِ كي لا تصلَ رسائلُ إستغاثتي إلى مَنْ لا يهمُّه الأمر..!
وحين لن يسمعني أحد .. أروحُ أنتحبُ كي لا أختنق ..!
……………………….
يا قوم ، هذه أشباحكم تلعنُكم ..
نساؤكم حِلٌّ لغيركم ما دامَ في المحرابِ منافقٌ ، يَؤُمُّكم !!
جئتُ لا لأُصلِحَ أيَّ معنىً خارجيٍّ أو إشتقاقيٍّ ،
بل كي أُرمِّمَ داخلي الخاوي إثرَ جفافٍ عاطفي ..
وأعرفُ أنَّ “العامّةَ” تموتُ بِبَهجةٍ مَجّانيةٍ ،
فلا تُعطيهم البلاد غير الحق في الموتِ أيامَ الحرب !
والذلَّ أيامَ السِلم لـ”بناءِ” الوطنِ من جديد !!
………………..
ــــ إتركني ! لماذا تقُصُّ عليَّ ما أَعرفه .. دعني أواصلُ غَفوَتي ،
أستمتع بشتراوس النبيل !!
* تَمهّلْ !! لا تَتَورّطْ كثيراً بالعاطفةِ والحماسة !! قالوا : نحنُ لَمْ نَرهنْ سوى طيبتنا ، كي لا نتأخرَ عن” الزَفَّةِ”ونُرمى بسِهامِ “الأنعزالية”!
فها نحن مَنْ نحنُ !
لنا ما تبقّى لنا من الأمس ،
أَبيَّةٌ نفوسُنا كالطير يُحلِّقُ أبعدَ من مدى الرصاص ..!
هكذا وُلِدنا كسائرِ الخلقِ !
لنا ما لنا .. ولنا ما لغيرنا من سماء ،
لَهُمْ ما لَهُمْ .. ولهم ما لنا من هواء ،
لَهم دينهُم .. ولنا “ديننا”!
لنا ما لنا.. وليس لهم ما لنا من أيادٍ بِيضٍ!
لنا تبتسمُ المرايا .. ولهُم الذُعرُ من صورهم فوقَ سطحِ الماء !
……………………
ـــــ الكلُّ ضد الفساد ، والجميع يريد خيرَ الناس والشفافية ..إلخ !!
مَنْ المسؤول إذاً ؟!
هل أكونُ أنا المسؤول وعليَّ أنْ أعتذر؟!
… عنْ ماذا؟!
الكلُّ تَبرّأ ، فلا أثَرَ لِمَنْ غرزَ مخالبه في ظلالنا ونجا ..!
أيكونُ الكذبُ الصفيقُ أصبحَ أعلى مراتب الحقيقة ؟!
إذ غدت الأخيرةُ مؤجلةً إلى حياةٍ غير هذه ..
والذكرياتُ إلى أَعمارٍ أخرى ..
فما عادت النزاهةُ والصِدقُ ذا نفعٍ ..!
أيتحتَّمُ عليَّ الآنَ ، إذاً ، أَنْ أُحكمَ بناءَ عبارتي*** كي لا يَغضبَ “القومُ”؟!
كمْ هيَ ساديةٌ همومُ الناس !!
لذلك سأرسمُ وجه “إيديت بياف” فوقَ صخرِ الروح ، تُسلّيني ،
تعويذةً كي لا تُغريني الآفاقُ المُلبَّدةُ بالرحيلِ من جديد .. ]
…………………..
…………………..
أَفاقَ إذْ سقطَ من السرير.. يلهثُ مُقطَّعَ الأنفاسِ .. يتصبَّبُ عَرَقَاً بارداً …!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ليثي إلهة النسيان في أساطير الأغريق .
** جدار من الطين والتبن ، لا تدخل الحجارة ولا الطابوق في قوامه .
***أقولُ لمُغرضٍ قد يقراُها عمارتي ، أنا لا أملكُ حتى طابوقةً واحدة في خربة بأيٍّ من بقاع العالم ،
ناهيكم عن عمارة !