ينبع مصطلح المدينة الفاضلة من أحلام الفيلسوف اليوناني أفلاطون، وهي مدينة خيالية رغب أفلاطون أن يحكمها الفلاسفة; لأنهم أهل حكمة، وهذه الحِكم هي من تجعل الفضائل حاضرة وسائدة في بناء وإنشاء المدينة الفاضلة، وتعد المدينة آنفة الذكر في منظور أفلاطون (رمزًا للكمال الإنساني داخل المجتمع) .
تحمل هذه المدينة كل الفضائل التي تُعنى بمبدأ التكافل الاجتماعي بين الناس، فضلاً عن معالم الصفات الحميدة في الذات الإنسانية من شجاعة وكرم وعفة ورجاحة عقل… الخ من الصفات المحمودة التي من شأنها تمنح الإنسان مكانًا عليّا.
عمل الإنسان السوي على اكتساب هذه الصفات وتنميتها في الذات من كونها صفات حاملة في طياتها فضائل يرغب كل ذي لبٍ العيش فيها ومعها، وهذه الصفات دعا إليها الحكماء من الناس، ومنهم الشعراء الذين يعدون سفراء الحرف والحكمة في الأقوال المسجلة في صحائفهم وبين أروقة قلوبهم، وقد عمد الشعراء إلى إيراد هذه الفضائل في اشعارهم والدعوة إلى التحلي بها والعمل على ترسيخها في الذات البشرية ومدح العاملين بها، وقد حفل الشعر العربي بهذه الفضائل إذ لا يكاد يخلو شعر شاعرٍ منها.
من منطلق هذه الفضائل أبحر أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الرحمن حميد ثامر في البحث والتنقيب في رصد هذه الفضائل في الشعر العربي من خلال كتابه آنف المستهل في هذه القراءة – المدينة الفاضلة في الأدب العربي – متخذًا منهجًا يقارب منهج قدامة بن جعفر في تصنيفه للفضائل الأخلاقية الأربع ( العقل، العدل، الشجاعة، العفة) فضلاً عن إيراد الباحث فضائل أخرى تكتمل من خلالها منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية عنده .
يستهل أستاذنا الفاضل عبد الرحمن حميد في كتابه الحديث عن أهمية العقل في منظور المدينة الفاضلة من كونه – أي العقل – المكانة الأعلى التي أكرم الله تعالى بها الإنسان في تقويمه في ( النشأة والسلوك والتربية) وكما يعد العقل الركيزة الأساس في بناء الفكر المجتمعي، وبيّن الأدب العربي مكانة وميزة العقل في الأقوال المنثورة والمنظومة، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما يروي صاحب نزهة المجالس:
وأفضل قسم الله للمرء عقله وليس من الأشياء شيء يقاربه.
وليس ثمة من شك في أن العقل أعظم ما وهبه الله تعالى للإنسان، فبالعقل يميّز بين الطيب والخبيث وبه ومن خلاله يميز بمن يفقه وبمن لا يفقه من الأقوال والأفعال.
بحث الكاتب في هذا الصدد عن جميع ما يتعلق بالعقل من معاني مشتركة، وذم كل من له أدب بلا عقل، وأعقب الحديث بالنهي عن اتباع الهوى، والتسليم بقضاء الله تعالى وقدره، والحث على طلب العلم وغيرها من الفضائل وكل ما يخضع إلى مفاهيم المدينة الفاضلة من حيث التفكير والمنطق.
يأتي الشافعي والمعري والتهامي في مقدمة الشعراء الذين أورد لهم الكاتب استشهادات من أشعارهم التي بينت جمال العقل والدعوة إلى بيان أهمية العمل والتفكير من خلاله.
ينقلنا الباحث إلى الحديث حول الركيزة الثانية من ركائز بناء المدينة الفاضلة وهي العدل الذي كما هو متواتر ومعلوم يبعث على انتشار الطمأنينة في كافة جوانبها من عيش آمن ومأكل ومشرب طيبين وكل ما ينطوي تحت مظلة العيش الكريم للإنسان… عمد الأدباء إلى مدح الصفات النبيلة الجالبة للعدل من جودٍ و كرمٍ وعفة ووفاء وكل ما من شأنه يمنح البشرية حياة بعيدة عن العناء والشقاء، إذ نلحظ أن الشعراء أولوا أهمية كبيرة في مدائحهم حول الرجل الجواد يقول أبو تمام في هذا:
ومبتدر المعروف هباتـــــه إليهم ولا تسرى إليهم غوائلـه
فتى لم تغلي الحقود بصدره وتغلي الأطياف الشتاء مراجعة.
فالجود من الأخلاق الحميدة الجالبة للعدالة التي عدت من ركائز وأساسات المدينة الفاضلة، والجود ( أصالة مرتبطة بالنفس والأخلاق) عند كل ذي لبٍ، وهو – الجود- من سنن وأعراف العرب منذ القدم، ومن جملة الكرم (الضيافة) وهي من معالم الكرم، لأن إكرام الضيف من الإيمان بالله تعالى، إيمان راسخ عند من فهم المقاصد الإلهية وما يترتب عليها من منافع بشرية قد يجهل قيمتها الكثير من الناس ، ودعا الشعراء إلى هذه الفضيلة – العدل- وإلى كل ما يتعلق في قيامها من إحسان، وحرمة سفك الدماء، والسماحة والوفاء…. ولم تقف الدعوة إلى هذه الفضيلة وغيرها في منظوم الأقوال فحسب، بل أورد الكاتب من منثور الأدباء كذلك كالأصمعي وغيره.
يحرص سكان المدينة الفاضلة ومؤسسوها على فضيلة العفة في العيش، والعفة هي من جملة الاتجاهات التي أوردها الكاتب في كتابه، والتي من خلالها – العفة – يسعى الإنسان السوي إلى التخلق بها والمداومة عليها، وقد سعى الأدباء إلى التركيز في العفاف المثالي في منظوم الأقوال ومنثورها عندهم من أجل رسم صورة في أذهان الأجيال. ومما جاء في أقوال الشعراء في ذلك:
خلوت بها ليلاً ولم أقض حاجةً ولست على ذاك العفاف بنادمِ .
وتأتي تباعًا الفضائل الأخرى التي بُنيت عليها لبنات المدينة الفاضلة من الشجاعة التي كانت معقودة في ناصية أكثر الأغراض الشعرية مساحة وهو المديح الذي منحه الشعراء للقادة ومن اتصف بفضيلة الشجاعة من غيرهم ممن يشار لهم بالبنان في ميادين الحرب، فالشعراء كانوا يحرصون على تشجيع هذه الفئة من الناس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، وقد جاء شغف الشعراء بالحديث عن الشجاعة في أشعارهم منطلقة من ( نفوسهم التي تتوق إلى التضحية).
لعل من أجمل المواطن التي يقف عندها الكاتب هي إيراد فضيلة قمة في العضة، فضيلة ربما تبدوا غريبة عند البعض، هي فضيلة (الحذر من تمني طول العمر) إذ عدّها من سمات أهل المدينة الجيدة، الذين علموا حقًا أنه ليس (من الفيد لهم أن ينكروا الواقع الذي يشير إلى أن الإنسان … إذا ما تقدم به العمر، ويدركه الهرم، وما يناله من الأمراض والأسقام فيصير الكبير الهرم بغيضًا على من كان يحبه، ثقيلًا على من كان يستخفه، لذلك فالأجدر بهذا الرجل الكبير أن يلتزم الصمت) من ذلك قول المعري:
إذا ما أسن المرءُ أقصاه أهله وجار عليه النجلُ والعبد والعِرسُ
وأكثر قولًا والصواب لمثله على فضله أن لا يحسّ لـه جَرَسُ.
لقد أدرك الشعراء القيم الفاضلة في حياتهم التي صارت مرآة في أشعارهم لمن أراد التحلي والتغني بها، تلك القيم والفضائل التي ارتكزت على بُعد ما يحملونه من نظرتهم للحياة بكافة جوانبها، وبما يحمله العقل من إدراك أهمية العمل بهذه الفضائل والدعوة إليها والحث على العمل بها…
ربما لا أجد كلمات تصف جمال ما حواه هذا الكتاب بين دفتيه من عظيم القيم و الحِكم التي من شأنها تفضي للقارئ محبة العمل والاتباع فيما يقرأ، فضلًا عن نشوة الفرح التي تعتري القلب في مثل هكذا ارشادات تربوية حرص الكاتب على إيرادها، وتمهد هذه الإرشادات للقارئ طريق الهداية للعمل والسير على نهج هذه الفضائل التي استحقت أن تنال عمارة هذه المدينة الفاضلة .