الأسطورة في الشعر العربي الحديث
وليد عويد حسين
يعد الفن الأسطوري بكل رموزه وفنونه وآلياته من أهم وأبرز الآليات المنتجة لجزء كبير من شعرية الحداثة التي حاول الشاعر العربي الحديث توظيفها في تجربته الشعرية الحداثية لإنتاج شعرية جديدة خارجة عن مألوف القصيدة العربية الكلاسيكية، فالشاعر يعمد إلى رموز قديمة ضاربة في عمق التأريخ وليس لها علاقة بالفن أو الشعر لكنه يعمد إليها بإعطائها صفة جديدة غير صفاتها الثابتة، ومن ثم يضعها في ثنايا النص بغية انتاج معنىً شعريًا جديدًا يعبر من خلاله الشاعر عن فكرة غائبة في ذهنه يكون الرمز الأسطوري أفضل آلية للتعبير عنه وإيصاله بأقصر الطرق إلى متلقي النص، من ذلك قول الشاعر محمود درويش في قصيدة ( أيام الحب السبعة) :
الثلاثاء: عنقاء .
يكفي مرورك بالألفاظ كي تجد
العنقاء صورتها فينا، وكي تلد
الروح التي ولدت من روحها جسدا…
لابد من جسدٍ للروح تحرقهُ
بنفسها ولها، لا بدَّ من جسدٍ
لتظهر الروحُ ما أخفت من الأبدِ
فلنحترق، لا لشيءٍ، بل لنتّحدا ! .
إن الفكرة الماثلة في هذا النص المنتجة شعريًا بوساطة رمز العنقاء الأسطوري تفيد التعبير عن صورة الصمود والبقاء والتجدد والانبعاث من تحت رماد الموت والولادة الجديدة المختلفة المنتصرة على قهر الموت وشدته، وهذه الولادة وذلك الصمود إنما هو في حقيقته لا يعبر عن شخص الشاعر وحده فحسب، بل هو من باب إطلاق الخاص على العام وإرادته به، أي أن الشاعر أراد التعبير عن فكرة صمود الشعب الفلسطيني المقهور وانبعاثه كل مرة من تحت رماد أنقاض الدمار التي تخلفها آلة الحرب الصهيونية، وأنه شعب متجدد لا يقهر بالموت ولا يهزه دمار المنازل. وقد استخدم درويش رمز اسطورة طائر العنقاء الفينيقي على وجه التحديد لعدّة أسباب منها – هذا الطائر – الخرافي الأسطوري خارجًا في أصل أسطورته من أرض كنعان (فلسطين) لذا فقد وظفها درويش للتعبير عن بلاده على وجه الخصوص، والسبب الآخر أن طائر العنقاء تقول أسطورته أنه طائر متجدد يعيش ألف عام ثم قبل أن يموت يخرج جزء منه متجهًا إلى الظل لكي تنبعث منه عنقاء أخرى تواصل فعل البقاء والصمود وهي الحال نفسها تمامًا التي قصدها درويش وحاول التعبير عنها بوساطة هذه الأسطورة وهي أن الشعب الفلسطيني الصامد كلما استشهد منه مناضل انبعث منه مناضل آخر يواصل مسيرة البقاء والحياة والصمود.
وهنا يورد درويش إشارة ضمنية أخرى مفادها أن الشاعر العربي على جهة العموم والشاعر الفلسطيني على جهة الخصوص لا يقف لينعي حضارة تموت بعد الهرم. بل هو في الحقيقة يبشر بولادة جديدة.(1)
يوظف الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي جانبًا مهمًا من جوانب الفن الأسطوري القديم بغية إنتاج شعرية جديدة ملغمة بالغموض ومتخمة بتلك الغنائية الحزينة فيما يوظف أسطورة (عشتار) من أجل بناء مشهد (الحياة والموت والانبعاث) يقول في إحدى قصائده:
حيث تنشق البذور
ترضع الدفء من الأعماق تمتد بذور
لتعيد الدم للنبع وماء النهر للبحر الكبير
والفراشات التي حقل الورود
فمتى عشتار للبيت مع العصفور والنور تعود؟
فالشاعر في هذا النص تتجلى فكرته من خلال آلية الحضور/الغياب – الموت/ الحياة – فهو يحاول تصوير مشاهد الموت والدمار والإرهاب الحديث من خلال العودة إلى الأساطير القديمة ( عشتار- تموز) يقدمها برؤية صوفية حديثة، فهو يقول كما أن عشتار حين تموت ستقوم بولادة تموز من رحمها كما يولد النهر الصغير من البحر الكبير ثم يعود إليها ويتحد ويذوب في جسدها لتقوم حياة جديدة بالانبثاق مرة أخرى بقالب جديد، وفحوى مراد البياتي هي التعبير من خلال توظيف رمزية أسطورة عشتار وتموز عن الفكرة الصوفية القديمة الضاربة في عمق الموروث الإسلامي المعبرة عن فكرة اتحاد ذات الإنسان الصوفي بالذات الإلهية الخالقة لأجل تكوين حياة جديدة منبعثة من تحت ركام الحياة القديمة المتمثلة بموت الإنسان الحتمي بعد حياة طويلة أو قصيرة.(2)
على الجانب الآخر يحاول الشاعر السياب توظيف الجانب الأسطوري القديم بقالب شعري حداثي معاصر بغية إنتاج نص شعري جديد من خلال حضور النسق الأسطوري في النص الشعري بكل تداعياته في صناعة الصفات الجمالية التي تمكن النص من الخلود في ذهن المتلقي، فضلا عن أن الشاعر يلجأ إلى استثمار الرموز الأسطورية لأجل رسم ملامح فكرة معينة تدور في ذهنه ومن ثم التعبير عنها وقولبتها بقالب جديد بغية إيصالها إلى متلقي النص، تلك الفكرة لا يمكن للشاعر التعبير عنها بوساطة التصريح لأسباب كثيرة منها خوفه من التسلط الفئوي أو العرف الاجتماعي لاسيما إذا كانت الفكرة المراد التعبير عنها ذات منحى سياسي أو عاطفي لذلك يلجأ إلى استثمار الرموز الأسطورية.. يقول السياب:
أيها المنقض من اولمب في صمت المساء.
رافعا روحي لأطباق السماء.
رافعا روحي((غينميدا)) جريحا.
صالبا عيني((تموزا )) مسيحا.
أيها الصقر الإلهي ترفق.
إن روحي تتمزق.
إنها عادت هشيما يوم أن أمسيت ريحا.
…..
إن السياب حاول التعبير عن ذاته من خلال صور الاساطير الماثلة في النص، أراد التعبير عن فكرة التضحية والمعاناة التي عاشها طوال حياته حتى صار ضحية الآخرين، متحملا عذاباتهم وما يأتي من ورائهم لذلك عمد إلى اختيار رموزه الأسطورية بدقة عالية وتوظيفها لبناء ملامح هذه الفكرة وهي أسطورة_ غينميدا_ الشاب اليوناني الذي ذهب ضحية نزوات الآلهة التي أرسلت ذلك الصقر الجارح ليختطف غينميدا ويأتي به إليها، والاسطورة الثانية تمثلت في رمز تموز الذي تقول الخرافة أنه ذهب ضحية الآخرين حين أرسلوه إلى الغابة لقضاء حوائجهم فمزقه الخنزير البري بأنيابه، ومن ثم أسطورة _ المسيح_ الذي تعرض إلى الصلب بسبب خطايا قومه فصار هو الآخر ضحية، ومحصلة القول أن السياب أصبح حاله حال هذه الاساطير جريحا مثل غينميدا ممزقا مثل تموز مصلوبًا مثل المسيح.. مهشما بعد أن أمسى ريحا.. تماما مثل أولئك…
الهوامش
ينظر: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، ريتا عوض، دائرة اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى، بيروت، لبنان، 1974، 7.
ينظر: مضمون الأسطورة في الفكر العربي، أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1973، 259-160.