“شاش”.. فيلم عراقي يكشف الواقع القاسي لمجتمع ممزق
نضال قوشحة
زيف الأحلام القادمة وقسوتها
في واقع تختلط فيه الأحوال، وتذهب المصائر والأحلام في مهب الريح، يقدم فيلم سينمائي قصير بعنوان “شاش” رؤية عميقة عن واقع مأزوم يعيشه ناس بسطاء في حال من الشقاء الإنساني الذي خلفه قهر وظلم إنسان لآخر. و”شاش” فيلم عراقي يضع يده على جرح يعاني منه الملايين من الأطفال في عالمنا العربي وليس العراق وحده.
يدخل فيلم “شاش” العراقي، وهو من إخراج علي الكعبي عن نص كتبه أحمد طالب، منطقة بالغة الحساسية تتعلق بمستقبل الحياة في العراق وآفاق تحقيق أحلام شعب بوطن ينعم بالسلام والهدوء.
ويتقاطع الفيلم مع الأوجاع اليومية التي يعيشها الناس البسطاء في العراق، والفوضى التي يعيشون فيها، حيث تختلط الحقيقة بالخيال والمواجع بالأفراح لتكون نتيجة ذلك مستقبلا يأسره القلق والخوف من مجرياته.
من خلال حياة صبية يافعة تعيش في بيئة فقيرة (فاطمة زهيري) يرسم الفيلم بحساسية وألم مفرطين حكايا غد مأزوم تتصارعه أحداث يوم عصيب. فبطلة الفيلم يافعة مصابة في عينيها اللتين لا تبصر بهما، وتضع عليهما رباطا من الشاش لحمايتهما من الأذى وتعيش مع والدها (إياد فيصل) في بيت عراقي بسيط.
الظلام أرحم
الفيلم يختار لحظة متوهجة دراميا لتقديم أفكار متعلقة بمرارة الظرف الراهن
واختار منتجو الفيلم لحظة متوهجة دراميا لتقديم أفكار متعلقة بمرارة الظرف الراهن والحكاية التي سيعالجونها، فمكان الحدث بيت اليافعة والزمن في يوم فك هذا الشاش ليعود البصر إليها كما قال الطبيب.
تجلس الصبية مع والدها في فناء بيتهما البسيط وعلى مقربة منهما عرس تتعالى فيه أصوات الغناء والفرح مما يحفز خيالها في منادمة لحظات فرح مع صديقاتها وهن يغنين ويرقصن فرحا وطربا. لكن وجه والدها الذي يملأه الحزن وهو يعزف لحنا على آلة العود، يشي بأن ثمة أمرا مفاجئا سيقع.
المخرج علي الكعبي
- مخرج سينمائي درس الإعلام ثم السينما في العراق.
- توجه نحو سينما خاصة تحاكي أوضاع بعض الشرائح الاجتماعية خاصة الأطفال.
- قدم فيلم “ذهان” الذي عالج فيه مشكلة التعليم عند الأطفال، وفيلم “شموع التسامح” و”ولادة شهادة” و“المادة 30”.
- قدم فيلم “الخيمة” الذي حاز به الجائزة الثانية في مهرجان كلية الفنون الجميلة في بغداد.
لحظات تمر فيقوم الوالد بالتوقف عن العزف وحل حزام الشاش من حول عينيها ويعود إلى العزف بحزنه الذي كان عليه، بينما تقوم الفتاة بنزعه كاملا بحذر شديد، لتبدأ بمشاهدة أطياف ما كانت تحلم به، فتبصر البيت البائس الذي تعيش فيه والمليء بالفقر ومظاهر التداعي.
لا ينفك الأب عن العزف الحزين، ولا تنفك الصبية عن الاسترسال بأحلامها وهي تخاطبه بين الفينة والأخرى، متحدثة عن سعادتها بأنها أخيرا سترى مشطها الذي تسرح به شعرها وبيتها الذي تسكن فيه وصديقاتها في العرس القريب والأهم وجه والدها الذي اشتاقت لمحياه.
وفي لحظة مباغتة تشكل ذروة التشويق الدرامي في الفيلم، تختار الفتاة أن تعيش في حلم جميل مظلم على أن تعيش واقعا مؤلما في النور. فتعود لربط الشاش على عينيها مختارة أن تعيش في الظلمة الأجمل التي كانت عليها.
تتحرك نحو الشباك فترى يافعا بائسا يعمل في جمع الأغراض القديمة، وتكون صدمتها لدى معرفتها بأن أصوات وتهاليل الفرح التي كانت تسمعها لم يكن مصدرها حفل عرس إنما موكب تشييع شهيد يمر بالقرب من شباك بيتها، حتى وجه أبيها الذي كانت تتلهف لرؤيته تشاهده مليئا بالهم والكآبة. تصدم الفتاة لما ترى، فليست هذه الأحلام التي كانت ترنو إليها وليست هذه الآمال التي انتظرتها لتشعر في قرارة نفسها بالانكسار والمرارة.
لا يقدم الفيلم واقعا سياسيا بشكل مباشر، لكنه جعل منه خلفية للأحداث التي يرويها. فالعامل السياسي المأزوم هو ما أوجد ظرفا معيشيا متهالكا ومجتمعا يقتات المرارات وخيبات الأمل. ويقدم الفيلم بذكاء حالة التمزق الاجتماعي من خلال حياة أسرة فقيرة في مكان ما من قلب العراق، تعيش ظروفا بائسة بسبب زيف الأحلام القادمة وقسوتها، ويستعرض حياة صبية وظرفها الصحي الذي يحاصرها ومقدار الأمل الذي تعيشه.
يقول علي الكعبي عن فيلمه وطريقة تعامله في تقديم حال العراق ومستقبله وكيفية تقبل الناس له “هناك تأثيرات استطاع الفيلم وضعها في مخيلة العائلة وتصورات واضحة عن حال الطفل الذي ينشأ في هذا المحيط المتحجر، فأطلق رسائل توعية وإنذار عن ضرورة إزاحة الستار عن تلك المناطق المنهارة. وكذلك ناقش وعالج موضوعات متداخلة الواحدة في التالية.. كالفقر والعشوائيات والضوء والظلام والموت والحياة وغيرها”.
ولم يلجأ الفيلم إلى تقديم حالة سردية فيها تقاطعات وتصاعد في حبكة الحدث الدرامي، بل انتهج بديلا عنها وضع حالة درامية واحدة تتعلق بالفتاة المريضة وتشوقها إلى انتظار حدث هام، وقام الفيلم على تشريح هذه الحالة وتعميقها بأسلوب حقق مشهدية سينمائية خاصة.
فيلم يطلق إشارة تحذير
ويقول الكعبي في ذلك “اعتمد الفيلم على إيجاد حالة درامية واحدة بالفعل. لكنه عكس حالات درامية مختلفة في نفس المتلقي. وهذا ما كنا نهدف إليه في الفيلم، بمعنى خلق صراع لدى المشاهد في انتظار لحظات تظهر واقعا معينا. هي تسير باتجاه واحد ولا تنعكس فجأة، لتصدم المشاهد وتغاير توقعاته، كمشهد العرس الذي اتضح في ما بعد أنه تشييع لشهيد في إحدى مناطق العراق المتعبة. كانت مغامرة حقيقية في تبني حالة واحدة وتعميقها باستخدام المؤثرات وعناصر المفاجأة”.
الفيلم لا يقدم واقعا سياسيا بشكل مباشر، لكنه جعل منه خلفية للأحداث التي يرويها من خلال بطلته
ويذكر أن فيلم “شاش” شارك في العديد من المهرجانات السينمائية داخل العراق وخارجه، فعرض في مهرجان تربوي في العراق ومهرجان السينما والتلفزيون في البصرة ومهرجان سينمانا في عمان ومهرجان سينفوياج الدولي في الهند ومهرجان العودة في فلسطين، وفي مهرجانات أخرى في المغرب وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.
وحقق العمل جوائز سينمائية عديدة منها أربع في مهرجان وزارة التربية للفيلم السينمائي القصير في محافظة البصرة للعام 2021 وهي جائزة أفضل فيلم سينمائي قصير، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة أفضل إخراج وجائزة أفضل موسيقى ومؤثرات صوتية. كما نال الجائزة الأولى في مهرجان السماوة، وتنويه لجنة التحكيم في مهرجان “The fear faire film festival” في الولايات المتحدة.
وعن أهمية حضور الفيلم في ساحة المهرجانات ودور السينما العراقية وما تقدمه من مساهمة في تحقيق حضور حضاري باسم الفن العراقي يقول علي الكعبي “يقع على عاتق السينما مسؤولية نقل الوقائع والمجريات في البلاد إلى العالم بشكل فني مفهوم ومؤثر باعتبار أن شعوب العالم باتت تفهم عن طريق الفن والصورة أكثر من الأحاديث والبرامج الإعلامية التي لا تحدث تأثيرا يبقى في الذهن كما تصنع السينما. وهذا ما يجب على المخرجين أن يعملوا عليه لإرسال أفكارهم المؤثرة عن طريق أفلامهم إلى العالم”.