الصعاليك تتناول:
رحيل الفنان بسام فرج بسبب الكوفيد 19
اعداد: عصام الياسري
كتب في الاعلام
فيصل لعيبي
مقالي الذي نشرته المدى مشكورة هذا اليوم عن الراحل الفنان الساخر بسّام فرج
بسّام الساخر
عندما فكرت بوضع هذا العنوان : ” بسّام الساخر” ، ظهر لي أنه يشبه الى حدٍ بعيد الصوت الموسيقي لإسم الفنان حمدان الساحر ، شيء له طعم ورنّة تجعلك تحتفظ به مهما طالت الأيام وامتد بك العمر، والسحر مثل السخرية في مفعوله . كان الفنان حمدان الساحر يردد في أحدى اغانيه : ” رمانتين بفد إيد ما تنلزم ” ، مختصرا لنا حكاية الحياة وتقلباتها وإستحالة السيطرة عليها وهي أيضاً سخرية ممن يظن العكس . والسخرية أو الضحك هنا يشبهان البكاء، كما ردد مرة أبو الطيّب الذي رام ملكاً فخذله القدر في لحظة فارقة مضحكة ومبكية معاً لأنه مع كل قصائده البليغة حول الشجاعة والإقدام ، لم يستطع أن يدافع عن نفسه عندما حوصر من قبل من هجاهم وكال لهم ما يثير غضبهم. شيء من الغرابة أو الإغتراب وربما الغربة، وهذ اما نمر به هذه الأيام، ألم تعزلك الكرونة عن كل ما حولك وتجعلك تشعر بغربة و بما لم تكن تشعر به من قبل ؟.
الغربة عالم يكتنفه الغموض ، تذهب إليه وانت لا تملك غير الإرادة التي قد تخذلك هي الأخرى أيضاً عندما تحتاجها، والغربة ليس في الإبتعاد عن الأوطان والأهل والخلاّن، فقد تشعر بها وانت في وطنك وربما حتى وانت بين أهلك المقربين. شيء لا يمكن وصفها و الغربة أيضاً، هي ان تشعر بانك تختلف عن بقية الناس، ولهذا يمكن تسمية المبدعين عموماً وخاصة الذين يثيرون المتاعب في مجتمعاتهم ويطرحون أسئلة مختلفة بــ ” المجانين ” .
الإرادة هنا تصبح مثل البوصلة لصاحبها ، يهتدي بها ويتبع خطاها، فعندما كنتُ طفلاً قررت ان اصبح رساماً ، وتتبعت هذا القرار حتى نهايته، فهل توصلت للرسم الذي تصورته في طفولتي ؟ لا أعلم وقد لا أعلم حتى نهاية العمر. لكننا في كل الأحوال نتبع خطى الإرادة أو المقدر و المكتوب كما يسمونه العامة عندنا.
في عام 1964 قُبلنا في معهد الفنون الجميلة ، الرائع صلاح جياد المسعودي والمدهش حسن شويل وكاتب هذه الحروف، وكانت لنا سمعة حميدة بين الطلبة كبصريين وكرسامين معاً. بعد سنة او اكثر تعرفنا على الأخ سامي الربيعي ، الذي كانت له إهتمامات متنوعة وخاصةً ما يتعلق بالطفل وثقافة الأطفال . كان الصديق سامي متحمساً لإصدار مجلة للأطفال وفاتحنا بالأمر، كنا، الراحلون الفنانون حسن شويل ، بسّام فرج ، صلاح جياد و الذي لا يزال حيا يرزق فيصل لعيبي صاحي، – يا لحزني وانا اتذكر هؤلاء الاحبة الذين رحلوا واحد تلو الآخر في الغربة التي أصبحت بالنسبة لنا غربتان – وفي هذه الجلسة تعرفنا على الصديق بسّام، وبسرعة تآلفت قلوبنا وكأننا نعرف بعضنا منذ سنين . لقد رسمنا كل مواد المجلة وعلى ورق شفاف وكل منا اخذ موضوعاً خاصاً به وأذكر ان المجلة كانت بإسم علاء الدين او شيء من هذا ، لكن هذه التجربة لم ترى النور لضعف الإمكانيات، فنحن طلبة في المعهد ونعيش في القسم الداخلي وبسّام من عائلة كادحة بالكاد تستطيع تدبير امورها وسامي يعول على مجنون و مغامر مثلنا يملك المال والرغبة في جعل هذا الحلم يتحقق ، بعد ان يأس من الجهات الرسمية في تمويله . لكن المجانين عادة يندر ان نجدهم في طبقة المترفين و خاصة في عالمنا المتخلف هذا.
ذات يوم جاءني الصديق الفنان الراحل أيضاً إبراهيم زاير ليخبرني بوجود وظيفة رسام في صحيفة ، فقدمت طلباً وقبلت فوراً بعد ان راى المشرف العام على المشروع وأسمه علي منير وهو مصري الجنسية – جاء مع تقلبات الأوضاع في العراق بدعوة من حكومة عبد السلام عارف الذي كان قد جلب عدد كبير من الأشقاء المصريين الى العراق بما فيهم جنود وضباط لتدعيم حكومته التي تشكلت بعد إنقلابه على حلفائه في حزب البعث الذين شاركهم الإنقلاب الدموي على حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث كان لعبد الناصر اليد الطولى في هذين الإنقلابين المشؤومين وكبدا العراقيين عشرات الألوف من الضحايا والشهداء من خيرة ابناء الشعب المدافعين عن قيم المدنية والتحضر والديمقراطية – في هذه الجريدة، التي كما يبدو تمثل رأي الإتحاد الإشتراكي في العراق، وجدت كادرها يتكون من معظم جماعة ” مقهى المعقدين ” * الذين هزتهم الجرائم التي إرتكبها نظام 8 شباط الدموي الأسود عام 1963 . مثل الشاعر مؤيد الراوي الذي كان سكرتير تحرير الجريدة حينها والكاتب المسرحي عارف علوان الى جانب الفنان عامر العبيدي وكذلك كان هناك الكاتب سهيل سامي نادر و الشاعر عمران القيسي، وما ادراك ما عمران القيسي. لكن بعد فترة تم تاميم الصحافة وتشكلت المؤسسة العامة للصحافة التي تشرف عليها وزارة الثقافة والأرشاد وقتها، فتم تنسيبي الى مجلة إلف باء ضمن فريق عملها المؤسس ، فإلتقينا مجدداً الراحلان صلاح جياد وبسام فرج والعبد الفقير. فتوطدت العلاقة فيما بيننا مجدداً وكنا لا نفترق إلا في إنتهاء الدوام فنذهب صلاح وانا الى مقهى ام كلثوم لترطيب الأعصاب ويذهب بسام الى مقهى المعقدين لإثارة الأعصاب ،حيث ينتظره دعاة الثورة الدائمة والوجوديين واللامنتين كما يطلق عليهم وقتها.
في ذلك المقهى كان بسام يتسلح بالأفكار والحكايات لصفحتيه في إلف باء الأسبوعية ، لأنه كثيراً ما يحير بالمواضيع التي عليه تناولها ، فتأتيه النجدة ممن حوله من الأصحاب مثل الراحل الفنان الفوتوغرافي جاسم الزبيدي او صلاح جياد وغيرهما من العاملين في مؤسسة الصحافة إذ يمدونه بالأفكار فيطير فرحاً ويامر لهم بالشاي واحياناً نفر كباب لكل واحد منهم.
كانت ألف باء في بدايتها اكثر مرونة وإنفتاحاً لكنها بعد إنقلاب 17 – 30 تموز عام 1968 تحولت الى مجلة تأتمر بأوامر حزب البعث وخطه الفكري والسياسي، ولهذا فقدت شيئاً من لمعانها الأول وحياديتها النسبية في تناول الأمور،
أصبح بسام وكل من على شاكلته من الخارجين عن السرب يشعرون بالقبضة التي بدات تشتد على نوع المواضيع المراد نشرها أوالتثقيف بها.لكنهم كانوا يجدون دائماً ثغرات للتعبير عن انفسهم بشكل مقنع وغير ملفت للنظرعموماً .
بسام شخصية ودودة ، مسالمة، ينصت كثيراً لمحدثه وهو قليل الكلام عموماً ، ومن جميل الصدف ان الرسام الكبير غازي كان يعمل في دار الجماهير للصحافة – صار إسمها هكذا بعد إسقاط نظام عبد الرحمن عارف ، ولهذا فكنا نحن العاملين في هذه المؤسسة نعيش مع مبدَعَيْنِ لكل واحد منهما طريقته الخاصة وشخصيته المتميزة، لكن غازي وقتها كان يخط العناوين وبعض الموتيفات وليس رساماً ساخراً، بعد ان فقد حماسته الأولى ، وربما أدرك ان أسلوبه لم يعد مناسبا للمرحلة الجمهورية ، وهي ” جمهورية خاكية ” حسب تعبير عبد السلام عارف ، لا تحب النقد ولا السخرية أبداً فرضيَ بما هو موجود لسد الرمق وقد ظهر ذلك بوضوح في رسومه الأخيرة خلال الحرب العراقية – الإيرانية ، وربما كان عدم قناعته بما يرسم سبباً في عدم إهتمامه بالرسوم التي نفذها بناءً على طلبات النظام بضرورة مساهمة الجميع في دعم الحرب والدعاية لها او تمجيدها.
كان غازي الرسام ملك الرسم الساخر في العراق في المرحلة الملكية وقد جذب الجميع، الملكيين ومعارضيهم اللبراليين والديمقراطيين وحتى اليساريين ، وهو في هذا يشبه الفنان المدهش عزيز علي ، حيث كانت الفترة تتحمل مزاحهم ونقدهم ووجهات النظر التي يطرحونها، وكان أسلوبه النقدي ينصب بالأخص على القضايا الإجتماعية وامراض المجتمع والخرافات والشعوذة والعادات السيئة والفقر والجهل او المرض مع بعض الرسوم التي تندد بالإستعمار عموماً . ويبدو ان غازي شخصياً لا يميل الى المواقف السياسية الحادة ولا تسمح مجلة قرندل بمثل هذا المزاج في رسومه على الأغلب ، لكنه حدد مكانته الفاصلة بين الهواية والبساطة واحياناً السذاجة التي عرف بها الرسم الساخر قبل ظهوره حيث قدم لنا الفن الساخر المرسوم بأحسن صورة ممكنة وبإسلوب اخاذ لا يضاهيه فيه أحد. وكانت الواقعية الساخرة بوصلته وهدفه معاً. اما بسّام فقد خطى الخطوة التي لم يخطوها غازي في الرسم الساخر، وربما لم يدركها، وأقصد تحديث الرسم الساخر، وهي المهمة التي اخذ بسّام على عاتقه القيام بها وقد فعل ، فتخلص الرسم الساخر مع بسّام من تاثير الفنان غازي وانتقل الى الحداثة مباشرةً .
انا هنا لا أريد تجاهل فناني الرسم الساخر الذي جايلوا بسام ولكني وبسبب رحيله اود التركيز عليه، لأن هناك عدد لا بأس به من الفنانين قد مارس هذا الفن بوجود بسام وقبله احياناً، مثل الفنان الراحل إبراهيم زاير، الذي كان يتمتع بشخصية محبوبة ومتفتحة وظريفة معاً ولا يزال موضوع إنتحاره يحيرني حتى الان لأني اعرفه جيداً وشخصيته لا تنم على أي أثر من التشاؤم او فقدان الأمل . خاصةً بعد زواجه وإستقراره النسبي وهناك شك في حكاية موته بالنسبة لي، ربما تُعْرف في المستقبل.
لقد تحول الفلاح ،المواطن وجهاز الدولة البيروقراطي عند بسام الى شخصيات تحمل مواقف ورؤى فلم يعد الفلاح ذلك الجاهل والساذج التي يمكن الضحك عليه او جعله أضحوكة للجميع، كما اصبح المواطن ياخذ ادوار مختلفة ، فهو مرة ثوري ومرة إنتهازي ومرة مرتشي ومرة عميل ، مرة سكير ومرة حكيم ، تبدلت الأدوار والأقنعة والمهام وصار الموضوع السياسي أكثر وضوحاً وجرءة وأصبحت الدولة و رموزها محط نقد ومساءلة ولو عن طريق الضحك والسخرية.
خطوط بسام بسيطة سهلة قليلة التفاصيل ليس فيها حذلقة ولا تعقيدات الرسم الساخر السابق عليها وأحياناً يكتفي بالرسم الذي يعبر عن نفسه بدون تعليق، وقد ادخل بعض التحسينات على رسومه من خلال إستخدام الشبك وبعض حيل اللصق ( الكولاج ) التي ظهرت في رسوم الصحف الأجنبية عموماً ، فيضفي على الرسم رونقاً مختلفاً لم يألفه الرسم الساخر العراقي من قبل.
ولما كان بسّام رساماً ساخراً ويتناول القضايا السياسية الساخنة، فهذا يعني ان له رأي خاص بما يجري حوله وليس هذا فقط ، بل عليه ان يختار موقف ما من بين المواقف التي يجدها امامه وتشغل بال المواطن ولها علاقة بالوطن وعموم الناس. وهكذا نراه ينحاز الى القوى التقدمية والديمقراطية واليسارية بالذات، ومع انه يسمع كل يوم شكاوى زبائن مقهى المعقدين وتأوهاتهم ونقدهم لليمين واليسار ” التقليدي ” كما يسمونه، إلا انه عرف تماماً تشخيص القوى التي يجب ان ينحاز لها، فكان إنتماؤه الى الحزب الشيوعي الحل الأمثل لفنان يقف مع الناس ويدافع عنهم في مضامين رسومه وسلوكه اليومي .
وهنا عليَّ الحديث قليلاً عن من يعيب على الفنان إلتزامه بموقف سياسي او إنتمائه الى حزب سياسي، بحجة أن الإلتزام يفقد الفنان حريته ويقيده بتوجهات الحزب الذي ينتمي إليه، وينسى هؤلاء نوعية الحزب المقصود وكذلك سياسته ومواقفه واهدافه، إضافةً الى ان الفنان ليس بوقاً أو ببغاء في هذا الحزب، كما يعتقدون ، وإنما مساهم في سياسة ذلك الحزب ولو من خلال فنه ، ولهذا فان إستقلال الفنان المزعوم عن السياسة هو في الحقيقة إلتزام من نوع آخر وموقف إيديولوجي آخر ، لا يختلف عن موقف الفنان الملتزم بحزب او خط فكري معين. الفنان إنسان يعيش في بيئة معينة وتهمه ما يجري فيها من أحداث ولا بد له من إتخاذ موقف ما حيال هذه القضية او تلك.
برز بسّام فرج كفنان، في الفترة التي رافقت إنقلاب 8 شباط الدموي والفاشي الذي قادته القوى القومية – حزب البعث والناصريون – وساهمت فيه كل قوى الردة الداخلية وحتى بعض مراجع الدين الشيعة والسنة معاً الى جانب دول الجوار، التي كانت قد أزعجتها منجزات ثورة 14 تموزعام 1958 وتوجهاتها الديموقراطية، خاصة في بداياتها، وقبل تراجع قادتها عن نهجهم الديمقراطي. كما لعبت الـ ( سي آي أي ) دوراً مفصلياً في هذا الحدث الذي لا نزال نعاني من تبعاته ، فبعد ان صرّح أمين سر حزب البعث علي صالح السعدي بكونهم قد جاءوا بقطار امريكي في إنقلاب 8 شباط عام 1963 ، فإن الذي يحكموننا اليوم والمتنفذون في مفاصل الدولة قد جاءوا على ظهر دبابات الأمريكان والبريطانيين عام 2003.
كانت الأفكار الثورية قد إنتشرت خاصة بعد نجاح ثوار كوبا في إسقاط الدكتاتورية في بلدهم وظهور مفاهيم الثورة الدائمة و الكفاح المسلح وحرب العصابات وتكتيك حصار الريف للمدن أو المركز والأطراف في الأدب السياسي وقتها، إضافة لمفاهيم الأوروكومينيست وغيرها من المفاهيم التي تعكس نفاذ صبر الثوريين مع كثافة الهجوم الإمبريالي الواضح والمكشوف على منجزات الشعوب واهدافها في التحرر والإستقلال والتمتع بخيراتها وقد ساعد ظهور منظمة التحرير الفلسطينية وتبنيها الكفاح المسلح على ترسيخ مثل هذه القناعات والتصورات في بلداننا العربية .
فهذه المفاهيم والرؤى والأفكار ساهمت بقدر ما في بلورة تصورات بعيدة عن ما تَطَبّعَ عليه اليسار العربي في المنطقة وظهر في محاولات لتهجين بعض الأفكار او ترويضها بناءً على ظروف بلدانها،.
في هذا الجو إكتمل وعي الفنان بسّام ومن خلاله بدأ يقدم مواضيعه التي إصطبغت بالصبغة السياسية اكثر من معالجة المشاكل الإجتماعية العامة. وقد سار على هذه التصورات جيل من الكتاب والشعراء والفنانين وحتى السياسيين من الحزبيين . لكن الأحزاب اليسارية وخاصة الشيوعية منها كانت غير مستوعبة لمثل هذا التغيير في المزاج وغير قادرة على تفهم أسبابه الحقيقية أوربما لا تريد معرفتها، و حتى على المستوى الأوروبي نجد من وقع فيه من احزاب عريقة مثل الحزب الشيوعي الفرنسي في موقفه من أضراب الطلبة في باريس عام 1968 وكذلك موقف الحزب الشيوعي الجيكو – سلوفاكي من حركة الإحتجاجات في براغ و نعرف ما جرى لمسيرات الهيبيز في شوارع نيويورك وواشنطن..
كان فقيدنا الراحل بسّام فرج في محاولاته وما انجزه من نتاج فني ثمين، الجسر الذي عبرعليه الجيل الذي تلاه وتاثر به ومد أفق الرؤية ووسع مداه الى ما نراه اليوم من تنوع باذخ ومميز ومثير للدهشة لدى العديد من مبدعينا من فناني الرسم الساخر ، إبتداءً من الراحل مؤيد نعمة و السلسة الذهبية التي تشكل اليوم حركة مؤثرة وفاعلة وتلعب دوراً مهما في فضح قوى الفساد والتخلف والظلام وتساهم مساهمة فعالة في تدعيم مفاهيم المواطنة والدولة المدنية والتقدم والسلام ولكثرتهم أخشى ان انسى منهم أحداً فأُتَهَمْ بالتحيز مع تحيتي وإفتخاري بهم جميعاً.
كانت آخر كلمات وصلتني من الراحل الفنان المبدع والمجدد بسّام فرج ستة كلمات هي : لا هله ولا مرحبا بكورونا وذلك يوم 09\ 03 \ 2021.
فيصل لعيبي صاحي
لندن 22\ 03 \ 2021
كان زبائن مقهى المعقدين من المثقفين هم بقايا ضحايا قصر النهاية من الشيوعيين والديمقراطيين وعناصر من الحرس القومي الذين تركوا تنظيماتهم بعد إنهيار حزب البعث وتخلي بعض قادته عن العمل السياسي إضافة الى اعضاء من القيادة المركزية بعد إنهيار قادتها الأساسيين، وقد إتخذوا من اللاأبالية والأفكار الوجودية وبعض المفاهيم العامة حول الثورة الدائمة والكفاح المسلح واليسار الجديد مادة لأحاديثهم ونقدهم للواقع العراقي ، تبرماً بتنظيماتهم السابقة وتخلصاً من رقابة الأمن والمخابرات
وجاء في مقال رائع لموسى الخميسي عن بسام
تعيش في قلب كل من احبك يا بسام
بســــــام فـــــــــــــرج
* البدايــــــات
كنت أحاول جاهدا أن أكتب سيرة واحد من اعزّ أصدقاء العمر وهو بسام فرج؛ بلغة تقترب من الذات، وتبتعد عنها في اللحظة نفسها، وهو تصور نابع من كون الكتابة تجربة تسعى إلى تأريخ ندوب الروح وكوامنها، وفتح كوّات وثقوب في مسامات المشاعر، حتى تعزف كورال الألم والأمل، وتمنحني القدرة على أن أطلّ على خبايا حياة صديق عامرة بالالم والفرح والوعود والمهارات التي برزت منذ بدايات الستينيات في القرن الماضي، وهو صديق لازلت للان اهمس بإذنه ، بان أعماله ، هي أشبه بعملية ” رش الفلفل “على جروحنا، فنان استطاع ان يفضح أنظمة الاستبداد التي ناءت بكلكلها على المشهد السياسي العراقي ما يزيد على نصف قرن من الزمن. هواجس وافكار وتأملات وطموحات، كانت تتوطن في وجدان ذلك الشاب النحيل المبدع ، الذي كان يدرك مبكرا طريق امتلاك المعرفة التي تضيء العتمات وسبيل العاطفة، وتحفز حالة المتمرّد عن السائد، لا يتم الا من خلال خلق جغرافيات جديدة لم يتمكن السابقون من فتحها واكتشافها في الذات والعالم،بعد ان شعر وهو شاب مراهق، بان الواقع العراقي لم يعد يسمح ببقاء شخص مغاير برأيه وفكره، يقول رأيه بصراحة وما يفكر به عن مأساة شعبه ،وهنا مكمن إبداعية المبدع وتجلّ من تجليات السَّبْق في ابتداع أفكار وجدها في كراسين يحملان رسومات فنان الكاريكاتير الراحل غازي عبد الله البغدادي ، لكنه ادرك وبشكل مبكر بان قدرة المبدع الحدسية تستطيع اجتراح عوالم جديدة، ومتجددة في الإبداع لهذا الفن الساخر الجميل، فبينما تتواتر الحكايات ويضاف إليها من خيال الفنان وبعض تفاصيل الوقائع، يُنتج الرسم الكاريكاتيري أثره في النفس، وتتجلى البطولة الإنسانية في أنقى صورها، بعد سلسلة طويلة من التضحيات والعذابات الحياتية. ورغم اختلاف البيئات الاجتماعية، إلا أن الحكاية الشعبية تحقق مغزاها باختلاف البيئات التي عاش في وسطها هذا المبدع، واستطاع بحكمة وذكاء دمج الحراك الشعبي المعارض للديكتاتورية وسلطة السلفية المتخلفة مع السياسي، فاصبح عن حق ” بوصلة” المضطهدين والفقراء في مجال الاعلام المقروء، يستمد منهم الثبات في الموقف، والدلالة والاشارة الى ما هو خطأ وما هو صائب، في إصرار ملتزم على الامساك بجمرة الحقيقة، مهما كانت حارقة، لا يكلّ ولا يهدأ في ايقاظ الضمير العراقي.
بسام كان يدرك بان العبور الى عوالم جديدة في الابداع يختلف وفق سياقات تاريخية وحضارية واجتماعية وثقافية، هذا العبور تحقق من خلال تجارب موسومة ومبصومة بسمات وبصمات ، تتسم بالعمق ابتدأ بالانتماء السياسي لقوى اليسار العراقي ، في فترة تاريخية شهدت بعض الانفتاح . ولعل الطفرة الجوهرية في معظم النتاجات الإبداعية التي حققها بسام فرج، كانت تحفر في أرض الوطن، وما تثيره من اسئلة حارقة ومارقة، لا تستسلم لكوابح العنف والتسلط وقمع الرأي، وإنما استطاعت تخطى العوائق والموانع؛ لتوقد جِذوة البحث الأبدي عن عشبة خلود الحياة والإبداع . لذلك أعتبر أن الرحلة في أهوال تيه الانظمة السياسية ومكابداتها ، من أبرز المحدّدات المهمة لعملية نقد لاذع وخلاق يمتلك صفة التخفي ، يمجّد قيم الإنسان العراقي دون سواه، وهنا مطمح الإبداع القح والجدير بالديمومة. وقد تمكّنت عبْر رحلتي المتواضعة مع صديق العمر بسام فرج، أن أقف عند تخوم هذه التجربة منذ بداياتها الاولى الذاتية ، في تشابك وتوالج وتواشج واعجاب . رحلة اتسمت معالمها على الدوام، بالتنقيب عن وسيلة أسلوبية ناجعة .
إن سيرة الكتابة عن صديقي بسام محاطة بعوامل الداخل والخارج في وطننا الحبيب، فقد كان الداخل الذي عشناه مشتعلا بالنزيف والقلق والسؤال، كانت الرقابة والمراقبة والخوف هي الطاغية والمستبدة على الخطاب الثقافي والفني، اما الخارج الذي عشناه انا وهو والذي ناهز الاربعون عاما، فقد ابقانا معلقين بهموم الوطن ومتقلباته وكانت الجلبة والصراع والخراب والحروب وحكم الديكتاتورية ومن بعدها حكم الطوائف والسلفيات ، هي السائدة والتي هدمت لحمة العديد من بناءات عراقنا الجميل .
تعرفت على بسام فرج منتصف عام 1961 من خلال صديق مشترك، هو “ضياء السامرائي”، زميل الدراسة في متوسطة المستنصرية للبنين في بغداد يهوى كتابة الشعر، ( اصدر كراس شعري صغيرة تحت عنوان قناديل لا تنطفىء عام 1962)حدثني عن بسام الذي كان يسكن بالقرب من بيته في دور عمال مصافي النفط في الدورة. كانت لي مساهمات متميزة في الرسم، وكان اول لقاء بيننا في مقهى شعبي صغير بالقرب من شارع الجمهورية بمنطقة السنك، يطلق عليه مقهى ابو سامر، اصبح فيما بعد مقر لقاءاتنا. يقف امام هذا المقهى المطلّ على شارع الخلاني الذي يربط شارع الرشيد بشارع الجمهورية، باص خاص ياخذ العاملين وعوائلهم واولادهم من مصافي الدورة الى بغداد وبالعكس وباوقات محددة اثناء النهار. تعرفت في هذا المقهى على عدد من ابطال لعبة كرة القدم امثال اللاعب الدولي عبد كاظم ، باسل مهدي، حسن بلا ، ومظفر نوري ،الذين كانوا يسكنون مع عوائلهم في مصافي الدورة، ويستخدمون نفس الباص في رحلاتهم اليومية من مركز مدينة بغداد الى مصافي الدورة وبالعكس.
جاء بسام بمجموعة من رسوماته على قصاصات الورق لينشرها امامي على الطاولة للاستئناس برأي. كانت رشاقة الخطوط برشاقة جسد بسام الاهيف، فاخرجت له دفتري الصغير ليرى تخطيطاتي، فكانت مغامرتنا في صداقة على نحو لم اكن اتوقعه، وكانت المرة الاولى التي داعبته فيها فكرة التحول الى رسام كاريكاتير. مجال صداقة متقطع، مكون من انحناءات، صعود وهبوط ، من انقطاعات وتحولات مفاجئة للاتجاه. يعدّ بأناة وصبر، لمشاهد سرعان ما يتخلى احدنا عنها، تاركين الاخرين الذين حولنا يتامى، مهجورين. كنّا انا وهو نتحدث عن رسامين مشهورين في صحف ومجلات مصرية ولبنانية ،كانت تصل بغداد بانتظام مثل مجلة صباح الخير، روز اليوسف ،الكواكب، وحواء وغيرها،وجلبت له مجموعة قديمة من مجلات سمير والسندباد المصرية الخاصة بالاطفال، كنت احتفظ بها منذ زمن طفولتي في مدرسة الاشبال الابتدائية للبنين في سوق الشورجة ببغداد ،كنت شريكا لشراء تلك المجلات مع زملائي واصحابي القاص الراحل عبد الستار ناصر، الذي ولدنا وعشنا مع بعضنا في محلة الطاطران الشعبية، وصديق العمر الشاعر الصحفي حسين حسن .الا ان صداقتي ببسام افسحت المجال لرؤية كيف يتعاشق الشر والخير في كمين حياتنا اليومية التي كانت ترزح تحت حكم الفاشيست عام 1963 ونحن نرى مسخ حروبهم الرابض على صدورنا، كابوس يرخى بجناحيه الثقيلين على رؤية وجودنا ويتعطش في كل لحظة لزواله. وكم من مرة اوقفونا انا وبسام حين كنا نمشي سوية ولم ينجدنا ذات مرة من صقيع الخوف ونذائر الشؤم ،سوى صديقنا الشاعر ضياء الذي اكتشفنا بانه احد اعضاء الحرس القومي البعثي. الامر الذي جعلنا انا وبسام ، ننسحب من تجمع ثقافي فني اسسناه سوية قبل انقلاب شباط الاسود بستة اشهر، مخافة الوقوع في مطبات مظلمة كنا انا وبسام ،مرعوبين باجوائها .
لا نفتأ، فيما نحن نقلب مئات من رسوم الكاريكاتير منذ بداية التجربة في الصحافة العراقية ولحد يومنا الحاضر، بان ما قدمه هذا الفنان عن حياة العراقيين منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي أن نوافق على أن ما انتجه قلمه الاسود ، في نقد العديد من الظواهر الاجتماعية، يتأتى من الحياة التي عشنا كل تفاصيلها المؤلمة، انه فتح صفحات جديدة في النقد اللاذع، جعلنا مساهمين في اقتحامه. كل شيء لم يسبق له أن وُصف بهذا المزاج الساخر، أو جرى وصفه بهذا التدفق من الادانة والتعري. يقينا انه صراخ صامت لا يحمل الا جبروت القلم الاسود وقدرته على الادانة.
ينتمي بسام فرج إلى جيل من المثقفين العراقيّين الذين نشأوا في ظلّ انقلابات ومؤامرات وحروب وما خلقته وخلفتّه من فضائع وازمات سياسيّة بكل أضرارها الوخيمة . تتحدث معظم اعماله الكاريكاتيرية عن مأساة تلك الحروب خاصة تلك التي عاشها العراقيون طيلة سنوات طويلة وما أفرزته من عذابات وويلات فضلا عن تمخضها عن صراع الانسان في البقاء ومواجهته للموت ومحاولاته التمسك بالحياة ، فكانت اعماله والى يومنا هذا معبرة عن وجهة نظر واحساس الانسان الذي عانى الكثير من الاهوال في رحلته الحياتية والفنية ، وهذه الاعمال وان كانت متزنة وجميلة بشكلها وبتناسق خطوطها واتزان بنائها وايقاعها فهي مشتعلة الوجد في رصد الالم العراقي والتعبير عنه وهذا ما اجاد الفنان في اعماله التي سرعان ما تلامس عواطف المتلقي وتجعله يتجاوب الى آهاتها الموجعة المضنية .
اللوحة الكاريكاتيرية عند هذا الفنان، تحمل كلَّ مواصفات الحلم ،لا سيّما القدرة على اختراق حدود المكان والزّمان وهدم كلّ حاجز بين الواقع والخيال طردًا أو عكسًا ،لكون الواقع بما أضحى عليه من لامعقول تجاوز الخيال نفسه.وقد ترتّب على هذه التّجربة اتّسام لغة الفنان بإشراقات فنّيّة مدهشة .
كانت لبسام قضيته الكبرى والمركزية ومن مصلحته أنه تميز بالخروج من آنية الزمن والفكرة. رسم أفكاراً حرّة في فضاء تنعدم فيه الحرية، وحول قضية واضحة المعالم. وفي هذا العالم العراقي السفلي الغاصّ بكثرة البشر، اغنياء وفقراء، متدينون وعلمانيون، وتعاقبهم على الظهور في حياتنا كل يوم من على شاشات القنوات التلفزيونية والصحف والمجلات، نقرأ في رسوم هذا الفنان وصفا لتلك الوجوه العديدة، الغريبة الأشكال كلها، ما لا نجد مثيله في أي مكان اخر، قناة تلفزيونية او صحيفة. أشكال من التشوّه في الوجوه والهيئات لا حد لتنوّعها.فلو أتيحت لنا تجميع ذلك ورسم خطوط بيانية لملامح الاشكال وحركات الاجساد، لكّنا امام ما يشبه متحفا للأشكال الغريبة بقباحتها، أحسب أن البراعة في رسمها يشكل ميزة أخرى لقدرة بسام وبراعته. ذاك أنه كان عليه أن يلجأ إلى مخيّلة مغامرة، كما إلى أكثر صنوف المجاز جدّة حتى يبث الحياة في الأشكال المشوهة، أو المقبلة على التشّوه، التي تتوالى له باقوالها وتفاهاتها ورعونتها السياسية، وهي تلحق بخرابها وعبثها وفسادها وطنا وشعبا.
* من كتاب ( بسام فرج…سيرة الاحتجاج)
وفي عاموده في “صحيفة الصعليك” الالكترونية موسوم
نشر الفنان المبدع منصور البكري
“كاريكاتير” ارفقه برثاء تأبين متميّز تحت عنوان:
الرسم في زمن الكورونا
اللعنة على هذا الوباء الذي سرق منا أعز الناس واطيبهم, رحل الفنان بسام فرج (1943 ـ2021) رائد الكاريكاتير العراقي الحديث بسرعة, كنت اتصل به دائما ونتحدث ساعات دون ملل أو كلل, انها خسارة كبيرة للعراق وللفن العراقي، الرحمة والسلام الابدي لحبيبي بسام فرج كنت اتصل به الأيام الأخيرة لأطمأن على صحته ولكنه لايجاوب، نم قرير العين يا اطيب الطيبين … كورونا تحصد مؤسسي ثقافة الأطفال … (الف اللعنة على هذا الوباء ولا أهلا ولامرحبا) كانت هذه آخر جملة استلمتها من بسام في يوم 9 آذار … بسام في أرواحنا وقلوبنا فليرحل الجسد كلنا سنرحل يوما!!! لكن الأعمال الفنية والنضال والمواقف الإنسانية الصحيحة والفكر السياسي النير كلها ستبقى، الفنان تاريخ في وجوده في الدنيا وعدم وجوده فهو حدث مؤثر سيبقى لأجيال كثيرة لاحقة والجيد أن بسام واكب الانترنت وأعماله تملأ شبكة الإنترنت فهو موجود بيننا كل يوم … رسومه الساخرة في مجلتي بشخصية جحا وحماره وأجواء بغداد القديمة كانت بلسماً جميلاً لكل أطفال العراق ولنا جميعاً، كنت أقف جنبه مازحاً حينما كان يرسم جحا ونضحك في كل تفصيلة ومقلب, كذلك أعماله الكاريكاتيرية اللاذعة والناقدة الهائلة في مجلة ألف باء كانت أول مايتصفحها المواطن العراقي قبل أن يقرأ محتويات المجلة حيث يمطرنا بسام بمجموعة كاريكاتيرات ضاحكة في صفحتين كل أسبوع وكان يرسم نفسه بانف طويل ويضع توقيعه الذي كان مثل الماركة المسجلة وبقي يستعمل هذا التوقيع في جريدة المدى حتى رحيله … هذه اللوحة مهداة الى روح بسام المرحة الجميلة وأهداء لكم جميعا أصدقائي محبي ومتابعي رسومه في زمن مجلتي والمزمار ومجلة الف باء في السبعينات … كم كنا نمزح ونضحك عبر الماسنجر ونبني مشاريع مستقبلية سويةً حيث حققنا قسماً منها بمعارض ومحاضرات مشتركة, كم كان يكتب مادحاً ومعجباً بكل بورتريه أرسمه منذ تواصلنا في الفيس بوك قبل أكثر من 10 سنوات الى فترة قصيرة من الآن وكنت أقول له (سأرسمك يابسام بلوحة كبيرة تليق بمقامك حينما يسعفني الوقت ويأتي المزاج الكاريكاتيري لأنك بسام رائدنا وكان دوماً يقول لي على راحتك منو راكض ورانه؟) فعذراً أيها الحبيب الوفي لأنني رسمتك للأسف بعد رحيلك … لنتذكر دوماً معلمنا ورائدنا في مهنة الكاريكاتير العراقي الحبيب الغائب الحاضر دوماً بسام فرج … تحياتي لكم أحبتي والبقاء في حياتكم جميعاً متمنياً أن لايصيبكم مكروه