الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد رواد التنوير في العراق
محمد جواد فار س
“من يريد الخبز والعمل والمدارس والمستشفيات و المصانع
بدلا من القنابل والمنشأت الحربية و القواعد العسكرية
فليصوت للشيخ عبد الكريم الماشطة”
انتخابات مجلس النواب العراقي
عام 1954
في كتابه الموسوم عن الشيخ عبد الكريم الماشطة (أحد رواد التنوير في العراق ) يربط الاستاذ الكاتب الباحث أحمد الناجي عن جدلية المعرفة في تاريخ الشيخ الماشطة ليربط بين الماضي و الحاضر من أجل استشراف المسقبل للعراق ، في كتابه هذا موضع قرأتنا حيث تضمن الكتاب في طياته 231 صفحة من الحجم المتوسط ،متضمن تسعة فصول مع تقديم ، أضافة للملاحق و كذلك مصادر البحث .ففي الفصل الاول للكتاب يتحدث عن السيرة الذاتية للشيخ الماشطة وهو : عبد الكريم بن الحاج عبد الرضا بن الحاج حسين بن الحاج محسن الماشطة ، ولد سنة 1881 في احد بيوتات محلة جبران في زقاق الجياييل بالحلة ، ومدينة الحلة كما معروف عنها مدينة العلم والعلماء والفكر والشعر ومن شعرئها صفي الدين الحلي ، وفي المدينة التنوع القومي والديني و المذهبي و السياسي و الثقافي ، و قال عنه الدكتور علي جواد الطاهر : بأن مكانته – مع مكانت أسرته محترمة في مدينة الحلة ، وكذلك جاء تقيم شاعر ثورة العشرين الدكتور محمد مهدي البصير ايجابي للمكانة الاجتماعية المرموقة لعائلة الماشطة و دورها في التعضد مع المجتمع الحلي ويذكر الكاتب أن ولادة الشيخ الماشطة في مدينة الحلة و التي كانت تعد من احفل مدن العراق بالمجالس العامرة و الادبية الزاهرة حسب الشاعر البصير ، ومن تلك المجالس مجلس الشيخ الماشطة الذي تميز بكونه شعبيا مثلما تميز بدوره الفاعل في الحياة العامة و الحياة الثقافية و السياسية ، و اقام الشيخ علاقات و وشائج وطيدة مع ابناء المدينة ، وكان مجلسه حافلا ببحث اهتمامتهم و شؤونهم المعيشية و قضايهم الحياتية ، وتطلعاتهم نحو حياة حرة وكريمة ، و يستطرد الكاتب عن اجواء الحلة انذاك كما عبر عنها الدكتور علي جواد الطاهر ، عبر عن انشداد مثقفي الحلة الى الوطنية و الافكار التقدمية من خلال وصفه الى كتابات سلامة موسى ،صارت كتبه من أروج الكتب وتنبهت السلطة الى ذلك و شرعت تغض من شأنه وتحذر من رأيه .كان عقد الخمسينات بالحلة حافلا بالنشاطات السياسية المتميزة ، وفي بدايته انضم الشيخ الماشطة الى حركة أنصار السلم ،و وظف أنشطته الأجتماعية و السياسية و الفكرية لتأسيس حركة أنصار السلم في المدينة على وجه الخصوص ، وفي العراق عموما كتيار تقدمي مناصر لقضية السلام في العالم ، وفي الوقت نفسه كان ظهيرا و مساندا للقوى و الأحزاب الوطنية لتفعيل دور الجماهير في تحقيق أمالها و تطلعاتها و هوجسها في التحرر الوطني ، وبناء الحياة الديمقراطية و العدالة و المساواة . قاد الشيخ الماشطة مظاهرة احتجاجية و كانت مسيرة غفيرة لم تستطيع الشرطة تفريقها عندما طلبوا منه تفريق التظاهرة رد الشيخ بتهكم بقوله ما معناه ( ما لكم قلقين من المسيرة إعتبروها زفة عريس ) وقد سلم الشيخ من الاعتقال ، ولكنه احيل الى المحكمة الجزائية ،و تطوع “36”محاميا للدفاع عنه وعلى رأسهم :الأستاذ حسين جميل و الأستاذ مظهر العزاوي و الأستاذ توفيق منير ، وفي يومها لم ينظر الحاكم فريد فتيان الى اوراق الدفاع ، بل رد الدعوى و برأ الشيخ ، مستندا الى مادة قانونية عد فيها إجرءات الأجهزة الامنية بتفريق المظاهرة غير قانونية . جرت الأنتخابات في التاسع من حزيران 1954 ،بيد ان قلق السلطة جعلها تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون مرشحي الجبهة الوطنية ، فلجأت الى عمليات التزوير و الترهيب و الرشاوي ، وقد أشار بيان الجبهة الوطنية بعد الانتخابات مذكرا بالتدخل الحكومي السافر في الحلة ، و التجاوزات التي حالت دون وصول الشيخ الماشطة الى قبة البرلمان .
وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ، والتي احدثت تغيرات جوهرية بطبيعة المجتمع العراقي ، وامتدت مكتسباتها الوطنية الى أدق مفاصل الحياة ، وقف الشيخ الماشطة بثقل مكانته الأجتماعية و ثرائه الفكري و أنشطته السياسية مدافعا عن ثورة الفقراء ، مسهما بنشاطات حركة أنصار السلم ، إذ كان من ضمن تشكيلة المجلس الوطني لأنصار السلم في العراق ، وشارك الشيخ حميد سعيد الغاوي بإعادة إصدار جريدة “صوت الفرات “يوميا بالحلة في 16 مايس 1959 وكان حسن عوينة رئيس تحرير جريدة صوت الفرات ، فسعى الماشطة بالتعاون مع بعض علماء الدين الى تشكيل جماعة علماء الدين الاحرار التي ضمت :الشيخ عبد الكريم الماشطة و الشيخ علي كاشف الغطاء و الشيخ محمد الشبيبي و الشيخ عبد المهدي مطر و السيد هادي فياض و محمد حسين المحتصر و اليد الطالقاني و القائيني و السيد جابر أغائي و السيد عبد الحسن المستلكوو الشيخ الحجامي و السيد سعيد الحكيم و الشيخ مجيد زاير دهام و اخرين وكانت خطوة وطنية لضرورات المرحلة للوقوف ضد المحططات الخارجية .
وفكر الشيخ الماشطة في أصدار مجلة العدل وحصل على الامتياز في اذار من عام 1938 و قد قامت السلطة المحلية بمصادرة العدد وتضمن هذا العدد اليتيم سبع مقالات ،جميعها محرره بقلمه تضمنت عناوين مهمة منها :العدل ، الحرية ،الغزالي و زكي مبارك ، الدعوة الإسلامية ، فوائد العقوبات الشرعية على الجرائم ،ترجمة ياسين الهاشمي ، حول كتاب الأستاذ ساطع الحصري بين الوطنية و الأممية . و لم يخف الدكتور علي جواد الطاهر مشاعر الفرح والغبطة عندما سئل عنها ، فقال “الشيخ عبد الكريم الماشطة وجه و طني جرئ ، و قد أصدر مجلة بإسم “العدل ” و الأسم ذو دلالة ، فرحنا بها ، وأبهجنا ما وراء حروفها من حسن انتقادي للأوضاع ، كان الشيخ ينفذ إلى غايته من عنوانات بدايات لا تبدو لها علاقة بقصدها ، وكان طبيعيا أن يصادر العدد ويمنع الشيخ من إصدار عدد ثان ” تقيم جدير بالدراسة لانه يضم في طياته معاني كثيرة عن المفاهيم التي كتب عنها الشيخ الماشطة و التي ارعبت السلطات . و قد شرح كاتبنا الاستاذ الناجي ، عنتلك الفاهيم بالتفصيل في كتابه ، وقد تعمق الشيخ في دراسته للصوفية ، وخاصة الاغتراب عند الصوفية ، بصفته دافعا و محركا مهما للمعرفة البشرية ، وتناول المنهج الإشراقي ، دراسة و تمحيصا في خمس مقالات بعنوان مبادئ الصوفية و حكمة الإشراق نشرها متسلسة في أعداد مجلة ” الحكمة “التي أصدرها الشيخ رؤوف الجبوري بالحلة أواخر سنة 1930 ، وهذه المجلة بنظر الشيخ يوسف كركوش كانت تنشر مختلف المقالات في شتى المواضيع ، وبعضها يعتبر متطرفا في نظر بعض الحكام ، ومع ذلك لم يبد الأستاذ أحمد زكي الخياط متصرف “محافظ “الحلة أي استياء و ضيق صدر ، بل على العكس كان يشجع الأستاذ الجبوري على الاستمرار في عمله الصحافي ، ذلك أن الاستاذ الخياط كان يؤمن بحرية الفكر ، وأن للإنسان حرية الكتابة ضمن القوانين و الأنظمة ” . يذكر المؤلف الاستاذ الناجي أن الشيخ الماشطة قدم دراسة مستفيضة في سلسلة مقالات عن الصوفية ، متطرقا ألى عناصرها و أفكارها و مفاهيمها و موروثها ، وتأثيرها على المفكرين المسلمين ، فكشف بذلك عن ثراء معرفي وعمق فكري ، مكتنز لا ريب من سنين مضينة قضاها في البحث و التقصي عن ينابيع معرفية ، نقلت الفكر ألى من الانفتاح العقلي ، و الأنطلاق بعيدا عن متاهات الجدل الدائر لسنين طوال بين الجبر و الاختيار ، و الأشعرية و المعتزلة . و نقل الشيخ الماشطة عبارة وردت في كتاب “المنقذ من الضلال ” للغزالي هي : إن الفلاسفة اخذوا علومهم الأخلاقية عن الصوفية و مزجوها بكلامهم للتجميل بها ” ويشير الماشطة في تقصيه عن جذور الصوفية إلى القول :مما لا ينبغي أن يرتاب فيه أن مصدر الفلسفة الصوفية في الإسلام هو الافلاطونية الحديثة وهي حكمة الإشراق أخذوها عن الفرس فلاسفة النصارى بالعراق ومصر وسوريا خصوصا “اليعاقبة ” .ويقول الكاتب : و أقترن عرض الشيخ الماشطة لأفكاره ورؤاه من بطون كتب الصوفية و عناوينها لتبيان واحدة من الدلالات على غزارة علم الشيخ الماشطة و اطلاعه في هذا الجانب المعرفي ، فقتطف في مواضيع عديدة شذرات من كتب الغزالي :” إحياء علوم الدين ” و ” المنقذ من الضلال ” و ” كسر الشهوتين ” و “ذم الجاه و الرياء “، و “الشكر ” ،و” أسرار الصلاة ” ، و “اداب تلاوة القرأن ” و “ترتيب الأوراد وإحياء الليل ” ، و” آداب السفر ” ، و “عجائب القلب ” . ونلحظ أن الشيخ الماشطة تناول الصوفية من الحقل الفلسقي ، فهو لم يكن منطويا انعزاليا ، يعيش عوالم الزهد و التأمل ، بل أقتحم الحياة بكل تفاصيلها ، عنصرا فاعلاله متبنياته القكرية ، وصاغ بالاستناد الى تلك المتبينات مواقفا و أراء و وجهات نظر تحليلية ونقدية ، لايمكن تجاهل اثر الانتفاع من اشياء كثيرة من الصوفية في مسيرته الفكرية ، فهي بالتاكيد منحته القدرة على تماس مقتضيات الحاضر بصيغة فاعلة باتجاه التطوير والتجديد بما يتوافق مع تحديات الزمن . و كان تعبير الصوفي عنفسه في مقولة (أنا أريد أنا موجود ) في حين تكون التجربة الصوفية لدى الفلاسفة حال العقل ، كون العقل جوهر الانسان لديهم ، فيكون تعبير الفيلسوف عن نفسه ، وفق المبدأ الديكارتي ( أنا أفكر إذن فأنا موجود ) وهذا ما وضحه الكاتب الناجي مصيبا عين الحقيقة في سرده .و يتحدث كاتبنا عن دور الشيخ الماشطة ، عندما أنتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 في التاسع من ايار ، وقدمت البشرية ملاين من البشر ، أصبحت هناك ضرورة لتشكيل منظمة تدعوا للنضال من اجل السلام العالمي ، فقد تداعت شخصيات عالمية من عدد من كبار المثقفين ففي آب عام 1948 عقد مؤتمر في مدينة فروتسواف في “بولونيا “حضر هذالمؤتمر كبار المثقفين في العالم مثل الفيلسوف البريطاني جوليان هكسلي و علمة الفيزياء الفرنسية أيرينا كوري و الرسام العالمي بيكاسو و الشاعر الفرنسي بول ايلول و الكاتب السوفيتي أيليا اهرنبرك و الارجنتيني جورج اماندو ، وكان العربي الوحيد الذي حضره هو شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري ، وجرى في المؤتمر الحديث عن ضرورة تنظيم حركة للدفاع عن السلام و تحريم السلاح النووي ، و عقد الأجتماع التأسيسي لحركة السلم العالمية في براغ ” جيكوسلوفكيا ” سنة 1949 ، وحضره من العراق كل من : يوسف إسماعيل البستاني ، و خالد السلام ،وتوالت بعد ذلك المؤتمرات ،وفي بغداد تشكلت لجنة تحضيرية لأنصار السلام في شهر حزيران 1950 برئاسة محمد مهدي الجواهري ، وكان أغلب أعضائها من اليسارين المستقلين المعروفين ، وقد برز في واجهة قيادتها بعد حين كل من :عبد الوهاب محمود ،و أمين زكي ، والشيخ عبد الكريم الماشطة ، وكانت بدابة نشاطها جمع التواقيع لتأيد نداء ستوكهولم . وجاءت أستجابة الشيخ الماشطة سريعة لذلك النداء لأنه وجد فيه انعكاسا لأفكاره ، وتطابقا مع مفاهيمه وإنسانيته في نبذ الحروب ،وخفض التسلح ، وتحويل ثروات الشعوب نحو البناء ، ومعالجة الفقر والجهل و الأمية ، وتوفير الخدمات الأجتماعية للمواطن العراقي بصورة خاصة و للإنسانية بصورة عامة ، ولم تكن أنشطته في دعم حركة أنصار السلام مقصورة بحدود تلك الأستجابة ، بل سعى مع الكثير من الوطنيين العراقيين لكسب الأصوات المناصرة الى ( نداء ستوكهولم ) ، وبعد ذلك أتسعت حركة أنصار السلم و زاد مؤيديها ، و ضمت شخصيات و طنية لاسيما من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي و حزب الاستقلال بعد ان كانت مقتصرة على الشيوعيين وأصدقائهم فقط ، فقد قلد عدد من من انصار السلام بشعار حمامة السلام ( حمامة بيكاسو ) علقها توفيق منير على صدور عدد من النشطاء ، تقديرا لدورهم الهام و النشيط في الحركة و هم كل من الشيخ عبد الكريم الماشطة ، والشاعر الكردي عبد الله كوران ، وعطشان ضيول الأزيرجاوي ، والقى الشيخ الماشطة القى كلمة بعد التكريم في المؤتمر ، حث فيها الحاضرين على القيام بمهماتهم من أجل تحقيق الأهداف ، بالدعوة إلى أفكار السلام ، والكفاح من أجل الأستقلال الوطني ، و الغاء المعاهدة و طرد القوات البريطانية ، والانسحاب من الكتلة الاسترلينية ، وإحباط ضم العراق إلى الأحلاف العسكرية , خلق جبهة عربية ضد الصهيونية و النضال من أجل التحرر الوطني والقومي ، و على الصعيد العالمي من أجل نبذ الحروب ، وتحريم أستخدام القنبلة الذرية ،، والوقوف بوجه الأحلاف و التكتلات العسكرية التي تهدد السلم العالمي و أمن الشعوب ، وتبقي سطوة الهيمنة الإمبريالية . ومنح مجلس السلم العالمي الوسام الذهبي للشيخ الجليل عبد الكريم الماشطة ، في الذكرى العاشرة لتأسبيسه تقديرا لجهوده المتميزة وخدماته الجليلة في سبيل السلم العالمي ، و بعد وفاة الشيخ الماشطة و في احتفالية جرت في بغداد قام الدكتور سليمان بن سليمان عضو مجلس السلم العالمي و عضو حركة السلم التونسية بتسليم وسامي مجلس السلم العالمي المخصصين ، أحدهما للأستاذ عزيز شريف بو صفه السكرتير العام لحركة السلم في العراق ، والثاني للمناضل البارز الشيخ عبد الكريم الماشطة تقديرا لنضاله ضد الاستعمار ومن أجل السلم ، وقد قلد و سام الراحل الماشطة رفيق دربه الحاج عبد اللطيف مطلب ممثل حركة السلم في الحلة ، وسلمه بدوره الى عائلة الشيخ عبد الكريم الماشطة .
نضج مشروع الشيخ الماشطة مع توالي الايام و السننين و الاحداث متبلورا الى رسالة تنويرية ، واضحة المعالم سواء في الابعاد الفكرية أو السياسية أو الأجتماعية ، وجسدت انتمائه للإنسانية بأبعاد اوسع من الايديولوجية ، وأكبر من تحدها رقعة جغرافية ، أو تكون رهينة لأصول عرقية ، او محوطة بمذهب طائفي ،و كل مانادى به هي قيم إسلامية متوافقة بدرجات متفاتة مع قيم أيديولوجيات أخرى ، كانت ومازالت هذه الأفكار مثار تطلع كل من الديمقراطيين أو الإصلاحيين ، أو اليساريين أو الشيوعيين أو القوميين . و أقتربالشيخ فكريا لا أنتما مع الحزب الشيوعي و بعض القوى اليسارية التي وجدها صادقة و واضخة و عقلانية . و لهذه الاسباب اتهم من قبل اجهزة السلطة والقوى الرجعية بالشيوعية ، وكانت توجيه تهمة الشيوعية أو مولاتها سوطا جاهزا بيد الحكومات الرجعية و أعوانها و القوى المتحالفة معها ، يرفع بين الحين و الاخر بوجه عناصر الحركة الوطنية ، وقد جلد الشيخ بهذا السوط الجائر على يد السلطة و أعوانها و حتى بعد وفاته .و كان لمقالات الشيخ الماشطة المنشورة يومئذ في الصحافة البغدادية و التي أحدثت صدى مؤثر بين أوساط المثقفين و رجال الدين على حد سواء ، هي التي أستحثت اشتداد الهجمات عليه من من مخلفيه على صفحات الجرائد ، و كان لكتاب أصدره الشيخ الماشطة في عام 1959، بعنوان ( الشيوعية لا تتصادم مع الاسلام و لا مع القومية ) ، و بهذا المقالات ودفاعه عن ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة يميط اللثام و يكشف اللبس عن تاريخ رجل دين مؤمن وقف بجانب قضايا الشعب ، نصيرللسلم و مخلصا لمبادئه ، سعى على آمتداد حياته مجاهدا في سبيل مرضاة الله و حرية الوطن و سعادة الإنسان ، وخط بكفاحه ونضاله و تضحياته سفرآ وطنيا خالصا لن يغيب عن ذاكرة العراقيين بل تخطى بثرائه الفكري كل الأطواق التي فرضتها شريعة الأقوياء للانفراد في منحى كتابة التاريخ . و الشيخ الماشطة معروف في الوسط العراقي بالشجاعة الادبية النادرة ، وقد تحدى في كتاباته بشجاعته الأدبية أساطين الرجعية ذات الوزن الثقيل ، كما كتب عنه تلميذه النجيب الشيخ يوسف كركوش ، وهو صاحب كتاب ( تاريخ الحلة )، و كتب عن الماشطة : وقد تحدى في كتاباته بشجاعته الأدبية أساطين الرجعية ذات الوزن الثقيل ، وهي دلالة تشير إلى عمق تأثير الشيخ الماشطة على الحياة السياسية ، وتؤشر في الان نفسه الى أن بصمات يراعه في فضاء الكلمة قد مست تفاصيل الواقع و لم تكن أدخنة في الهواء أو آثار على الرمال ، ولو كانت كذلك لكان بمقدور الرياح مسحها . العلمانية في فكر الشيخ عبد الكريم الماشطة .
يسرد الكاتب الاستاذ أحمد الناجي في هذا الفصل عن رواد النهضة العربية المعاصرة بصفة عامة تحت خيمة الفكر الاصلاحي ، والاصلاح هو موضوعة فكرية -فلسفية ، فهناك شاعر مصلح و هناك روائي مصلح وهناك رجل دين مصلح وهكذا ، و انذاك كان فكر رواد النهضة ينقسم الى ثلاثة تيارات هي :التيار الليبرالي بزعامة رفاعة رافع الطهطاوي و اعقبه بعد ذلك أحمد لطفي السيد و طه حسين و التيار العلمي الذي أسسه شبلي شميل و فرح انطوان و يعقوب صروف و سلامة موسى ، والتيار التوفيقى الذي أسسه جمال الدين الافغاني و تلاميذه محمد عبده و رشيد رضا ، وهذه التيارات الثلاث شاركت في رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي ، و من خلال تفحص ما كتبه الشيخ عبد الكريم الماشطة في كتاباته ومروياته الشفاهية ، بوصفه رجل دين و مفكر و مناضل تقدمي سعى إلى فتح البصائر و هدم الحواجز التي تمنع تدفق النور الى أعماقنا ، وهنا تجدر الاشارة الى انه قد وقف على تخوم عقلانية التيارات الفكرية الثلاثة ، ناهلا من منابعها فيما يشبه البحث عن الاكتمال ، ففكره لم يخرج من العدم أو الفراغ ، بل أفاد من المفكرين الذين كانوا قبله ممن تبنوا الفكر الاصلاحي ، و أسسوا جذور العقلانية و مرتكزات التنوير في الفكر العربي و الإسلامي الحديث ،أولئك الذين أستطاعوا أن يقيموا بناء معرفيا ، بصرف النظر عن الاختلاف في تقيم لحظتها أو محصلتها النهائية . لقد شدد الشيخ الماشطة في كتاباته على الحريات المدنية و مبادئ الديمقراطية و حقوق المواطنة والعدل والمساواة ، بأعتبار أن ذلك كله من أسسيات التحريض على النهوض بالمجتمع لكي يساير المجتمعات الغربية المتقدمة ، فقد كتب الشيخ في مجلته ( العدل ) عن العدل واالحرية و العدالة الاجتماعية و المساواة . عاش الشيخ الماشطة حياته مغامرا في رحلة مضنية سار فيها على جمر التحديات ، لا أحد ينكر دوره في تعزيز دائرة العقلانية و التنوير في محيطة الاجتماعي ، وقد كان مدركا لأهوال المعاناة ، ومستعدا للتضحية في سبيل موقفه التقدمي ، ولكنه في الاخير مضى و بقي أسمه رائدا ، مثلما بقي عداء الرجعين له مستمرا .
توفي الشيخ الجليل عبد الكريم الماشطة في الثالث من أيلول 1959 في إجدى مستشفيات بغداد بعد عودته من الاتحاد السوفيتي لغرض العلاج هناك و لكن المرض لم يمهله طويلا .
هذا الكتاب الذي تناول حياة أحد رواد التنوير في العراق و الذي كنبه الاستاذ الباحث و الكاتب المجد أحمد الناجي ، دسم بمعلوماته عن حياة الشيخ وفكره ونضاله ، انصح الباحثين في تاريخ العراق السياسي الحديث والمهتمين في حياة الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد ابرز رجال التنويرفي العراق الاستمتاع به و بالمعلومات ، واتمنى لكاتبنا المزيد من العطاء في هذا المجال ، ليطلع الجيل الجديد عن ما كان يفكر به الاجداد ، من اجل التنوير الفكري وربطه بقضايا الشعب والوطن و الامة العربية والاسلامية .