الموت يغيب لميعة عباس عمارة..الصوت الشعري الذي تحدى التقاليد
2021/06/19 09:50:09 م
متابعة / المدى
غيب الموت يوم امس الاول الجمعة الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة في الولايات المتحدة الأميركية عن عمر ناهز 92 عاما، بعد صراع مع المرض، تاركة إرثا ثقافيا وشعريا كبيرا.
ونعت رئيس الجمهورية برهم صالح الراحلة بوصفها أحد أعمدة الشعر المعاصر في العراق، ورائدة من رواد الشعر العربي الحديث. وكتب الرئيس العراقي برهم صالح إن «الراحلة زرعت ذاكرتنا قصائد وإبداعًا أدبيا ومواقف وطنية، حيث شكّلت عمارة علامة فارقة في الثقافة العراقية، في العاميّة والفصحى».
واصدر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بيانا نعى فيه الشاعرة الكبيرة. وقال الكاظمي «ننعى الى شعبنا العراقي رحيل الشاعرة العراقية الكبيرة السيدة لميعة عباس عمارة». وأضاف: وبهذا الرحيل المؤلم، تكون نخلة عراقية باسقة قد غادرت دنيانا لكنها تركت ظلالاً وارفة من بديع الشعر، وإسهاما لا ينسى في الثقافة العراقية ستذكره الأجيال المتعاقبة بفخر واعتزاز وتبجيل ، ونعى وزير الثقافة حسن ناظم الشاعرة الراحلة، وقال إنها «تميزت بشاعريتها الشفافة، وعاطفتها الجياشة وحبها العظيم لوطنها وناسها، رغم ابتعادها القسري الطويل عن الوطن». ، كما نعى الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق الشاعرة القديرة ، وقال في بيان «وداعًا أيتها الصوت النابض بالحياة والإنسانية، ستظل قصائدك تطير بجناحين من ورد وندى.. فقدانك يمثّل حزنًا ضاربًا في أنساغ القلب، ودمعةً مؤلمة».
برحيل لميعة عباس عمارة، يسدل الستار على الجيل الشعري الذهبي في العراق: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، الذين درسوا معاً في دار المعلمين العالية في أربعينات القرن الماضي. وإذا كان الثلاثة الأوائل، قد أسهموا في إحداث التجديد الكبير في الشعر العربي الحديث، بالانتقال من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة، أو الشعر الحر كما بات يُعرف، ظلت لميعة عمارة متمسكة بالعمود الخليلي لفترة، قبل أن تلحق بزملائها في كتابة الشكل الجديد. وإذا كانت زميلتها نازك الملائكة قد عالجت مواضيع وجودية وميتافيزيقية، ظلت لميعة عباس عمارة، محافظة على صوتها الرومانسي المرهف، والجريء أيضاً، في شعرها الفصيح والشعبي، طوال حياتها. وقد وصفها بعض النقاد بأنها «أفضل من جسّد الصوت الأنثوي الجريء، ومن أوائل من شيّد قصيدة الأنوثة وأضاءها في خريطة الشعر العربي الحديث، واحتفى بثنائية الجسد والروح».
بدأت لميعة عباس عمارة كتابة الشعر في وقت مبكر من حياتها منذ أن كانت في الثانية عشرة، وكانت ترسل قصائدها إلى الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي الذي كان صديقاً لوالدها، ونشرت لها مجلة «السمير» أول قصيدة وهي في الرابعة عشرة من عمرها وقد عززها إيليا أبو ماضي بنقد وتعليق مع احتلالها الصفحة الأولى من المجلة، إذ قال: «إن في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أي نهضة شعرية مقبل العراق!».
بعد تخرجها، عملت في التدريس الثانوي، وعُرفت بعد ثورة 1958 بنشاطها السياسي اليساري، ومساهمتها في فعاليات الاتحاد العام للكتاب والأدباء العراقيين الذي رأسه محمد مهدي الجواهري، حتى أصبحت عضوة في هيئته الإدارية. هاجرت الشاعرة من العراق عام 1978 حالها حال عشرات المثقفين العراقيين بسبب اشتداد القمع السياسي والثقافي في تلك الفترة، لتستقر في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية، حيث رحلت بعد تدهور سري في صحتها. وقد توجت مسيرتها الحافلة بـ6 دواوين شعرية، هي: «الزاوية الخالية» عام 1960، و»عودة الربيع» عام 1963، و»أغانى عشتار» عام 1969، وكذلك «يسمونه الحب» عام 1972، و»لو أنبأني العراف» عام 1980، وأخيرا «البعد الأخير» عام 1988، فضلا عن عشرات المقالات والقصائد المنشورة والكتب النقدية التي تناولت تجربتها.
ولميعة ليست من اللواتي عانين كثيرا من شظف العيش، بل كان والدها زهرون عمارة صائغ ذهب وفضة، وكان معروفا كما هي حال كثير من المشتغلين بهذه المهنة من الديانة الصابئية.
واتسم شعر لميعة عباس عمارة بجرأة ورومانسية مرهفة، ولغة محكمة التراكيب والمفردات، فضلا عن عذوبة في الإلقاء، مما جعلها تحتل مكانة في خارطة الشعر العربي كإحدى أهم الشخصيات الشعرية النسوية.
هاجرت لميعة من العراق عام 1978، لترتحل بين الدول، وتقيم في النهاية بأميركا. وقبل هجرتها، كانت عضوا في هيئة الأدباء العراقيين، وكانت في الهيئة الإدارية مع الشاعر محمد مهدي الجواهري وبلند الحيدري وأسماء معروفة أخرى.
العلاقة مع السياب
وكانت لميعة في شبابها جميلة جدا، وكانت زميلة السياب بدار المعلمين العالية، ويقال إنها كانت من الفتيات اللواتي أحبهن في شبابه، وهو يذكرها بمواضع عدة في شعره؛ من أبرزها قصيدته التي عنوانها «أحبيني لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني».
وعن ذلك تقول لميعة -في مقابلة صحفية- إنها والسياب كانا أصدقاء، تقرأ له ويقرأ لها، ويتناقشان في كل شيء، مشيرة إلى أنها أهدته الكثير من قصائدها في حياته وغيابه، وهو كتب إليها الكثير. وأشارت إلى أنها أهدته قصيدة « شهرزاد» عندما كانا معا في الدراسة، وهي تقول:
«ستبقى ستبقى شفاهي ظِماءْ
ويبقى بعينيَّ هذا النداء
ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين
ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء»
وآخر ما أهدته قصيدة سمّتها «لعنة التميّز» في بداية التسعينيات، بعد أكثر من ربع قرن على رحيله، وقالت فيها:
«يوم أحببتك أغمضت عيوني
لم تكن تعرف ديني
فعرفنا وافترقنا دمعتين
عاشقا مُتَّ ولم تلمس الأربعين»
لم تقتصر كتابات الراحلة لميعة عباس عمارة التي هاجرت من العراق في نهاية سبعينيات القرن الماضي واستقرت بولاية كاليفورنيا حتى مماتها، على الشعر الحر الفصيح، بل كانت لديها أيضا قصائد باللهجة العامية لاقت صدى واسعا في العراق لطرافتها وعمقها.
من بين هذه القصائد الشعبية قصيدة «يا حلو» وهذا مطلعها:
يا حلو يا موصه بالفاعل تكسره
وترفع المجرور والمنصوب ما تقبل غلط
اغلط بكيفك اتدلل
عودت سمعي على لحنك فقط
تمكنت لميعة عباس عمارة من كسر «النمطية المجتمعية» والتقاليد المتعلقة بصورة المرأة، كما يؤكد الكاتب عقيل عباس، ويضيف «كانت جريئة جدا في تناول المرأة كذات، لأنها تتحدث عن الرغبة والمشاعر في مجتمع ذكوري طغى حتى في الشعر».
مثلت عمارة «تحديا حقيقيا للثقافة الذكورية» في كتاباتها، وفقا لعباس.
آخر قصائدها
ومن بين آخر ما كتبته الشاعرة لميعة عباس عمارة في مايو/أيار 2019، يوضح حالة الشعور بالحيرة والتذكر لحالة النضال:
«لماذا يحط المساء
حزينا على نظرتي الحائرة
وفي القرب أكثر من معجب
وأني لأكثر من قادرة؟
أنا طائر الحب
كيف اختصرت سمائي
بنظرتك الآسرة؟»
ومن قصائدها الأخيرة أيضا
«أنا بنتُ النضالِ
أرضعني الجوعُ
وأوهى مفاصلي الحرمانُ
خُضتُهُ غَضَّةً،
ففي كلّ فَجٍّ من حياتي
مجرى دَمٍ وسنانُ»
نبوءة لميعة
في واحدة من اشهر قصائدها “ لو أنبأني العراف “ التي نشرتها في بداية الثمانينيات ترسم لنا لميعة عباس عمارة صورة اشبه بالنبوءة لما حدث بعد كلّ تلك العقود الأربعة من حياتها .
لو أنبأني العرّاف
أنك يَوْماً ستكونُ حبيبي
لم أكتُبْ غزلاً في رجلٍ
خرساء أظلّ
لتظلَّ حبيبي
لو أنبأني العرّاف
أني سألامس وجه القمر العالي
لم ألعب بحصى الغدران
ولم أنظم من خرز آمالي
لو أنبأني العرّاف
أن حبيبي
سيكونُ أميراً فوق حصانٍ من ياقوت
شدَّتني الدنيا بجدائلها الشُّقْرِ
لم أحلُمْ أني سأموت
لو أنبأني العرّاف
أن حبيبي في الليلِ الثلجيِّ
سيأتيني بيديهِ الشّمْسْ
لم تجمُدْ رئتاي
ولم تكبُرْ في عينيَّ هموم الأمس
لو أنبأني العرّاف
إني سألاقيك بهذا التّيه
لَمْ أبكِ لشيءٍ في الدنيا
وجمعتُ دموعي
كلَّ الدّمْع
ليوم قد تهجرني فيه..