المرأة العربية بين صناعة الذات الإنسانية وتفسير أشكال العمل!
كتبت المقالة على إثر الهجمة العراقية على المسلسل الخليجي (دفعة لندن) والذي يستهجن عمل الخادمة وان المرأة العراقية قد إهانتها كاتبة المسلسل لأن وضعتها في مهنة رخيصة وهي خادمة في أحد المنازل للطلبة في لندن.. وبغض النظر عن جدلية المسلسل وقيمته الروائية والفنية، لابد من البحث في أصل المشكلة بواقعية.
في خضم الظروف القاسية التي تعاني منها المجتمعات العربية كالحروب والنزاعات والأحوال الاقتصادية السيئة والتي يقع كامل ثقلها على المرأة العربية وبالتحديد العراق وسوريا اللذان أنهكتما الحروب والنزاعات الطائفية والقومية مما أدى إلى هجرة الكثير خارج أوطانهم وطلب اللجوء في البلدان الأوربية… وفي قسوة غربة اللجوء لم يخطر بمخيلة نسبة كبيرة من النساء العراقيات والسوريات أن يجدن أنفسهن في بلد غريب مختلف بكل شيء من عادات وتقاليد وثقافة وقوانين لا يكتفي بخدمات الزوجية والأمومة والتدبير المنزلي للأسرة لمن لن يحالفها الحظ أن تحصل على شهادة أكاديمية أو حتى اجتازت مرحلة التعليم المتوسط وذلك بسبب الظروف الأسرية القاسية والهيمنة الذكورية على كل مفاصل الدولة والمجتمع مما أدى إلى الكثير من النسوة المهاجرات أن يدخلن في صراع آخر مع ثقافات ومفاهيم اجتماعية وسياسية وقانونية جديدة تتضارب كليا مع المفاهيم العربية التي اعتادت عليها المرأة العربية في مجتمع بإطار ذكوري بحت، ومن هذه المفاهيم العربية المغلوطة هي النظرة الدونية للمهن الخدمية لدى الأسرة العربية والتي بحثناها خلال عقد عدة مؤتمرات وندوات تختص بحقوق الدفاع عن المرأة ومساواتها مع الرجل وخاصة حق المرأة بالعمل واستقلالها اقتصادي وكسر القيد الذكوري بالمشاركة مع منظمات ألمانية وعربية لكننا لاحظنا بعد كل هذه السنين من اللجوء ما زلن الكثير من النسوة العربية وخاصة العراقية والسورية يستهجن فكرة ممارسة الأعمال الخدمية ذاتها التي يقمن بها في منازلهن كمهنة ضمن سياق الإطار العام لمفهوم العمل.
تلك الأعمال ذات الطبيعة الخدمية مثال على ذلك (تنظيف المطاعم ودور المسنين والمستشفيات وحامل النفايات وتنظيف محطات القطارات ورعاية المسنين) فكل هذه الأعمال انحسرت بكلمة (خادمة) والنظرة لها بدونية فظة وجعلوها مهينة لكرامة الإنسان والتي ينفر منها الجميع نتيجة استخفاف وتنمر المجتمع وارتباط هذه الكلمة (خادمة) باللاوعي المتوارث وما لحق بها من قصص وحكايات من صلب وسوء خيال تلك المجتمعات الذكورية والتي لم تثق بنفسها ولا بالمرأة التي هي في نظر هذه المجتمعات (عورة) وناقصة عقل ودين… مما أدى إلى سلب تلك المهنة شرفيتها وقدسيتها ووضعها في إطار رخيص جدا وعدم احترام تلك المهن، إذ باتت كل مهنة ترتبط بالتنظيف والرعاية الاجتماعية هي مهنة محتقرة على عكس نظرة المجتمعات الأوربية المتطورة التي تحترم حقوق الإنسان وحقوق المرأة واحترام حقوق كل المهن، خاصة المهن الخدمية تحظى بكل تقدير واحترام وقدسية… يُعرف مفهوم العمل حسب القانون في أوربا (هو كل جهد عضلي أو فكري يبذل لخدمة الإنسان للإنسان من أجل ديمومة الحياة ورقيها بغض النظر عن طبيعته، والكل متساوون في الحقوق والواجبات تحت مظلة (خدمة) فالكل في خدمة الفرد والفرد في خدمة الكل تحت مظلة قانونية لا تميز بين خادمة وطبيبة وبين زبال ووزير إلخ من المهن على عكس ما توارثنا من مفاهيم وقناعات اعتدنا عليها نتيجة عملية التلقين والتوريث والتي تآلفنا معها في أوطاننا…
نعود إلى جذر المشكلة والتي لا زالت قائمة (العمل) فالكثير من العائلات العربية هنا (في المهجر) تعتمد على الإعانة الاجتماعية التي تقدمها لها الدولة المضيفة وخاصة النساء لنفس السبب السالف ذكره، أفضل طريقة للخلاص من مطرقة العمل هو تحويلهن إلى مفرخة للأطفال والتي لا تعد ولا تحصى الذي يمنحهم حق الأمومة لثلاث سنوات دون عمل وأخرى ثلاث سنوات وأخرى ثلاث سنوات والدولة تمنحهم المعونة دون انقطاع وإذا بها أصبحت مكانة تفريخ متجددة حتى لا يجبرها قانون العمل بالبحث عن عمل وتبقى تتعكز على المعونة وتصبح سجينة البيت. هذا بالإضافة إلى الكثير من النسوة لا يحبذن العمل في مجال الخدمات على الرغم من عدم حصولهن على شهادة دراسية من البلد الأم مما جعل المواطن الغربي والألماني تحديدا ومن خلال ثقافته المتوارثة باحترام نفسه من خلال احترامه للعمل إذ يرى في هذا نوع من الاستخفاف والاستهجان والتهرب من الحياة التشاركية في المسؤولية والنفعية بعيد كل البعد عن نظرتنا الشرقية البدوية للعمل في مجال الخدمات والرعاية، حتى بعد مرور سنين عدة من اللجوء وتعلم اللغة لا تزال المرأة العربية حبيسة البيت ورافضة أن تعمل بهذه المهن،، والكثير من اللاجئات اليوم هم في حيرة من أمرهن وأصبحن في مواجهة الواقع الذي يفرض عليهن العمل ويدفعهن بطريقة إلزامية للعمل والتحرر من الإعانة الاجتماعية كي يصبح لها وجود فاعل في المجتمع الجديد الذي تنتمي له،، فبعض النسوة قطعن الحيرة بالأمنيات غير قابلة للتحقيق وحلم الكثير منهن بعمل يحتاج إلى شهادة أكاديمية، مثال ذلك، ففي إحدى الندوات التي عملناها طرحنا عدة أسئلة على النساء المشاركات في الندوة حول رغبتهن في العمل واختيار المهنة التي تناسبهن: فأجابت إحدى المشاركات بأنها تريد أن تعمل معلمة كونها (مهنة شريفة) حسب التصنيف العربي للمهن وان زوجها يتمنى أن تعمل بهذه المهنة على الرغم من أنها لا تجيد القراءة والكتابة وانها لمجرد حصلت على شهادة (A1 ـ مرحلة تعلم اللغة الألمانية) تصورت انها اصبحت اكاديمية ويسمح لها ان تمارس مهنة التعليم في المهجر… وعندما قلنا لها إن تعليمها لا يسمح بذلك فأجابت (هل تطلبون مني أن أعمل خدامه) فكان جوابها تهربا واستخفافا بأي خدمة تعرض عليها كعاملة في مطعم أو في فندق أو دور المسنين أو أو، فتلجأ إلى الحلول المؤقتة كالإنجاب ولا تريد أن تفهم أن حريتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بتحررها الاقتصادي أولا وان استقلالها المادي هو شرط أساسي لحريتها واستقلالها الذاتي وإثبات لوجودها الإنساني في ظل قانون يمنع التمييز بين الرجل والمرأة في كل مجالات الحياة وخاصة فرص العمل والرواتب…
لكن وبكل أسف لا زالت المرأة العربية هنا وعلى الرغم من أنها في أمس الحاجة للعمل والمعرفة تنظر إلى تلك المهن باستخفاف واحتقار وان بعض العائلات العربية عادوا إلى بلدانهم على الرغم من عدم استقرارها سلميا وحالة الفقر والجهل الموجود في تلك البلدان، واعتبروا أن الغرب قد أهانهم ولم يحفظ كرامتهم وأذلهم ولا تزال المشكلة قائمة لدينا كمجتمعات ذات النمط البدوي الشرقي علما بأن بلداننا على كف عفريت من الحروب والنزاعات التي لا تنتهي وفي أي لحظة معرضون للهجرة المفاجئة والتهجير والنزوح…