عطونة الشرنقة
كفاح الزهاوي
لا يزال يجتر مرارة أسمال الزمن ويغوص في علقم الحياة، ويحترق في جذوة السيجارة فيتناثر في الدخان الكثيف المتصاعد، سابحاً في بركة من الفوضى والنفاق. كيف له ان يترك هذه الشرنقة بعد ان تعفن في كنفها. يزداد يوما بعد يوم عَطناً وفساداً. ومن باطنها تفوح نتانة وصِنه. تنتشر في الفضاء وتختلط مع الهواء فتنتج من علٍ طبقة صفراء، صانعة سُحب مخيفة تكسو أجواء الشرنقة، يستنشق ملء الرئتين سمومها، ومن شدة الإدمان يتخيل ان تلك الرائحة الفاسدة، شذا الطبيعة الخضراء..
يحوم في جوفها وحيدا كطائر تائه في سماء ملبدة بالغيوم الداكنة. على الرغم من ضياعه في هذا الخناق المميت المليء بالدخان الأسود، إلا أن التفاؤل والرغبة للخلاص تخفيهما غمامة من الضعف والتشظي. مع اليقين التام ان ضربات السوط مؤلمة، وتترك جروح قيحية مزمنة، يئن من هولها جميع أعضاء الجسد، وتتدفق من آلامها موجات الموت والرعب القاتم، وعلى بُعد أمتار قليلة من جدار الشرنقة تصدح أصوات هادرة، وتطفح بأمواجها العاتية لتحطيم هذا الجدار العازل، ومع ذلك يبقى ذلك الدماغ خامدا داخل الجمجمة بلا حراك، نائما في كهف مظلم، لا يهمه إذا هطل المطر حتى الطوفان أو أشرقت الشمس فوق قمم الجبال الشماء. ولا يعتريه أي شعور بالحماس والمبادرة ولا يثير في نفسه انقطاع النفس.
لا يستطيع التركيز على الهدف. عيناه تنظران الى الاشياء دون ان تتحسس معالمها وكأنهما ثقبان خاليان لعينين مقتلعتين. فَبؤبؤ العين مغطاة بطبقة من غشاء الخدر، بحيث يصعب عليه إيجاد الطريق، على الرغم من أن هناك مَنْ عَبَدَ الطريق وترك اثراً. تنثال عليه المصائب، فتجده يرمي بِتبعاتها على سوء الحظ والقدر المحتوم.
غرفتهُ خالية من الحروف، فلا يعرف شيئا من أبجديات الحياة سوى ما يسمعه من أفواه الواعظين. رغم انه محبوس في سجن كبير محاط بأسلاك شائكة غير مرئية ولكن موجعة لا تترك سوى ندبات مؤلمة، ومع ذلك لا يفكر بكسر ذلك القيد والخروج إلى النور ليرى الحياة على حقيقتها. ان أجنحة الذعر والنحيب تحوم في حيرة واضطراب تقلق أفكاره، ولكن تحرره من تلك الشرنقة الى عالم الرحيب يعتبره جريمة بحق نفسه. وفي ذات الوقت يلتمس شفقة الآخرين، ويتراءى له بأن الضفة الأخرى لا تمتلك الجرأة والشجاعة الكافية في إنقاذ السفينة من انتفاضة الاعصار وقيادتها نحو شاطئ الأمان. على الرغم من شكواه المستمرة بسبب معاناته في ذلك الحبس المقيت إلا انه يعتقد بأن قضيته التي لا يدرك شيئا عن خلفيتها بانها في طي النسيان. فهو ينتظر دوما من ينوب عنه في التضحية ويخوض بدلا منه هذه المعركة.
أضحت حياته في هذا الجو الدبق والمتجهم، مثقلةً مثل كابوس كئيب زاره في الحلم، يرى نفسه كالمسخ، قلبه يخفق بسرعة، وصدره يهبط ويعلو، كما لو ان يدا ثقيلة وقاسية تقبض على صدره بعنف، تمنع عنه التنفس، تكبح جماح حركته بل تعيقه من الصراخ وتثقل خطاه. وفي هذا المكان قد قضى ويقضي جل حياته رغم انه صعب ومظلم وطافح بالمعاناة والكوارث التي تلتهم عمره مع سرعة دوران عقارب الساعة.
مع كل آلام الماضي والسنوات السيئة التي مرت كسحابة سوداء ثقيلة على سماوات حياته إلا انه لم يفق من نومه الطويل العاجز. فهو يرى ويتألم من ذلك الوضع المعتم، لكن ليس لديه رؤية واضحة، فهو يفتقر الى القدرة على التعبير عن معاناته وكتابتها على شكل كلمات.
لا يشعر بطعم الحياة. فديجور العقل قد أعمى بصيرته وأضعف من خطاه في آفاق الأرض. من حيث لا يدري انه يعيش مذلول، منكس في مكانه.
فهو في هذا القفص قد أدمن على إيقاعات وقوانين هذه الأفكار الناعسة المتراكمة في حلقات واسعة والراكدة كالمياه الآسنة. يأبى ان يستيقظ من سباته الثقيل الذي هبط عليه مثل ليلة دهماء، أغرقه في مجرى تياره وجعله حبيس انكساراته.
تراه من داخل الشرنقة يسمع عن الثوار والثورة، والتغيير والأمل، ولأنه يفتقد الى الفعل الغريزي الإنساني وانعدامه لمفهوم الظلم والاستعباد الذيّن يقبضان الخناق عليه، يَحولان من فهم سبب بقائه صامتاً في ارض يمتلئ هواءها بِرائحة العفونة، ومع ذلك يسعى الى الهروب بدلا من المواجهة الحية.
احيانا كثيرة وعلى غير وعي منه يصبح عبئاً ثقيلا وحجر عثرة أمام تلك المجموعة التي تناضل في سبيل تحريره من أصفاد المستبدين، الذين يفنون أرواحهم في السجون أو يتعرضون الى الاغتيالات والبطش. يبقى هناك ما يثير التساؤل. مَنْ يتحمل عبء المسؤولية عن جعل الشرنقة متعفنة واوصل ساكنها الى حد اليأس والانحلال؟