شارع ٥٢
كفاح الزهاوي
كانت الساعة السابعة والنصف مساءً عندما غادر المقهى الكبير الواقع في شارع ٥٢. زوجته داهمها قلق شديد وهي تنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط في غرفة المعيشة، كانت قد تخطت العاشرة مساءً بقليل.
رددت بعض الكلمات بصوت مسموع:
– ماذا حدث؟ لماذا لم يعد إلى البيت كعادته مبكراً؟
ران عليها الأسى، راحت تذرع الغرفة ذهابا وجيئةً، وتترنح من شدة الصدمة. توقفت عن الحركة للحظة، وضعت يديها على صدرها المنقبض وأخذت تضغط عليه بقوة. كانت عيناها محدقتين، وكأن رموشهما تؤشران إلى توقف حركة الزمن. وبعد برهة سددت بصرها إلى النافذة المطلة على الشارع، أرسلت نظرات سريعة ومضطربة عبر الزجاج، حاملةً معها ثقل الحزن المتصاعد. اختلج جسدها، دوت رعدة متأججة في أوصالها، هزت بدنها من عدم معرفة أسباب تأخر زوجها.
كانت تردد ناظريها ما بين امتداد الشارع وركون بعض السيارات على جانب الرصيف والنوافذ والشرفات المطلة من واجهات المباني التي تواجه نافذتها، وكأن عينيها تبحث في ذلك الفضاء، العديم الطعم عن حلقة ضائعة تعيد للسلسلة ترتيبها الصحيح. كانت ترى بعضها يشع منها ضياء خافت واخرى تلبث في ظلام دامس تدفع إلى الاكتئاب. ذلك السكوت الجنائزي، لا ينم عن أي أثر لحياة. كل شيء في ذلك الموقف لم يكن سوى تعبير عن العدم. كان الخوف حاضرا في أروقة الغرفة يزحف في أرجاء المكان يترك آثاره هنا وهناك.
قالت بصوت يكتنفه الشجن:
– ماذا جرى لك يا حكمت؟ لم تعتد ان تتسكع خارج البيت هكذا.
ثم مالت رأسها قليلا وكأنها تريد التأكد من صحة تصوراتها وقالت:
– هل يصح ان …..
أطبقت فمها وذابت حروفها في طوفان لعابها فارتفع منسوب الوجع، حيث تجلت آلامها على شكل كآبة أفرزتها عصارة عينيها.
تحولت عن النافذة بفؤاد مكلوم وعيناها كنهر جارف تتدفق منهما الدموع. ادلهمت الغرفة، صعد بصرها إلى السقف بقلب مهموم، وكأنما تتضرع إلى السماء، بعد أن أحست أن مكروها قد ألم بزوجها.
طفقت المشاعر يبتلعها الشك وريح الشؤم قد تنذر بمصيبة تعصف بالعائلة. فهل تلبث في مكانها طوال الليل في مواجهة القلق العارم؟ إلى أي مدى عليها احتمال هذا الجمود الراكد في صراعها مع الزمن؟ أفزعها رنين جرس الساعة فإذا به يعلن منتصف الليل.
في تلك اللحظة استثارها بشدة غيابه، وعدم اتصاله بها، قد ضاعف من تأثيره جثوم الليل، هذا الليل الذي صار طويلا ليس كعادته والفجر بعيد عن الطلوع، حتى لم تعد تسمع تصاعد بكاء طفلها الذي استيقظ من النوم طلبا إلى ثدي أمه. كلما طال غيابه أصابتها حالة من المد والجزر، أغرقت حلمها على شاطئ الأمل، وانصهر الفرح في نار الحزن.
بالرغم من انغماس الهدوء في نسيم الليل، إلّا أنه كان يضفي شعوراً مضطرباً، ويُنيخُ على الشقة عبء كبير من جراء الصمت. فهي تكره الهدوء على هذا النحو، أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة. كيف لها أن تكف عن هذا التفكير العقيم والإقلاع عنه وهي غارقة في حيرة من الفوضى الفكرية.
كانت ليلة مروعة فظيعة، تدفقت في ذهنها أفكار مخيفة، تحمل ثناياها التعاسة والشقاء.
وعلى ضوء المصباح الخافت لاحت الصورة على المنضدة التي تجمعهم في إطارها الرشيق المذهب. تناولتها بأطراف الأصابع برفق وروية. بعد أن سحبت نفس عميق ملء رئتيها، أمسكت الصورة بكلتا اليدين بحسرة مغمورة، وحدقت اليها طويلا بعيونها الحزينة. انكفأ وجهها على زجاج الصورة حتى لامسها فطبع عليها دمعات صغيرة.
تسللت إلى مخيلتها ذكريات الأيام الجميلة، أيام الحب والأحضان الدافئة، أيام الدراسة الجامعية، ولقاءات العشق والغرام. تستحضر ذكريات اللقاء الأول على الحان نسائم الأحلام وروائح الزهور، والمشاعر الدفينة.
تراءى لها في تلك القطرات طيف حكمت وهو واقف على غيمة وحيدة وسط سماء صافية وابتسامة عريضة مرتسمة على وجهه الوسيم. مدت يدها بتمهل نحو قطرات الدموع المتجمعة كبلورات فضية على الصورة، توقفت فجأة خشية من أن تتوارى ملامحه أمام ناظريها وتسقط بعدها في متاهة معتمة. أرادت أن تديم حضوره الغائب في غمرة حزنها الذي سقط عليها دون انتظار.
عادت إلى الغرفة والتقطت طفلها، الذي بلغ تواً من العمر ثلاثة أشهر. جلست متكئاً ظهرها على الأريكة واضعةً رأس طفلها على ذراعها الأيسر وأخرجت ثديها، بينما التقط الطفل حلمته بثغره الصغير، فخيم على الغرفة سكون مطبق.
قالت بعد ان سقطت دمعة حزينة من إحدى عينيها:
– الليل يمضي ببطء. متى سيشرق فجر غد؟
وبينما كان طفلها الرضيع منغمسا بالرضاعة. غطت شذى في النوم وهي جالسة بعد ان أنهكها الانتظار والتفكير. حلمت بحكمت وهو يحملها على ظهره في الغابات البعيدة يطوفون في فسحتها الخضراء وأرضها المبللة بالحب تحت السماء الزرقاء الصافية متلاصقين وتحتضنهم الأشجار الباسقة المنتشرة في الأرجاء التي تلعب بأوراقها المخضلة بأمطار الليل. كانوا غارقين في خضم هذا التفاعل الحي مع الطبيعة الباهرة بجمالها. كانت السعادة هي اللحظة الحاسمة في حياتهم، الأحزان تتلاشى والقلوب تتداخل في بودقة العشق، والأزهار تفتح افواهها لتعانق أفواه العصافير، ونسمات الريح تهز جسد الأغصان فترقص أوراقها.
أسراب من الحمام تنتقل مسقسقة من شجرة إلى أخرى وتتجمع على أغصانها، وخيوط ضوئية من شعاع الشمس تتسلل من خلال أوراقها الخضراء الكثيفة. وإذا بشمس الصباح المنعشة تنسل عبر النافذة، فتتكسر خيوطها على وجهها. فتحت عينيها بفزع، كانت صرخات الألم لا تزال تئن في نفسها، بينما لا يزال طفلها يغط في نوم عميق على ذراعها.
وفي الصباح مرت على الشرطة لتقديم بلاغ عن اختفاء زوجها. استقبلها ضابط شاب ببدلته الرسمية، طويل القامة، حليق بعناية. حالما وقع بصره عليها أثار فيه نوع من الفضول ولا سيما شذى كانت شابة جميلة وفاتنة.
دخلت شذى بأناقتها المعهودة وهي تحمل طفلها:
– صباح الخير.
اجابها بشكل يضفي على وجهه شيء من الجدية ولكن ملامحه كانت طفولية.
– صباح النور. تفضلي بالجلوس.
– شكرا
بعد صمت قصير
– انا اسمي علوان جاسم، ضابط التحقيق. هل يمكن التعريف عن هويتك؟
– انا اسمي شذى مصطفى.
– أتيت هنا حسب ما وردني بسبب اختفاء زوجك.
– نعم.
بعد هذه المقدمة البسيطة، وبعد معاينة سريعة، أدار الضابط وجهه واستقرت عينيه على الكاتب وقال بلهجة آمرة:
– افتح المحضر واكتب البلاغ.
– تفضلي بالحديث.
– لم يتأخر زوجي حكمت يوما عن البيت ولم يمكث خارجه. فهو دائما يقصد المنزل مباشرة بعد انتهائه من العمل. ولكنه اتصل بالأمس وقال سيعود في الساعة الثامنة مساءً. لكنه لم يحضر على الإطلاق. وهذا ما أثار في نفسي القلق.
وقال ضابط آخر، جالس في ركن الغرفة يعاني من بعض الحروق على خده الايسر متهكماً.
– أخشى ان لديه زوجة أخرى وقضى ليلته معها.
شذى تجاهلته ولم تعر أي اهتمام لمزاحه السخيف.
ثم استمر الضابط الشاب بطرح الاسئلة وكأنه لم يسمع سفاهة الضابط الفضولي وقال:
– هل كان لديه اعداء.
– لا.
– هل تتذكرين مكان تواجده آخر مرة؟
– نعم.
– اين.
– شارع ٥٢. قالت بصوت واضح.
– قلتِ شارع ٥٢…
ثم أردف قائلا:
– بالأمس اندلعت شجار في هذا الشارع ووقع إطلاق نار هناك أدى الى مقتل شاب في العشرينيات من عمره. لكن لم يكن في حوزته أوراق تثبت هويته.
تجهم وجه شذى وتجمعت الدموع في حدقات عينيها. كانت على وشك الانهيار.
ثم أضاف الضابط بعد تفكير قصير:
– الجثة الآن في الطب الشرعي.
قالت في نفسها وهي تجول بعينيها في ذهول:
– كانت لحكمت مشاعر عظيمة تشده الى الحياة رغم العثرات المتكررة في حياته الصعبة.
ثم قالت بصوت خفيض موجهةً كلامها الى الضابط دون ان تنظر في عينيه:
– مستحيل فهو يحب الحياة ويحبنا. ولا يتورط في مناكفات قد تؤذيه. لا يمكن ان يتشاجر. فهو هادئ بطبيعته، طيب النفس.
بعد ان انتهى الضابط من طرح الاسئلة اللازمة، توجها معاً في سيارة الشرطة الى الطب الشرعي، بينما كانت تعيش حالة من الرعب والإحباط.
وفي الطب الشرعي وقف الجميع، من الأطباء والمساعدين والضابط وشذى حول سرير الميت، ورائحة الفورمالين المنبعثة من الجثة تزكم الأنوف. وبينما يواصل الطبيب رفع الشرشف بإبهامه وسبابته واصبعه الوسطى لكشف وجه الميت، كادت شمعة الامل ان تنطفئ، وتلقي بشذى في الهاوية العميقة. كانت شذى ترقب المشهد بصبر شديد تتخللها آيات التوسل. هناك في ركن ما تخبئ القدر شيئا مريعا في عباب الظلام. كانت هذه اللحظات القصيرة في حياتها قد تنطوي عليها جروحاً عميقة لن تلتئم ابداً، أو بزوغ فجر جديد يعيد للحياة وهجها.
التفت الضابط إلى شذى وطلب منها ان تتقدم بإشارة من يده وقال:
– هل هذا هو زوجك؟
تحركت بخطوات مثقلة وانزلقت عينا شذى على وجه الجثة الراقدة في سكون مطبق. كان الوجه طبيعيا ولكن شاحبا. أجابت بعد ان ألقت نظرة سريعة بنبرة واثقة، وكأنها القت عن كاهلها جبل شامخ:
– لا. ليس هو.
سرعان ما خمد نظرة الوجع من عينيها وكأنها نجت من اليأس ورسم الأمل على محياها من جديد بعد ان علتها صفرة باهتة.
بعد ان تأكدت أن الجثة لم تكن تخص زوجها، بدأت في رحلة البحث. أخذت تسأل هنا وهناك في جميع المؤسسات الأمنية. أكد الجميع لها أن الشخص الذي يحمل هذا الاسم ليس في سجلاتهم. ومرت ايام وليالي من الأسى والانين، كانت تلك الأيام معتمة مكسوة بأنفاس الموتى، ذابلة في ارض مجهولة.
لم تنعم شذى من النوم الآمن لفترات طويلة بعد تلك الليلة الفاجعة التي أدت إلى اختفاء زوجها. امتدت ساعات الانتظار كل ليلة، ربما تجدد المشاعر الراكدة الأمل بعد ان تنفض عن جدارها غبار اليأس وتبعث فيها إيقاعات موسيقية هادئة فتوقظ الحياة الخامدة.
كرست شذى حياتها كلها لتربية ابنها دون ان تنسى للحظة ملامح حكمت التي كانت حاضرة رغم غيابها الطويل. بقيت تداري مشاعرها على امل ان يعود. ابنهما دخل الجامعة وتَخَرجَ منها وأصبح رجلا، وله حبيبة وقد بلغ عمره خمسة وعشرين سنة.
ذات ليلة بينما شذى منهمكة بإعداد الطعام في المطبخ. في هذه الاثناء دخلت غرفة المعيشة حيث كان ابنها يشاهد الاخبار على التلفزيون وابتسامة عريضة مرسومة على وجهها وتحمل صَّينِيَّة الطعام…
أعلن المذيع على الشاشة الملونة:
– تمكنت الشرطة اليوم من العثور على مقبرة جماعية يعود تاريخها إلى ما قبل خمس وعشرين سنة في ضواحي المدينة على بعد خمس كيلومترات عن شارع ٥٢.
ظهر رجل امام الكاميرا يبرز هوية أحد المغدورين وعليها صورة داكنة، وفجأة تجمدت شذى للحظة، ممسكة بالصَّينِيًة بيدين مُرتعشتين، تتماوج في الهواء محلقةً في جهاز التلفزيون. وبعد ثوانٍ فقط، ارتفع صوت صاخب، هز المكان، حيث وقعت الصَّينِيَّة من يديها وتهاوت الصحون الى اشلاء ممزقة على الأرض، فيما انهارت شذى وسقطت في غيبوبة عميقة عندما أعلن الشرطي عن اسم الشاب المغدور حكمت نوري الراوي عمره ٢٥ سنة.