نسخة عمل الليالي 0000
قيس الزبيدي
* نشر على 5 حلقات في “صوت الصعاليك”
يا أيها الكتاب !
سر إلى سيدي الأعز
فسلم عليه بهذه الورقة
التي هي أول الكتاب وآخره.
يعني أوله في المشرق وآخره في المغرب .. .
من المعروف أن أنطوان جالان قام، لأول مرة في تاريخ أوروبا الأدبي، بترجمة ” ألف ليلة وليلة ” إلى اللغة الفرنسية ما بين 1704 و1717 في أثني عشر مجلدا. ونالت هذه الترجمة نجاحا سريعا باهرا وراجت في كل أنحاء فرنسا، ولم ينج من سحر وجاذبية قصصها الشرقية إلا عدد ضئيل من الكتاب، وعظم تأثيرها في أدب القرن الثامن عشر وكتبت أكثر من 700 رواية شرقية بدافع من هذا التأثير. ومن المعروف أيضا أن فولتير أطلع على الليالي وتأثر بها واحتلت مكانة الصدارة في مكتبته، واعترف في مناسبات عديدة بأنه لم يصبح قاصا إلا بعد أن قرأ ترجمة جالان أربع عشرة مرة قراءات متأنية واعية، لأنه وجد فيها مادة للسرد القصصي لا تنضب، ومضامين إنسانية غزيرة وأساليب فنية جديدة. ولقد غرق فولتير فيها، كما يكتب طه حسين في مقدمة ترجمته لقصة ” زاديج “، إلى أذنيه، ج للناس قصصا شرقية بارعة، مستلهمة من حكايات شهرزاد.
أنظر ص 114 شريفي عبد الواحد. كتابات معاصرة 34. بيروت 1998 „
أنجزت الباحثة كاترينا مومزن (جامعة ستانفورد/الولايات اتمتحدة الأمريكية) في كتابها ” جوته والعالم العربي عالم المعرفة 194 ” دراسة موسعة عن علاقة الكاتب العظيم يوهان فولفغانغ غوته (Johann Wolfgang von Goethe) الطويلة بشهرزاد، وكشفت عن تأثير ألف ليلة وليلة العميق في حياته وعلى أعماله الأدبية، وكيف أن غوته ((وجد ألف ليلة وليلة مادة للسرد القصصي لا تنضب، فعكف على دراستها والاقتداء بها واستلهامها في معظم أعماله الأدبية وفي أعظمها أيضاً“، وكيف ((أن كتاب الليالي كان بالنسبة له واحداً من أحب الكتب لديه طوال حياته، وأنه كان يعود إليه باستمرار“، كما كشفت النقاب عن شريحة معينة في عدد من أعماله، لم تكن لتظهر إلى الوجود لولا صلته بحكاياتها “.
تقصت الكاتبة مومزن واستنتجت وانطوت نبرتها على حرارة ما تكنه هي نفسها من إعجاب وتقدير للعرب والإسلام. وقسمت كتابها إلى ثـلاثـة فـصـول تناولت في فصله الأول علاقة غوته بالأدب العربي الجاهلي وتحدثت في فصله الثاني عن موقف غوته من الإسلام ثم درست في الثالث ما استوحاه غوته من الأدب العربي والإسلامي.
يقف غيسينفيلد في دراسته عن التقاليد الأدبية للمسلسل عند نموذج حكايات شهرزاد ويعتبره النموذج الأول إلى جانب نموذج ثان هو ((حكايا الديكاميرون“. وهو إذ يعرض باختصار الإطار العام للحكايا، يكشف بشكل واضح عن مزايا السرد التي تندرج وتصب في سمات ومزايا السرد التلفزيوني. ومن جهتنا سنستعين بالإطار العام الذي عرضه الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو في دراسته المدهشة لألف ليلة وليلة، بعد أن نقوم بتركيبه، لغرض يختلف عن غرض الكاتب. وسنحاول أن نستفيد من هذه الدراسة في عرضنا، كبرهان، على الأهمية الفائقة التي يمكن أن نجنيها في مجال تطوير الكتابة الدرامية إذا ما التفتنا إلى هذا التراث الجميل “.
أشتمل سجل الإعارات في مكتبـة مـديـنـة «فـايمـار» عـلـى الـعـديـد مـن الدلائل التي تشهد على انشغال جوته بالعالم الـعـربـي. ولقد كانت الدهشة من مداومة قراءة غوته للمجلدات العديدة لكتاب ألف ليلة وليـلـة وعـمـق هـذه القراءة تعلو محيا المحيط به ، كـمـا أن بـإمـكـان المـرء الـعـثـور فـي رسـائـلـه ومذكراته اليومية وأحاديثه المنقولة على الكثير من الإشارات لهذا السفر .
إن الوقوف عند الليالي وتوضيح الأهمية التي تمثلها عند الباحثين في أصول وخصوصية المسلسل الدرامي ، نبين إن تاريخ المسلسلات يبدأ مع تطور إمكانات تقنية الطباعة والتحول إلى الحرف/ الكتابة/ الخط، مع أن إرث الحكايات المتتابعة معروف أيضاً في تقاليد شفهية مثل ألف ليلة وليلة التي جرّت شهرزاد من خلالها السلطان إلى سكتها. ومع أن المسلسلات كما يذكر ((هاجيدون“ أصبحت الشكل السائد للعرض السردي في الغرب ابتداء من القرن التاسع عشر، غير أن البدايات تعود، إلى ما قبل ذلك، إلى أدب القرن الثامن عشر، الذي استمرت تقاليده حتى اليوم في روايات الجيب.
ملخص حكاية الليالي:
((نكبة زوجية يمر بها أخوان ملكان هما شاه زمان وشهريار، يباغت الأول زوجته وهي بين أحضان عبد أسود، فيقتلهما معا، وبعد فترة قصيرة من الكرب يتمكن بحكمة من التغلب على حزنه عندما يكتشف أن شقيقه البكر أكثر تعاسة منه. فشهريار لا يكتفي بجدع انف زوجته وقتلها، إنما يعمد كل ليلة إلى زواج فتاة عذراء وقتلها في اليوم التالي، بحيث يربو عدد ضحاياه من النساء خلال ثلاث سنوات على ألف امرأة، إلى أن يتبين للوزير المكلف بتقديم ضحاياه بأنه لم تعد هناك في البلاد فتاة يقدمها له سوى ابنتيه شهرزاد ودنيا زاد ويتصرف الوزير، أمام ابنته البكر شهرزاد، كما لو إن باستطاعته الحيلولة دون التضحية بها، إلا أن شهرزاد تعزم على تنفيذ مهمة عسيرة تضع نهاية لقتل العذارى وتنقذ نفسها هي من الموت. تتمة الحكاية معروفة: تنجح شهرزاد في تخليص الملك من جنونه عن طريق روايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا تقاوم، وتتمكن من خلال وضعه في حالة تنبه طيلة ثلاث سنوات تقريبا من شفاء حقده وضغينته، وبالتالي تنقذ نفسها كما تنقذ العذارى في بلادها“. ويعقب الكاتب: ((تملك شهرزاد ورقة رابحة على درجة من الأهمية وهي: فن الحكي“.
الجزء الثاني 2 عدد 43
إذن سينصت الملك إلى كل تلك الحكايات المبتورة والمتداخلة لألف ليلة وليلة وستصير لانهائية، فثمة دوما تكملة تجعل كل خاتمة مؤقتة، كما أنها أيضاً دائرية. ’إذ في الليلة الحادية بعد الألف ستروي شهرزاد الحكاية الخاتمة وسينتهي الكتاب، فليس هناك ليلة ثانية بعد الألف ولن تكون”.
حاول الباحث الألماني غ. غيسينفيلد ³G. Giesenfeld من عرضه لملخص حكاية الليالي،التعريف بالنموذج السردي وكشف فيه كيف أن التسلسلية لا ترتبط فقط بوسيلة السرد، إنما تنسحب أيضاً على ((مكان برنامج“ ثابت، مع أن مسيرته، المؤلفة من أيام وليال طقوسية، لا تنقطع وتتركب من أحداث غير متوقعة ومفاجئة تدفع الملك إلى التراجع عن قراره بقتل امرأته الجديدة والإنصات إليها ليلا. وستقوده هي عبر حكاياتها إلى عالم، يوازي عالم حياته اليومية، ويمتلئ بالحركة والحياة، عالم متغير ومليء بالذروات وخطوط التوتر، تتخلله مواقف منذرة بالخطر، لكن تتم فيها أيضاً عملية الإنقاذ في الدقيقة الأخيرة.
لفت الباحث الألماني كنوت هيكهثير (Knut Hickethier“ الانتباه إلى كتاب الليالي في دراسة بعنوان ((افضل ما في حكايتي سيأتي بعد“. وبودنا هنا أن ولـم تغيببارته الساخرة حينما يكتب: ((تعد شهرزاد دائما، إن افضل ما في حكايتي سيأتي بعد. كانت تقص حكاياتها ضد موتها الخاص، ووعدها بأن كل شيء سيأتي أحلى وأفضل وأكثر إثارة وممتلئ بالحياة، قادها إلى الانتصار على الموت، أما التلفزيون، فعلى العكس، انه كما يبدو حاليا، مهدد بطريقة السرد الكثير جدا بالاختناق، أو انه اقرب إلى الاختناق“. ومن الطريف أن يشير كيليطو إلى افتراض مماثل يخص اقتراب حكايا الليالي من نهايتها حيث تقول بعض الروايات بأن الملك قام بإيقاف شهرزاد بفظاظة وكاد يأمر بضرب عنقها لأن حكاياتها الأخيرة بعثت في نفسه مللا قاتلا، ولم يعف عنها إلا لأنها أنجبت له ثلاثة أطفال ذكور. فها نحن أمام العبرة الأخرى التي أشار إليها كل من الكاتبين والمستخلصة من ظاهرتين مختلفتين. فالحكي في نهاية المطاف لا ينقذ من الموت، أو على الأقل ليس أي حكي ينقذ من الموت، فها هي شهرزاد نفسها كادت أن تموت لأنها لم تفلح في الحفاظ على مستوى حكاياتها.
كذلك حاول أدولف غلبر أن يثبت في كتابه عن الليالي ((مغزى حكايات شهريار“، أنها ((ليست مجموعة من الحكايات دون رابط بينها، بل إن تسلسل الموضوعات يشكل سلسلة متكاملة ويجعل من الحكايات جسماً واحداً ومن التجزئة وحدة متكاملة كما إن هذه الإشارات الكثيرة في مجملها، تكشـف عـن أمـور فـي غاية الأهمية ،
في الأربعينيات ازدهر هذا الجنس الفني حتى وصل إلى قمة ازدهاره الكامل. وظهرت الرواية المعروفة ((أسرار باريس“ لاوجين سو ونشرت بالتتابع في السنوات 1942/ 1943 وهي تعتبر من الأعمال الرئيسية لهذا الجنس الفني ، الى جانب رواية ((الكونت دي مونت كريستو“ لالكساندر دوماس ورواية ((أسرار لندن“ لباول فيفال)) “
غير أن الحكايات المتتابعة اكتسبت أهميتها الكبيرة مع بداية النصف الأول من القرن التاسع عشر وبدأت أولى الروايات المسلسلة ((العذراء الكبيرة المسنة“ لهنري بلزاك.
لنعود إلى الليالي، فالسرد فيها يجب، إذن، أن يكون مشوقا والحكايات طريفة، والتأجيل، أي قطع السرد في مرحلة ما من مراحل سير الأحداث الهامة، وتأجيله إلى الليلة التالية يشد الملك إلى الحكي ويلهيه عن عزمه القاتل. فقطع شهرزاد للسرد مقصود للتشويق وبالتالي للمحافظة على حياتها، فكل ليلة تؤجل فيها بقية الحكاية تعتبر غنما في حياتها. ولهذا فهي لا تقطع الليلة في نهاية الحكاية أبدا، لأن قطعها بهذه الصورة يعني بالنسبة لها انتفاء لمبرر وجودها وموتها”.
لا تكتفي شهرزاد طبعا بعدم سرد الحكاية في كل ليلة إلى نهايتها، إنما تبدأ أيضاً في داخلها برواية حكاية أخرى لا يختلف مسارها ولا صياغة عالمها عن عوالم الحكايات التي ترويها.
أكثر من ذلك يوجد في هذه الحكايات تلك التداخلات السردية الشهيرة التي نوّه بها غوته، والتي تتحقق عبر توالد السرد داخل العمل، وهو توالد يتحقق عن طريق التسلسل وعن طريق احتواء كل حكاية لحكاية أخرى تحتوي بدورها حكاية ثالثة.
وقد أطلق تودوروف على هذا الأسلوب السردي “توالد الحكايات“ واعتبره ظاهرة سردية خالصة في الليالي، وهو يرى أن هذا التوالد، كتضمين، حالة خاصة من الترابط، يمثل الوحدة الأساسية في السرد. أن كل مرة تظهر فيها شخصية جديدة في السرد، يستدعي حكاية جديدة يتم تضمينها مع الحكاية السابقة عليها، وتمثل الشخوص ـ الساردة شكلاً من أشكال التضمين أو الترابط الأكثر لفتا للانتباه.
فليس شهرزاد وحدها تروي، إنما تقوم الشخوص نفسها بالحكي، وهي تستعين بالحكي لإنقاذ نفسها من عقاب الموت، كما تفعل ذلك شهرزاد ذاتها. وتنتج الحكايات الداخلية للحكايات الأصلية إطارا آخر، يتوقف فيه مجرى الزمن، لصالح زمن السرد، وبهذا يتم كف يد القدر، ويأخذ مصير الشخوص مجرى آخر.
الجزء 3 في عدد 44
يوضح الكاتب عبد الملك مرتاض تقنية تداخل السرد بتضمين حكاية داخل حكاية أخرى، ويذكر هو، أيضاً، أن أول من انتبه إلى التداخل السردي في الليالي الناقد المعروف تزفتيان تودوروف، وقد لاحظ مرتاض لدى تتبعه للحكايات إلى أن هذا التداخل، كمبدأ سردي، يصل إلى سرد ثماني عشرة حكاية فرعية داخل حكاية واحدة. أما في حكاية حمال بغداد وهي الحكاية التي يقوم الكاتب بتحليلها في كتابه، فتشتبك اثنتا عشرة حكاية في ترابط وثيق، ويبدأ الخيط السردي أحاديا بسيطا ثم يتحول إلي خط ثنائي ثم إلى ثلاثي ورباعي وخماسي إلى أن تبلغ الشبكة الحدثية غايتها فيتداخل الحدث في الحدث والزمن في الزمن والمكان في المكان والشخصية في الشخصية والبناء في البناء فيصبح التداخل متناميا ومتشجرا بحيث نجد الحكاية الأولى ترتبط بالثانية والثانية بالأولى والثالثة والرابعة بالأولى والخامسة بالأولى والثانية والسادسة بالأولى والسابعة بالثانية والأولى، على حين أن الحكاية الثامنة تعود وتأخذ انطلاقة سردية محورية أخرى وتحافظ على علاقتها الثابتة بالأولى وهكذا يسير الحال مع بقية الحكايات المتداخلة.
وبهمنا هنا أكثر أن نشير أيضاً إلى محاولة الكاتب عبد الملك مرتاض في دراسته عن ألف ليلة وليلة تقديم نبذة مختصرة عن علم السرد الحديث ليكتشف ويقارن بين عناصر السرد الحديثة واشتمال كتاب الليالي على غنى في أشكال السرد، لدرجة يمكن اعتمادها كأصول وقواعد في السرد العربي الأصيل، ويذكر بعض العناصر السردية الموجودة في الليالي والتي جرى الانتباه إليها في الدراسات الحديثة مثل الارتداد والتداخل والرؤية من الخلف والرؤية المصاحبة والمونولوج الداخلي إضافة إلى ما نسميه اليوم التغذية السردية(1“.
كذلك ينوّه محمود طرشونة كيف أن الاستعانة بالأشعار تمارس وظيفة هامة في الحكايات، فالأشعار تعوّض عن الوصف والتعاليق وتجلب الانتباه بواسطة وقعها وموسيقاها كما تقود إلى الاستئناس وتمنح فرصة التنفس بعد الجهد الذي يبذل في تتبع أحداث الحكاية.
إن شهرزاد وهي تستعين بمثل هذه التقنيات وطرق السرد المختلفة تقوم غالبا بتطوير الحركة والتشويق في السرد، وإذا ما ظهر شخص جديد في الحكاية فمعنى ذلك حدث جديد وحكاية جديدة تأخذ مكانها داخل الحكاية الأصلية. يفتح هذا الباب أمام الشخصيات الأخرى لكي تقوم هي بسرد حكاياتها، ويشكل استخدام تقنيات السرد الثلاث المعروفة في الليالي، أي ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب، ذروة في السرد، كما يرى الكاتب، لأنه يمكّن السارد، وهو المتحدث، من أن يدخل نفسه في إشكالية النص المسرود، ثم يأتي اشتراك الشخصية المتحدث عنها، ومن ثم بعد ذلك، أو في أثناء ذلك، اشتراك المتحدث إليه، أي المتلقي. وشهرزاد لا تفتح حكاياتها إلا بعبارة ((بلغني“، فهي لا تستعمل ((زعموا“ كما هو الحال في كليلة ودمنة أو ((حدثنا“ كما في سرد المقامة، لأنها حريصة على الاستحواذ على انتباه الملك شهريار الذي لم يفطن إلى دهاء سردها وقدرتها التي لا تجارى على المطاولة والمصاولة على امتداد ألف ليلة وليلة مما قادها كل ذلك إلى تغيير خطته الشريرة في الانتقام.
“يظهر السرد في النهاية، على كل هذه المستويات، كشكل خاص من أشكال الفعل المؤثر. فشهرزاد وزملاؤها في السرد يجدون، في الحكايات الداخلية، فقط هذه الوسيلة، لمنع الظلم، ولفت النظر إلى الأمر القويم، وبالتالي إعادة الضالين، أكانوا من الجن أم من الإنس، إلى جادة الصواب. وتبين الحكايات، كيف أن على المرء أن يسلك سلوكا متعقلا وسليما. وهذا الأمر نلمسه مئات المرات في تأثير ووظائف الليالي. فليس السلطان هو الأخير في قائمة المهتدين الطويلة“.
ويعرض استعمال التسلسلي أمامنا نماذج مختلفة في مواقف مختلفة وفي علاقة مع مستمعين مختلفين ((من خلال أولا استخدام اللعب في دخول حدود المسموح، وثانيا التقديم التعليمي لمصائر الناس الآخرين، أي أولئك الذين اخطأوا وعوقبوا، أو أولئك الذين اهتدوا وكوفئوا. وأخيرا دفع الخطر عن الأبرياء“.
ونحاول أن نذهب خطوة أبعد ونحن نستحضر تأكيد بوريس زاخوفا: ((إن الكلمة في الحياة، دائما، وسيلة، ³يفعل الإنسان بواسطتها محاولا إجراء هذا التغيير أو ذاك في وعي المستمع“. فالكلام عنده يعني الفعل الذي يتحقق عن طريق نقل رؤانا إلى الآخرين ويستشهد بستانسلافسكي الذي يبين بدوره بأن الطبيعة رتبت الأمر، عند كلامنا مع الآخرين، بحيث نرى ما يدور الكلام عنه أولا، وبعد ذلك نقول ما نرى. أما حين نسمع الآخرين فنستقبل أولا ما يقولون بآذاننا ونرى، بعد ذلك، ما سمعناه، بعيوننا. وينصح زاخوفا الممثل بتوجيه كلامه ليس إلى الأذن إنما إلى العين.
الجزء 4 في عدد 45
لنعود إلى الليالي ونتعرف على الطريقة التي تم فيها سرد الحكايات. تتردد كثيرا في الليالي جملة: ((حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر“. وهي ترد أول مرة على لسان المستمع الشيخ في حكاية التاجر والجني، وترد، بعد ذلك في حكايات أخرى كثيرة على لسان الشخوص ـ الرواة الذين يشرعون في الحكي عن مصائبهم. ثمة حكايات ترى بالعين فتكون مرآة مجسدة، فالحكاية ـ العبرة لا تنجح إلا إذا أصبحت مرآة، أجاد الراوي صنعها لتعكس ذاته وليرى فيها المروى عليه نفسه فتصبح جسرا يلتقي الاثنان عبره. يعتقد ناس الحكايات في الليالي بأن على حكاياتهم أن تكتب على العين لتجبر من يسمعها أن يلحقها ببصره، لتصبح جزءا منه، فيبصر من ثم من خلالها، وبهذا تنوب عينه عن إذنه لكي لا ينسى الحكاية ويعتبر العبرة. إن هذه الجملة تركز على العين وعلاقتها بالكتابة والخياطة، فهدف الحكاية جعل من يسمع يرى وهي تسعى لان تكون مرئية. إن الإحالة هنا على الخياطة ليست مدعمة بالإبرة فقط، بل بفعل ((كتب“ الذي يعني الكتابة والخياطة سوية. فالحكاية، إذن، لن تكتب بالإبرة على آماق البصر، بل على أوراق كتاب. وفعلا سيتم تدوينها، بعدئذ، على أوراق الكتب، ومن ثم ستفرض الكتابة على اللغة خطية وتتابعا فيزياويا في المكان، وستكتسب خصائص لا يملكها الحكي،لان الحكي، كتعبير صوتي، يجري بالضرورة عبر الزمن ويلتقطه السمع بصورة متعاقبة. لكن الأمر يختلف تماما إذا كان التعبير يتم من خلال الصورة ويتم التقاطه بواسطة العين. وسيضطر، إذن، من يريد أن يسمع الحكاية أن يستعمل عينه وبالتالي تتحقق رغبة الراوي: ((أروي لك حكايتي وتمنحني عينك. ولأن الراوي يروي حكايته لمن يسمعه ويرغب في مخاطبة عينه، فانه يسعى ليجعل حكايته مرئية“.
لا تكفي معرفة الحكايات بل يجب، إضافة إلى ذلك، معرفة طريقة روايتها، وأيضاً التمكن من إغراء المستمع بالإنصات إليها. وستكون الحكايات عجيبة وغريبة، مدهشة ومذهلة وجديرة بان تروى. ((وتخلق شهرزاد إحساسا من الانتظار القلق، إذ أن نهاية الحكاية لا تتطابق مع نهاية الليلة، وهكذا على الملك أن يترقب، عند كل فجر، استكمال الشمس لمسيرتها اليومية“. غير إن حكايات شهرزاد لا تعرف نهاية لها وما أن تنتهي حكاية حتى تبدأ أخرى أكثر جمالا وعجائبية من سابقتها. وهكذا تأخذ الراوية وقت الرواية، الذي تهرب فيه من مصيرها، ((فهي تعد بالمتعة ثم تؤجلها، وكلما أشبعت رغبة أثارت أخرى محملة بالذكرى الزاهية للرغائب السابقة“.
بدأ غوته بقراءة ترجمة أنطوان جالان لألف ليلة وليلة التي كانت ولم تزل إلى يومنا هذا تحظى بالتقدير والإعجاب بحيث أعيد نشرها مرات عديدة كما نُقلت إلى الـلـغـة الألمانية. وحقيقة الأمر أن غوته كان طيلة حياته شديد الشغف بأحاديث (جزافا إذ تعرف من خلال والدته وجدته في أيام طفولته المبكرة على (شهرزاد وبعض حكاياتها ولـم تغيب مـن ذاكـرتـه أبـدا. وحـتـى فـي سـنـ حـيـاتـه اللاحقة لم يخمد ميله نحو هذا السفر الأدبي الذي هو ملك العالم العربي لا من حيث اللغة فحسب بل من حيـث المحـتـوى أيـضـا إذ إن الـكـثـيـر مـن أجزائه على أقل تقدير مستقى من مصادر عربية.
إن المرء ليحصل على وجه الخصوص على صـورة جـديـدة كـل الجـدة عن فن القص والرواية عند غوته متى ما لاحظ العلاقة التي كانت قائمة بينه وبين ألف ليلة وليلة والتي كثيرا ما أغفلهـا الـبـعـض. لـقـد كـان غوته يقارن نفسه بوصفه شاعرا وروائيا بشهرزاد وكان يقوم المرء ليحصل على وجه الخصوص بهذا بوعي تام وبصورة مستمرة. وتكشف هذه للقاري عن جوانب شاعريته التي كانت تبدو لدارسيه. كما يفسر لنا هذا الأمر ولعه وشغفه باستـخـدامـه نوع من أنواع التـركـيـب أو الـرخـو في بعض مؤلفاته. ولقد حار الدارسون لأدبه في تفسير البناء الذي كانت تقوم عليه رواية «سنوات تجوال فلهلم مايستر» إذ كان هذا البناء ينطـوي عـلـى حرية في التركيب على وجه الخصوص.
ولهذا راح البعض يتطلع إلى احتمال العثور على بناء موحد خفي وترابط شكلي عن طـريـق الـدراسـة والبحث الدؤوب . غير أن كل هذه التطلعات لا طائل منها نظرا لاعـتـراف غوته نفسه بأنه كان ينهج نهج شهرزاد. ومـعـنـى هـذا أن مـا يـبـدو لـنـا مـن إهمال في البناء الشكلي في رواية «سنوات التجوال» لم يكن بأي حال من الأحوال بسبب ما يرافق الشيخوخة من كسل وتقاعس وإنمـا هـي- حـسـب اعتراف غوته- (طريقة السرد بعينها لأقاصيص مختلفة بصورة «متداخلة» التي اختـارهـا (متشابـكـة» (وتقديها على شكـل «بـاقـة مـن الـزهـور» بوعي تام كأسلوب في السرد. من هنا وكما أكد هو نفسه ذلك فإن ألف ليلة وليلة هي التي أرشدته إلى أسلوب السرد هذا وليس أدل على ذلك من قوله بأن طريقته في كتابه «سـنـوات الـتـجـوال» كـانـت تـقـوم «عـلـى طـريـقـ “السلطانة شهرزاد”.
الجزء 5 في عدد 46
يتعين في المقام الأول الإشارة إلى علاقة غوته بحكايـات ألـف لـيـلـة وليلة فهذه الحكايات جديرة باهتمام متميز لأنها مـن نـاحـيـة واحـدة مـن أمهات الكتب في الأدب الشعبي العربي ومن ناحية أخرى لأن تأثيرها في غوته تأثير بالغ القوة.إذ توجد هنا مشاهـد كـبـيـرة تحـاكـي حكايات شهرزاد.ولقد أتاحت له قراءته لكتاب ألف ليلة وليلة ، الذي كانت طبعة جديدة منه قد صدرت في «برسلاو» آنذاك ، وكان الناشـر قـد أرسـل إليه نسخة مـنـه ، فرصة إيجاد الحلول مشكلات فنـيـة كـانـت غـايـة فـي التعقيد والأشكال.
استدعى غوته في الكثير من أشعاره شهرزاد وعبر على لسانها عن بواعث معينة وألبسها أدوارا وأفعالا مختلفة. وفضلا عن هذا ساعدت هذه الحكايات الشعبية العربية غوته في شيخوخته على التغلب على مـا كان يرافق ليالي الشتاء الطويلة والمرض من كآبة.
وقدم غوته من حيث البناء الشكلي مؤلفاته عن سيـرتـه الـذاتـيـة وعلى وجه الخصوص كتابه «شعر وحقيقة» بالأسلوب الذي انتهجه القاص العربي. ها هنا أيضا يعثر دفعة واحدة على كل تلك «الحيل» و «الأساليب الفنية» التي لـم تـنـشـر شـأنـهـا فـي ذلـك شـأن «الرحلة الإيطالية» وقدمت للقراء على شكل مسلسلات تفصل بينها فترات زمنية متباعدة. وقد كان الشاعر شديد الولع بتسمـيـة وظهرت أيضا بشكل (هذه المؤلفات «الألف ليلة وليلة العجيبة من حياتي» متتابع لا على دفعة واحدة «سنوات تجوال فلهلم مايـسـتـر» بـل إن الـقـسـم الثاني من مأساة «فاوست» كان قد نشر هو الآخر على شكل متتابع. ومن ثم فلسنا بحاجة إلى الأسباب التي كانت تدفع غوته لأن يكتب بين الفينة والفينة في نهاية كل فصل ينشر عبارة «يتبع» إذ كان الشاعر-كمـا توضح ذلك الأدلة والشواهد الكثيرة-يحاكي شهـرزاد دائـمـا فـي مـثـل هـذه الأحوال.
من هنا نرى غوته يولي قضية اختيار نموذج الحدث، أو اختيار نمط الحكاية، الاهتمام الأول، ولم يكن يبدأ بكتابة عمل أدبي إلا بعد أن يختار النموذج المناسب للمواقف الدرامية الرئيسية.
ويبدو أن كتاب الليالي، الذي بدأ، منذ القرن الثامن عشر، زحفه عبر الآداب الأوربية، عبر المسلسلات الدرامية في التلفزيونات العالمية، دون أن نستطيع نحن أن نواكب زحفه ودون أن نجني ثمار انتصاره، عن طريق التأثر أو الاقتراب من نبعه، الذي لا ينضب، وغناه اللا متناهي وتنوعه الخصب، عبر حكايات عالمه المتداخلة والمتقطعة والمتشابكة.
ولعلنا نكون ملزمين، أيضاً، بالوصول إلى النتيجة الطبيعية، التي وصلت إليها الباحثة، بأن ((تاريخ تأثير عمل أدبي من نوع الليالي، خاصة بما يمتاز به من غنى لا حدود له بالمواد والأفكار والشخصيات وصيغ السرد القصصي، لابد أن يكون حقلاً هاماً من حقول البحث التاريخي الأدبي“.