تطور تنويعات الممارسة والنظرية لنماذج المونتاج المتعددة
اختراع الصورة الفوتوغرافية الثابتة
قيس الزبيدي
في سنة 1902 ظهر فيلم أدوين بورتر” سرقة القطار الكبرى” الذي أحدث تغييراً نوعياً في السرد البصري عن طريق قدرة المونتاج ووظيفته في بناء القصة السينمائية، ليس فقط عن طريق التتابع وفقاً للترتيب الزمني لحدوثها، واستطاع بذلك أن يكشف بداية استخدام المونتاج المتوازي، وإن بشكله الأول، كما أنه، صور في فيلمه لأول مرة،“لقطة كبيرة” لأحد رعاة البقر وهو يوجه مسدسه نحو الجمهور.
وعبر كارل دراير في فيلمه „آلام جان دارك ـ 1928“ عن مأساة بطلته الروحية، وابتكر فيلماً يتكوّن بكامله، باستثناء بعض صوره، من أحجام لقطات قريبة، تعبر عن الجزء المُميز من الجسد: الوجه.
وفي الدراسة الطويلة التي كتبها ايزنشتين في عام 1942 ديكنز غرفث: نحن تساءل حول الفرق الاساسي في استخدام اللقطة الكبيرة عند غرفث في استخدامها في السينما السوفيتية:عند الامريكان يرتبط استخدام المصطلح بالعلاقة مع طريقة الرؤية عندنا مع محاكمة وتقويم الحدث ويرى ان ما يميز وظيفة اللقطة الكبيرة في الفيلم السوفيتي كونها ذات طبيعة بلاستيكية ليس وظيفتها بالدرجة الأولى ان تُري وتعرض، إنما أن تدل وتبرز. وانطلاقا من خواصها التي تسمح بخلق نوعية جديدة للكل عن طريق التقابل فأن اللقط الكبيرة عند غرفث غالبا ما تكون معزولة وتكون وظيفتها ضرورية كتفصيل للفهم. أما عندنا فتأتي وظيفتها من ربط نوعي جديد أساسا ينتج من عملية التقابل. وكما سبق لي ان نوَّهت وكتبت فان فن السينما فن يقوم في الدرجة الأولى على التقابل وليس على التجزئة.
حاول لوتمان ان يعطي اللقطة تعريفات عدة باعتبارها وحدة مونتاج صغرى او وحدة تكوين اساسية في الحكاية او مجموعة عناصر داخلية للقطة او كوحدة دلالة لان طبيعة العناصر البنيوية الاساسية لا تتوضح عبر وصف وتبيان مادتها السكونية انما عبر ربطها في علاقات وظائفية مع الكل وويرى التعريف الاكمل للقطة واحد وظائفها الرئيسية كونها حاملة دلالة.
فأثناء ما كانت عدسة الكاميرا الكلاسيكية تتوجه نحو الأماكن المختلفة، واحداً بعد الآخر، تتوجه الكاميرا عند ويلز بنفس الوضوح نحو مجموع مجال الرؤية للمشهد الدرامي. ولم يعد المونتاج يختار لنا الشيء، الذي علينا أن نشاهده ونفهم معناه الموجود قبلاً، إنما أصبح من يشاهد مضطراً، لأن يوَّلف الواقع المستمر، الذي تعكسه العدسة على الشاشة، والذي هو أشبه بمساحة اختيار المشهد الدرامي المعني، وبذلك سجل ظهور أرسون ويلز، بوضوح، بداية مرحلة جديدة في الأفق السينمائي. وقد وجد بازان في ميزان سين المكان، جوهر الفيلم الواقعي. واكتشف أن عمق المجال البصري الواضح في إطار صورة “اللقطة/ المشهد” عبر عمق العدسة البؤري الواسع، يسمح للمشاهد بأن يشارك أكثر في تجربة الفيلم،انطلاقاً من مبدأ علاقة الفيلم الفنية بالمكان، والحفاظ على زمن استمراريته. ورأى في تطور أسلوب “عمق الميدان”، لا مجرد أسلوب فيلمي بديل، بل “خطوة جدلية متقدمة في تاريخ اللغة السينمائية”. ويلخص أسباب ذلك على الشكل التالي: ” يتيح عمق المجال للمتفرج أن يقيم علاقة مع الصورة، هي أقرب من علاقته بالواقع”، كما يجعل مشاركته في الحدث الممثل أكثر إيجابية، لأن معنى الصورة يمكن أن يأتي من اهتمام المتفرج نفسه ومشيئته. أكثر من ذلك، وجد بازان في مونتاج إيزنشتين، مونتاجاً ذهنياً استدلالياً بكل معنى الكلمة، بينما يتأتى على الواقعية الجديدة الآن أن تعيد إلى السينما إدراك الواقع وغموضه وفهمه، وبالتالي يجب أن يرتبط شكل الفيلم ارتباطاً وثيقاً بعلاقات مكانية، أي بالميزان سين. هنالك، إذن، واقع واحد فقط لا يمكن تجاهله في السينما – واقع المكان، والمهم ألا يلعب في هذا الواقع حضوراً لممثل وحده الدور المهم، إنما يلعب فيه حضور المتفرج دوره أيضاً. فما دام لا يوجد حضور غير منقوص للواقع، فإن الواقع يصبح العالم الحقيقي نفسه”. وعلى هذا الأساس، فإن شكل الفيلم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلاقات مكانية، أي بالميزان سين.
بدوره يسلط دولوز الضوء على تطور تنويعات الممارسة والنظرية لنماذج المونتاج المتعددة: كل صورة حركة هي وجهة نظر في سياق فيلمي كلي، يتنوع ويتماسك في سياق عاطفي وفعال وحساس، ويمنح الصورة وظيفة قرائية/دلالية في ما وراء وظيفتها البصرية. لكن يبقى الهدف في تجاوز استقلالية اللقطة عبر ضمها الى وحدات معان اكثر تعقيدا او تجزئتها الى عناصر دالة من مستوى ادنى.ولان تتابع/تقابل لقطتين ليس هدفه حاصل جمعهما بقدر ما هو ذوبانهما في وحدة معنى اكثر من تعقيدا ومن مستوى اعلى.
بناء على سؤال لمجلة «دفاتر السينما» الفرنسية أجاب الفيلسوف جيل دولوز، أن كتابه الأول (فلسفة الصورة- الحركة. هو عن تاريخ السينما، لكنه في الواقع، عن تاريخ طبيعة السينما «لأن الفيلم في كليته، يُبنى، على حركة الصورة، وبهذا يستطيع أن يبتكر مجموعة صور مختلفة تماماً ويولفها، قبل أي شيء، عن طريق المونتاج»وتاريخياً توجد صور ثلاث هي صور إدراك وصور فعل وصور إحساس: صورة الإحساس «اللقطة العامة» ويمثلها «فيرتوف»، وصور الفعل «اللقطة المتوسطة» ويمثلها «غرفث»، وصور العاطفة «اللقطة القريبة» ويمثلها «دراير».
ولا شك أن البحث في خصوصية ثلاثة أنواع من صور الحركة يقود إلى البحث في طبيعة البنية الداخلية للفيلم، لأن تغيير الزوايا، وبالتالي المواقع الممكنة، هو أسلوب نظام له أصوله وقواعده كما له خصوصيته الفنية. “يتيح عمق المجال للمتفرج أن يقيم علاقة مع الصورة، هي أقرب من علاقته بالواقع”. بعبارة أخرى إن اللقطة/ المشهد على طريقة عمق الميدان التي يقوم بها المخرج المعاصر، لا تتخلى عن المونتاج، إنما تدمج المونتاج في تكويناته البصرية.
ما الذي حصل حينما تم اختراع الصورة الفوتوغرافية الثابتة: الميلاد الأول لصورة تحفظ لحظة زمنية لأي شيء ثابت ومتحرك في الواقع الفيزيائي، وكيف تحولت لحظات الزمن الثابتة في الميلاد الثاني للصورة إلى صور مليئة بالزمن، الذي يمنحها الحياة.
يعد عام 1839 بحق بداية تقنية الميديا، التي أصبح بإمكانها إعادة إنتاج الواقع بشكل تام وبرهنت على منافسة جادة مع فن الرسم، الذي بدأ يتحرر على أعتاب القرن العشرين من عقدة التطابق الشكلي. أما بالنسبة للثقافة اليومية فقد عدت الفوتوغرافيا اكتشاف وسيط جديد للذاكرة، وجدت لها بسرعة استعمالا جماهيريا، دون أن ننسى ذكر طاقة تقنيتها الأخرى في المجال العسكري والقضائي وحتى الإعلامي.
أن إيجاد نسخة مماثلة للواقع الفيزيائي وللإنسان نفسه، بداية مع ظهور التصوير الآلي “الصورة الفوتوغرافية” قلب سيكولوجية الصورة رأسا على عقب واستطاعت موضوعية الصورة الفوتوغرافية أن تكتسب قوة في التصديق، يخلو منها أي عمل تصويري آخر؟ فللمرة الأولى تتشكل صورة العالم الخارجي بصورة أوتوماتيكية وبدون تدخل خلاق من طرف الإنسان.
أن أدنى رسم وأقربه للأصل لن يكون له أبدا قوة الصورة الفوتوغرافية التي تستطيع إقناعنا والتأثير فينا؟ العدسة وحدها تجعلنا نسجل الشيء نفسه ونحنطه في لحظته الزمنية وننقذه من الفساد والتلف.
ويمكن تلخيص ثلاث خواص حاسمة لصورة (الفوتوغرافيا) ، مهدت بشكل غير مباشر لاختراع الفيلم (السينماتوغرافيا): 1. استنساخ الواقع الخارجي. 2. إعادة إنتاج الصور المستنسخة. 3. تداول ونشر الصور الفوتوغرافية جماهيريا.