يعد بيير بورديو ـ مؤلف كتاب التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول ـ أحد أهم منظري حركة العولمة البديلة، وكرّس في نهاية التسعينات، اهتماماً كبيراً لنقد الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام والميديا الجديدة في فرنسا. ووجد أن فهم هذا الدور لا يتم من دون تحليل بنية التلفزيون والآليات التي تحكمه، عبر كشف دوره في التلاعب بعقول الناس، والتأثير في الوعي العام عندهم. وقد أثار الكتاب ـ ولا يزال ـ منذ صدوره في عام 1996 الكثير من الاهتمام، وصدر منه في الأشهر الثلاثة الأولى ثماني طبعات!
أصبح التلفزيون إذن جهازاً يدخل الى كل البيوت، ويصل إلى كل الناس. من هنا؛ تأتي الحاجة إلى «مخاطبة» كل الناس. من هنا أيضاً يمكن أن يطرح السؤال التالي: هل يجب حقاً أن يسمع كل الناس خطاب التلفزيون؟
تتوافر حالياً طرق قياس نسبة الإقبال على مشاهدة القنوات التلفزيونية كل ١٥ دقيقة، كما يمكن حتى رصد التنويعات الاجتماعية المختلفة بين المشاهدين، وتتوافر بذلك للتلفزيون معرفة دقيقة بما يلقَى الإقبال المناسب والإقبال غير المناسب عند المشاهدين! من يملك المعلومات ويفرض رؤيته للعالم على المشاهد؟
تقف وراء شبكات التلفزيون أسماء أسر وأفراد وشركات صناعية ومالية كبرى تهيمن عليه، وتروّج بوساطته لمصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
مهم معرفة أن شبكة إن. ب. إس مملوكة لشركة جنرال اليكتريك، وشبكة سي. بي. إس مملوكة لشركة وستنغهاوس، وشبكة سي. بي.إس مملوكة لشركة ديزني، والقناة الأولى الفرنسية مملوكة لشركة بويغ، ويقف إمبراطور الميديا روبرت مردوخ وراء ملكية ليس فقط كبرى الصحف الانجليزية إنما أيضاً وراء ملكية شبكات التلفزيون وقنوات البث عبر الأقمار الاصطناعية، ويجسد مثل هذه الظاهرة سيلفيو بيرلسكوني في إيطاليا.
قال أفلاطون إننا مجرد دمى في يد الآلهة، ويجد بورديو أن عالم التلفزيون يجعل من يقطن فيه، ومن يجاوره دمى، في قبضة صورته الاستثنائية التي تجعل مشاهدة من كل ما هو عادي، يشاهد كشيء فوق-عادي، وتجعل من كل ما هو عادي، يشاهد كشيء أكثر من عادي. ويحاول الكاتب عبر أمثلة كثيرة تحليل صورة التلفزيون، والكيفية التي يعرض فيها ما يسميه نقاد الأدب «تأثير الواقع» لتبدو الأشياء لمن يشاهدها، كما لو أنها حقائق الواقع نفسه.
من يمد طاقم التلفزيون وأفراده بالمعلومات التي يمدوننا بها؟ ان إمدادهم بالمعلومات يتم أيضاً بوساطة موردين آخرين للمعلومات! فمن أين تأتي حقاً مصادر المعلومات؟
ان الحواة والسحرة لديهم مبدأ أول، يتمثل في جذب انتباه من يشاهد ما يلعبونه، نحو شيء آخر غير ما يرونه، والتلفزيون يعرض أشياء يتم إخفاؤها، عبر عرضها بوساطة شيء آخر لا يجب عرضه، أو حينما يجب عرضه، يعرض بطريقة لا تسمح بعرضه، أو يجعل من عرضه، عرضاً غير ذي معنى، أو يعيد تركيب عرضه، بحيث يأخذ معنى لا يتطابق مع حقيقته!
تهيمن في التلفزيون الكلمات على عالم الصورة، لدرجة تجعل معنى الصورة لا يعني شيئاً من دون تفسيره بمفتاح: مفتاح يقول ما يجب أن قوله لكي يقرأ كما يجب قراءته!