في صغري، كانت جدتي تناديني الى منضدة الطعام. وعندما كنت امانع او أتجاهلُ نداءها تغضب مني قائلة: “لن اترك لك قطعة من الحلوى التي صنعتها وسأوزع سهمك على الجيران”. ينتابني القلق فجأة عند سماعي بالجيران. لماذا تروم جدتي توزيع سهمي من الحلوى عليهم؟ هل تعرفهم؟ هل يعرفونها؟ استسلم على الفور واركض صوبها خانعا.
كانت وحيدة لا تختلط مع سائر البشر، حيث ان هوايتها الجلوس على منضدة في المطبخ امام الشباك الكبير. يتغلغل شعاع الشمس الدافئ من خلاله ليغمر ذراعيها البيضاويين بالضوء الساطع وهي مستمتعة، طَرِبة، مدندنة مع الحان العندليب عبد الحليم حافظ، المنبثقة من غرفة الجلوس حيث امي واخواتي الثلاث. كانت لا تبرح الطاولة قط. ايام وشهور وسنون تمضي وجدتي تحضر الطعام والمأكولات الشهية لنا كالشراب اللذيذ والمربى من التفاح على تلك الطاولة. تفرش لنا مائدة الطعام افطارا، غداء وعشاء عليها وكأنها رفيقة دربها. ذات يوم، لمحتني متسلقا على أشجار التفاح التي زرعها جدي نزولا لرغباتها وهواياتها، بينما كانت تملأ زجاجاتها بالمربى التي صنعتها من التفاح الاصفر اللون لتعدها للتوزيع على الاصدقاء والاقرباء. تراقبني نظراتها بخوف فتصرخ: ” انزل يا ايفان، انزل من الشجرة والا ستُكسرُ رجلاك إنْ سقطتَ وسأخبر امك بشقاوتك، هيا انزل”.
كنت احبها، احبها كثيرا، لأنها الوحيدة التي اهتمت بي. كانت تشتري لي الثياب في الاعياد والمناسبات وترافقني الى الروضة وتعد لي وجبة الغداء عند عودتي من المدرسة. إمرأة لا يوجد في ابجديات حياتها الكسل والملل. كانت تقول لي: استفد من يومك! لا تجعله يمر مرور الكرام وانت لم تحقق فيه شيئا!
انظر الى تلك المنضدة في المطبخ: ماذا تظن؟ اهي من تصنعني ام انا من اصنعها ام كلانا يكمل بعضه بعضا؟؟ لولاها لم اكن قادرة على تحضير الاطعمة المختلفة، اليس كذلك؟. اذا فهي مصدر تحمسي للعمل وللإنتاج. لذلك لا استغني عنها، بل لا يُستغنى عنها قط. دعني أقص عليك قصتها يا بني، لتكن هذه القصة عبرة لك تتذكرها طوال حياتك:
“عندما كنت فتاة في مقتبل عمري تقدم لي جدك، رحمه الله، وتزوجنا. وعندما قررنا التحول الى بيت الزوجية كانت اول هدية من والدي منضدة طعام. سالته مندهشة: لماذا منضدة طعام يا والدي ونحن لم نشترِ بعد غرفة نوم او جلوس ولا نملك حتى كراسي لهذه المنضدة؟ اجابني والدي: يا بنيتي اسمعيني جيدا، المنضدة اساس كل فكرة، كل مشروع، كل اختبار، كل درس، كل مهمة وكل نجاح. اهديتها لكم كي تجتمعوا جميعا عائلة واحدة حولها. لتكن المنضدة هي نقطة انطلاقة نجاحاتكم وسعادتكم في هذه الحياة. فلا يوجد مكان يجتمع حوله الناس وجها لوجه غير المنضدة ولا وجود لمجمع تلخص حوله كينونة الانسان و الحياة كالمنضدة. إنها اداة مهمة لصناعة شخصيتكم وكيانكم. لذا فأنا اهديها لكم لا ان تتفرجوا عليها وعلى زخارفها ونقوشها، بل ان تعيشوا وجودكم معها وعليها..”
خمسة واربعون عاما مضى عليها وهي في مكانها في هذا البيت. تعرفنا على خطيب والدتك واقمنا الاحتفالات وامتدت الولائم فوقها. إجتمعنا ولا نزال نجتمع ونتحاور ونتشاجر حولها، نأكل ونشرب ونتسلى ونعد الطعام عليها. وانت يا صغيري، كنت تنثر لعبك فوقها واجمعها انا..هل تتذكر؟.
نعم، جدتي اتذكر..
هذه هي خلاصة وجودنا وكينونتنا. وانت اجمل ما موجود في حياتي.
لكن، هذه ليست منضدة والدك يا جدتي! تلك المنضدة العتيدة اختفت على اثر حريق اندلع داخل بيتنا قبل ١٥ سنة. حريق راح ضحيته والدي وامي وأخواتي الثلاث وخالي وابناه. الا ترين اثار الجروح على يديك؟ المنضدة لا تصنعني يا جدتي، فهي ليست سوى جماد بين كل اغراض المنزل الجديدة هذه. انها مجرد اداة انهت حياة امي وابي واخواتي. الخشب لا يصنع الانسان، بل يهلكه! يهلكه عند جنيه وتقطيعه وتحويره ليكون في النهاية كرسياً او مكتبة او..او..مجردَ منضدة..
لو لم تكن تلك الفاجعة بسبب منضدة والدك الخشبية لكنا اليوم جميعا مجتمعين حولها وليست ذكرياتنا..