“اسمي احمد، الكل يناديني “حمودي” منذ صغري، لدي خمسة اخوة واختان اكبر مني سنا، حيث نقيم في احدى دور الصالحية في بغداد. والدي “كريم” توفي وانا ذو الخمس سنوات. كان والدي كاسبا، يعيش يومه الشاق بعد اخر ليوفر لنا لقمة العيش. تأثر كثيرا بموت اخيه “علي” المروري المؤسف على طريق محمد القاسم السريع. كان متمسكا به منذ صغره. علمه عدة مهن كي يعيشا بكرامة. في فترة الحصار الاليمة على البلاد، لم يكن العمل متوفرا بيسر او سهولة. لقد كان وضعنا قبل الحصار افضل. اذ كان اخوتي وابي يساعدون عمنا علي في ورشة الاثاث في المنطقة. كان موهوبا، محترفا، نظيفا في عمله. كان كل زبائنه من المنطقة، يثقون بمهارة يديه ويحترمونه. اشتهر عمي علي بالنجارة حتى حل الحصار. اصبح العم علي ينتظر كل يوم بفارغ صبره زبونا يقصده ولكن دون جدوى. بعد سنتين، قرر بيع المحل ليشتري له مخبزا بسيطا في المحلة. الخبز مصدر الحياة، اجدادنا السومريون هم من صنعوه ونحن، احفادهم، مستمرون في صناعته. كان يشتري الطحين المدعوم من وزارة التجارة اسبوعيا.
خمسة افران من الطين كانت مصدر رزق عمي ووالدي، اللذين امضيا عمريهما في المخبز، ليلا نهارا؛ يخمران ويعجنان ويخبزان ويبيعان. اضطر اخوتي الى ترك الدراسة واصبحوا عمالا في مخبز عمي. كنا عائلة واحدة، هدفنا العيش فقط لا سواه، ولكن بكرامة. كنت اتردد دائما على مخبز عمي لكونه قريبا من دارنا. امضي وقتي كله اتفرج كيف يتم تخمير الخبز وعجنه وتحضيره. استمتع وبلهفة لحظة فتح شبابيك البيع والناس تتجمهر حول المخبز. اصبحت اشعر بالفخر ان عمي ووالدي يعرفه القاصي والداني في المنطقة حتى ذلك اليوم…
خمسة وعشرون كيسا من الطحين المدعوم لا يصلحون للعجن ولا حتى للأكل! ناشد عمي وزارة التجارة مبلغا اياهم بان الطحين ليس على ما يرام وانه يروم استبدال الاكياس غير الصالحة بأكياس صالحة. اكتفى عمي بعجن ما لديه من الطحين الصالح والانتظار حتى الحصول على جواب من وزارة التجارة. بعد بضعة ايام والا بعمي يفاجأ برجلين يرتديان بدلات زيتونية اللون يطلبانه بالالتحاق بهما الى المركز للتحقيق معه في موضوع المخبز والطحين!
ذهب عمي ولم يعد، حيث اختفى في سجون النظام. وبعد ستة اشهر خرج عمي علي من السجن نحيفا، شاحبا، ضعيفا لا يقوى على المشي. كانت سبته انه تطاول على النظام بسبب رداءة الطحين وان شخصا ما في المنطقة اشتكى عليه ظلما، لكن خيرين من معارفه زكوه امام القاضي وتم الافراج عنه. طمأنه والدي ووعده بان يستمر في عمل المخبز ويوفر لعمي ما يحتاجه من دواء وعلاج وعائلته من مال ومعيشة. انتهى النظام وتغير الحال، توفي والدي وعمي..
عندما اصبحت في السابعة من عمري، قررت العمل مع اخوتي. كسبت مهارة والدي وعمي واصبحت اخذ الخبز وابيعه في الطرقات و في مداخل المؤسسات والدوائر والمحلات ثم اعود للمخبز لاستلم كمية أخرى وابيعها. كنت فخورا بما افعل بالرغم من الظروف القاسية.
على عتبة الدار، تقف امي بانتظار عودتنا وبفارغ صبرها، تتوق لعودتنا جميعا في فترة الظهيرة من اجل تناول الغداء. لا تمس يديها الطعام ابدا حتى يكتمل عدد اخوتي واخواتي جميعهم. كنا نقص على والدتي ما نراه في الشارع و في الناس من مشاهدات يومية وهي تفرح كثيرا وتتسلى برواياتنا. ذات يوم ذهبت لأمي وقلت لها بانني سأصبح مهندسا. قالت كيف وانت تبيع الخبز؟ قلت لا تهتمي يا امي سأكون مهندسا..!
قررت ان اعود للمدرسة واهتم بدروسي كبقية اطفال منطقتنا الفقيرة. الاستاذ مسعود، مدرسنا، كان يعرف عمي جيدا ويحترمه. كان يقول لي، احفظ هذا الشعر والقيه على الطلبة وانا اكافئك بألفي دينار. تشجعت كثيرا وفعلت، كنت افعل كل ما يطلبه مني كي انجح، حتى تفوقت على أقراني وانا في الصف الثاني ابتدائي الى جانب مهنتي خبازا. نجحت وتفوقت في دراستي.
تحول مخبزنا الى معمل للخبز والصمون والمعجنات. انا الوحيد الذي اكمل دراسته الثانوية بفضل الاستاذ مسعود. كان يشتري مني الخبز وكنت اخصم منه كل مرة الف دينار، اي كنت اعطيه الخبز مجانا، كرد لجميله الذي لا انساه. تزوج اخوتي وتوفيت امي وتفرق بعضنا الا انا؛ تمسكت بالمخبز وبالمنطقة، حيث ارث عمي وتعب ابي وزبائننا ومعارفنا. قررت وابن عمي ان نعين عمالا في المخبز ليساعدونا. وبعد بضعة سنوات قررت الالتحاق بكلية الهندسة لتحقيق حلمي. اجتهدت كثيرا وتخرجت بفضل ذكرياتي مع المعلم مسعود. كنت اسمعه يردد على اذني:
اجتهد يا ابني واصعد للأعالي، الوطن يحتاجك! تخرجت من كلية الهندسة بتفوق وكلي فخر بنفسي. مضت السنوات وانا ازاول مهنة الخباز بالرغم من شهادتي في الهندسة الميكانيكية وبالرغم من مصاعب الحياة. ثم جاءت الحرب على داعش. اصبح معظم اصدقائي في المنطقة متهيأ للذهاب الى الجبهات. تطوعت معهم ضمن فريق الدعم اللوجستي. كنت اخبز للمتطوعين في الحشد الشعبي واوزع الخبز الساخن عليهم، كما كنت اعد الطعام لهم. “حمودي الخباز”، هكذا كانوا ينادونني. كنت فرحا معهم ومع ابناء منطقتي. ذات يوم وفي احدى الجبهات في صلاح الدين لمحت صدفة زميلي في الجامعة، “بكر” في السوق الشعبية يناديني: المهندس احمد ..يا مهندس احمد.. انا بكر، المهندس بكر، شلونك؟ ها، صرت بالحشد؟ داعش لم تبق لنا شيئا للحياة. وانت؟ اجبته: جئتكم لأعيد لكم الحياة! هل لي ان اناولك بعضا من الخبز؟ …خبز؟ الست مهندسا؟ ..كلا انا خباز الحشد!
المهنة لمن يزاولها يا صديقي وليس لمن يلقب بها!..الوطن يحتاجني يا بكر..
اكتب مذكراتي وانا على جبهة الموصل..المعارك طاحنة..اصبت بذراعي ولا اروم على فعل شيئ..لكنني لا ارغم بالعودة الى دياري..اريد الصمود، ساعلمهم مهنة صناعة الخبز..المعلم مسعود علمني ان اكون مجاهدا، فالوطن يحتاجني..وقريبا سأكون في الاعالي عند ربي..”
(استشهد “حمودي الخباز” في معركة الموصل تاركا معمل عمه ووالده وعائلة عمه وراءه لايزالون يعيشون من نثريات المخبز..استلم ابن عمه دفتر مذكراته من احد افراد الدعم اللوجستي العائدين لينشر قصة “حمودي”، الخباز المجاهد…)