من يضمن مقاضاة السلطة أمام القضاء
فرات المحسن
طبيعة التغيير الذي حدث إثر سقوط سلطة حزب البعث في العراق عام 2003. وبالرغم من كونه جاء عبر احتلال أجنبي، ولكن وفي مجمل الأحوال لا يمكن الإنكار، بان ذلك الحدث قد منح العراقيين فرصة مغايرة للتعبير عن أفكارهم، ودفع بهم للتفكير في المشاركة لبناء مستقبل جديد لبلدهم، وفي المقدمة منه، ضمان حاجتهم للسلوك الديمقراطي، ليكون ذلك عبر بوابة توفر حريات اقتصادية وحقوق مدنية، ومشاركة سياسية في الشأن العام. ولم يكن مثل هذا الحلم في أفاقه المرجوة، ببعيد المنال عن التحقيق، لو توفرت للبلد قيادات ، تعالج بصورة أساسية عقلانية الروابط بين الهياكل الجوهرية في السياسة والاقتصاد .
ففي بلد مثل العراق انهارت فيه مؤسسات الدولة جراء سياسة الولايات المتحدة ،الدولة المحتلة، التي عملت بإصرار على تفكيك بنى الدولة ، دون توفر بدائل عقلانية. فالتحول الديمقراطي، الذي تمثل بتشكيل سلطة الشراكة الوطنية، لم يكن ليسير قدما دون مواجهة الفشل، كونه اعتمد ويعتمد بالأساس، على وصفات وأفعال ورؤية من يمتلك القيادة ويدير شؤون الدولة،وعلى وفق مبدأ تقاسم السلطة والثروة. وهؤلاء وعلى مدى السنوات المنصرمة من عمر العراق، مثلوا النماذج الأكثر تخبطا في إدارة مراكزهم الوظيفية، ومنها مؤسسات الحكم العليا. ولم يقدموا لحد الآن أنماطا توحي بتغيير حقيقي، بعيدا عما كانت عليه أفكارهم، في فترة معارضتهم لسلطة البعث، بل أفصحوا عن تضارب غرائبي في مستويات صنع القرار، الذي بدوره حقق النموذج الأسوأ في طرق التنمية والبناء، ومثل شكلا فاضحا في أوجه الإنفاق العام، وبالذات فيما يتعلق بالبرامج الاجتماعية والاقتصادية، وصعد من حدة التفاوت والغبن في توزيع الثروة، وبات أحد أهم العوامل في إثارة النزاعات بين أبناء البلد الواحد.
الملاحظ اليوم في المشهد السياسي السلطوي، اختفاء أي ملمح لبناء ثقافة سياسية تدعم التحولات التي طرأت على حياة العراقيين، وهذا بدوره أثر تأثيرا فاعلا، وظهر جليا في الإخفاق الذي رافق ولازال، قضية بناء مؤسسات سياسية ديمقراطية رصينة، تقوم بإجراء تعديلات جوهرية على هياكل الدولة، ومثلها المؤسسات الاجتماعية.
مثلت الانتخابات النيابية وبعض الحريات الممنوحة للإعلام، نقلة نوعية في حياة الشعب العراقي. ورغم كونها واحدة من الضرورات على طريق الديمقراطية، لكنها تبقى قاصرة وغير كافية، إن لم تترافق وبشكل مضطرد، مع العديد من فروض الحريات المدنية، ليكون الناس من خلالها ركنا أساسيا في الشراكة الوطنية، وبناء المجتمع الديمقراطي، حيث تسير قرارات البناء اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، تحت نظر ومشاركة أبناء الشعب، ومؤسساته الوطنية، المتمثلة بالإعلام والاتحادات المهنية والجمعيات المدنية. لتصبح تلك المشاركة ترسيخا لمكانة تلك القطاعات، وزيادة في قدراتها على التأثير في قرارات السلطة، وعندها يمكن أن تسير عجلة المجتمع نحو الديمقراطية.
وبالرغم من وجود الكثير من البنود التي احتواها الدستور العراقي، الذي توافقت عليه القوى السياسية العراقية، والتي تؤكد في فحواها على الديمقراطية و الحريات المدنية والمساواة والعدالة الاجتماعية، فإننا نجد أن تلك البنود غالبا ما تتعرض للانتهاك بشكل يومي فج وسافر، من قبل السلطات المتعددة والمليشيات التابعة للأحزاب، وأيضا من قبل الكثير من الأفراد والجماعات. وتلك الإساءات تتطلب تغيرات جوهرية في السياسات العقابية ، قانونيا ومثلها الاقتصادية والاجتماعية،لأجل ضبط إيقاع التحولات المجتمعية و صيانة المسار الديمقراطي، بعيدا عن اعتماد مواد قانونية سنها النظام الشمولي السابق لتكميم الأفواه. وقطعا ليس مناسبا أبدا أن تكون بعض بنود الدستور الحالي بوابة لخنق الحريات وتهديد حياة الأفراد والجماعات بالعقوبات، عبر نصب محاكم تفتيش تحاسب الناس على ضمائرهم ونواياهم ، لا بل على مؤسسات الحكم ايلاء حرية التعبير والدفاع عنه كحق أساسي مصان بقوة القانون ، ويعد الركن الأعظم في قواعد ومنظومة عمل مؤسسات الدولة،
مازال الوضع الأمني يمثل أكثر الضغوط المانعة والحاجبة للحريات. ومافتئت العديد من مؤسسات الدولة، وكذلك بعض الأحزاب المشاركة في العملية السياسية، تتكئ على هذه الموضوعة، لتجعلها في صلب هواجسها ومخاوفها. لذا تندفع بقوة للممانعة والوقوف بالضد من إطلاق المزيد من الحريات داخل أوساطها، أو بين أوساط المجتمع.
ومثلت اشتراطات ورؤى المؤسسات الدينية ، بالترافق مع التقاليد والأعراف الاجتماعية، مصدات كابحة، يعول عليها الكثير من الأفراد والجماعات، لكبح الحريات ومحاربة التغييرات، وتصطف معهم في هذا الجانب، بعض من القوى السياسية ، فنراها تعمل جاهدة لوضع موانع وعراقيل في طريق التحديث، ووصل الأمر حد استخدام سلاح التهديد والإرهاب اليومي، بالضد من دعاة الديمقراطية والحريات المدنية. ومثلت المليشيات الدينية والسياسية، الذراع المنفذ لتلك التهديدات، ومورست في هذا السياق ودون رحمة، تصفيات جسدية وإرهاب علني، وكانت انتفاضة أكتوبر ووقائعها، شاهد حي على طبيعة تلك المجازر ومرتكبيها. وتوجد في المحاكم العراقية اليوم آلاف الشكاوى حول تلك الجرائم، ولكن دائما ما سجلت ضد مجهول أو حجبت، جراء التهديدات والمخاطر التي توجه في الأساس للقضاء العراقي. وجميع تلك الشكاوى تقع في باب الإساءة والتعدي وحجز الحقوق، وصولا إلى جريمة القتل العمد.
وعلى ذات المنوال تنتهك كرامة البشر في جميع مناطق النزاعات داخل العراق، ويقع ثقل تلك الجرائم على السكان المدنيين، الذي تمارس بحقهم أشكال متعددة من الإرهاب وسلب الحريات. فالنزاعات المسلحة العشائرية وغيرها، دائما ما تضطر معها، العديد من العوائل في المناطق الساخنة، إلى هجر مساكنها وفقدانها لمصادر العيش، وحرمانها من الخدمات، والتعليم والغذاء والبيئة الصحية وغيرها الكثير.
وكان ومازال تدني مستوى التعليم والمعارف، بموازاة تفشي البطالة وانتشار الفقر، بؤر خصبة للعديد من أنواع المخالفات القانونية وممارسة الإساءة دون محاسبة وردع . وما كانت موضوعة الفساد الإداري وسرقة المال العام، ببعيدة عن أجواء الجرائم المرتكبة بحق الإنسان العراقي، حيث تهدر كرامته وتوقعه في مسالك الهلاك والتعديات والهدر لحقوقه وحرياته الأساسية. ومن باب أولى النظر أيضا في مناهج التعليم وما تقدمه من معارف وعلوم. حيث يحث البعض منها على التعصب والكراهية وإثارة النعرات والتمييز الطائفي والعرقي والأصل الاجتماعي. وهناك ظروف وعوامل متنوعة تجعل المجتمع العراقي ساحة مفتوحة لتنامي التعديات والمقاضاة خارج القانون والخرق الفاضح لحقوق الإنسان.
تلك المشاكل التي يواجهها الفرد العراقي.،تضع على عاتق منظمات المجتمع المدني وزرا كبيرا، يوجب عليها بسببه، الأخذ بجميع ومختلف وقائعه بحذر ودقة،ويستدعي وجود قيادات ومجموعات عمل، ذات خبرة مهنية قادرة على وضع استراتيجيات سياسية اقتصادية اجتماعية، تعطي الأولوية لكبح مصادر الجريمة والإساءة، وتعتمد في عملها على توسيع المجالات الديمقراطية، ومنح الحريات وتحرير الطاقات المدنية، اعتمادا على مساهمات مشرعين قانونيين وتكنوقراط مهنيين، للوقوف بحزم تجاه مختلف أنواع الخروقات. ولذا فالوضع الحالي يحتم وجود منظمة عراقية للدفاع عن حقوق الإنسان، لها هيكلة حقوقية قانونية جامعة، تكون بعيدة جدا عن أي شكل من أشكال العلاقة بالسلطة، وعلى أن تضع نفسها في مسافة بعيدة جدا عن تأثيرات ومغريات السلطة، وأية مؤسسة من مؤسساتها الرسمية. وأن يكون من صلب عملها المراقبة النزيهة والحيادية، لأداء المؤسسات الحكومية وكذلك الأحزاب والمنظمات الوطنية العاملة. ولتكون الخصم الأساسي أمام المحاكم الوطنية والدولية، في إثارة الدعاوى ومقاضاة من يخرق القانون ويعتدي أو يقوم بسلب حقوق الغير.
فنحن في العراق ومع التصعيد المستمر للخروقات الدستورية واستخدام مؤسسات الدولة للتضييق على الحريات بحجج وتهم التطاول على الرموز أو الإساءة لمؤسسات وقادة الدولة. نجد الحاجة ماسة لمثل تلك المنظمة من أجل ضبط إيقاع التعامل اليومي لمؤسسات السلطة ومثلها للأفراد والجماعات. وإيجاد السبل القانونية الكافلة والضامنة لنيل الفرد لحقوقه، والتصدي والوقوف بوجه التجاوزات الحاصلة على كرامته، وحقه الإنساني في العيش بسلام وضمان حريته بالتعبير، وفق قواعد وسلوك أخلاقي قانوني معرف وشفاف.