إثر ما ظهر من نتائج الانتخابات الأخيرة لشهر أكتوبر عام 2021 طفح نحو السطح وبحدة مشهد الصراع الشيعي الشيعي.فقد قدمت كتلة التيار الصدري وهي أحدى أعمدة التحالف الشيعي السابق، رؤيتها عن طبيعة العملية السياسية في العراق ومستقبل السلطة وتركيبتها. وتضمنت تلك الرؤية رغم ضبابيتها، نقاطا يرى التيار أنها بوابة للإصلاحات في عموم الحياة السياسية وداخل البيت الشيعي أيضا، وفي الوقت نفسه يكون قبولها من قبل الآخرين شرطا لرضا التيار الصدري.
ولكن ورقة التيار الصدري عدها البعض ، استفزازا وطعنا بما سمي في التوصيف السياسي الطائفي الحديث بالأغلبية الشيعية، لذا لا يمكن قبولها، لا بل اعتبرت شروطا تعجيزية، على التيار الصدري إبعادها. فمطالبة الصدريين بتصحيح مسار وطبيعة تشكيل الحشد الشعبي، ووضع قائمة بأسماء المفسدين والفاسدين، وهما نقطتان حساستان تستفزان قوى سياسية وشخصيات لها وجودها القيادي الفاعل في العملية السياسية. بل إن البعض من هؤلاء ضمن قادة الصف الأول من الكتلة الشيعية ، ومنهم من يمثل رأس الفساد في العراق، ويتقدم الجميع بسوابق السيطرة على وسرقة المال العام. وهؤلاء يرفضون أي ذكر لوقائع شاركوا فيها وسببت خسائر كبيرة ونهبا للمال العام ، ويقفون بالضد حتى من عمليات الاستجواب في البرلمان، ويمتنعون عن حضور تلك الجلسات، رغم ما يعتريها من طقوس ومخاتلات تخرج الاستجواب في نهاية المطاف عن طبيعته وضروراته ليصبح وكأنه عملية اشتباه وشكوك ليس إلا، وبعدها يتم التراضي وتبويس اللحى وليس أكثر. بل يعتقد هؤلاء بأن حضورهم أمام البرلمان يكفي ليكون حسب تصوراتهم استجوابا سياسيا بل محاولات للتسقيط السياسي، لذا فهم يسعون للوقوف بقوة في وجه أي محاولة من هذا القبيل.
ورغم إصرار أغلب قوى المكون الشيعي على عدم وجود خلاف داخل هذا البيت، لكن المشهد من الداخل وأيضا ما يتسرب عن اجتماعاتهم المتكررة، يؤشر لوجود خصومات ونزاعات كثيرة وكبيرة،وهناك صراع فرقاء على مصالح شخصية ومالية، ومراكز قوى وقيادة، ودائما ما تثار فكرة هيكلية الدولة الدينية التي يرغبون في بنائها، وفق معايير ومنهج ولاية الفقيه أم بعيد عنها. فالمعروف عن المذهب الشيعي تعدد المراجع الدينية، والسماح للأفراد بتقليد المرجع، حسب خيار الفرد وعلاقته بالمذهب.ولكن الحوزة الدينية في إيران تدفع لتكون عراب الجميع وقائدهم.
فمنذ ظهور الحوزة الدينية في قم، احتدم صراع خفي سعى دائما لجعل المرجعية العليا عائدة حصرا، لعلماء المؤسسة الدينية الإيرانية دون سواها .ورغم أن أغلب قادة الحوزة الدينية في العراق هم من أصول إيرانية، منذ هجرة الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي من إيران إلى العراق، وتأسيسه لما سمي لاحقا في أعراف ومدونات الطائفة، بالمرجعية الدينية. ولكن ظهر وفي فترات متواترة صراع ديني سياسي، دارت رحاه بين المؤسسة الدينية في العراق ممثلة بالحوزة الدينية في النجف، و نظيرتها الإيرانية في مدينة قم. ودائما ما كانت تثيره حسب الحاجة ولإغراضها السياسية، الحكومة الإيرانية. وغالبا ما كانت الكفة تميل في ذلك الصراع، لصالح الحوزة الدينية في النجف، وبتعضيد ومباركة من سلطة الشاه الإيراني، في محلولة منه لتحجيم خصومه داخل إيران، لحين زمن الثورة الإيرانية عام 1979 وظهور الشيخ الخميني، الذي استمال بقوة الدولة الإيرانية وأموالها،الطائفة الشيعية في العديد من الدول، ومنها مجاميع عديدة داخل الطائفة الشيعية في العراق. وإثرها احتضنت الدولة الإيرانية والحوزة الدينية فيها، رجال المعارضة الشيعية العراقية لنظام صدام، وأغدقت عليهم الكثير من الأموال وقدمت لهم يد العون لبناء ميليشياتهم وتسليحها، وكذلك إيجاد قواعد عسكرية داخل أراضي الدولة الإيرانية لانطلاقها في عمليات الصراع ضد حكم صدام.
مع هذا التأثير لقائد الثورة الإيرانية والمحاولات لتصدير مفاهيمها خارج حدود إيران، تسيد الشيخ الخميني قطاعات كبيرة من الطائفة الشيعة، وبات ليس فقط ينافس رجال الحوزة الدينية في النجف، وإنما استطاع أن يخطف منهم البريق الذي كانوا يتمتعون به لزمن طويل. وجاءت وفاة الشيخ الخوئي لتعزز مكانة الشيخ الخميني. ولم تستطع الحوزة في النجف أن تعيد ذلك البريق والسطوة التي تمتعت بهما على عهدي السيد محسن الطباطبائي الحكيم ( 1889 – 1970 ) أو السيد أبو القاسم الخوئي (1899- 1992) وطغى على المشهد الشيعي في العراق تعدد المرجعيات وبات جلها يتبع مرجعية قم رغم بقاء مرجعية النجف ممثلة بالسيد السيستاني.
في بعض من رؤية التيار الصدري لمثل هذا الأمر تحدث السيد مقتدى الصدر ورجاله عن ( أن يكون هناك غطاء مرجعي عام داخل العراق مقبول من جميع الأطراف ) وعند هذه النقطة دار الخلاف حول طبيعة المرجعية التي يحبذها التيار الصدري. فالمعروف عنه رجوعه حسب اقتراح الشهيد الثاني السيد صادق صادق الصدر قبل استشهاده، إلى مرجعية السيد كاظم الحائري في إيران. وقد حدث على عهد متأخر من عام 2014 شرخ في العلاقة بين التيار الصدري والشيخ الحائري، وباتت مرجعية التيار غير مستقرة أو غير واضحة المعالم، ولكن وفي أكثر الأحيان يرد على لسان السيد مقتدى الصدر قبوله بمرجعية السيد علي السيستاني.، رغم ما أطلق من قبل أتباعه على مرجعية السيد السيستاني تسمية ملتبسة ومشككة ( المرجعية الصامتة) .
عند هذه النقطة أختلف الحلفاء في التكتل الشيعي، على طبيعة المرجعية الدينية، التي يجب عليهم العودة إليها، لتكون الحاسمة في القرار السياسي والديني.فالبعض يرى أن التيار الصدري يريد فتح باب التدخل لجهات دينية (المقصود مرجعية السيد السيستاني)، ربما ليس لديها الرغبة في المشاركة بالعمل السياسي، خاصة وأن هذه المرجعية قد أشارت على لسان الناطق الرسمي باسمها، عن مثل هكذا توجه. وعند تلك النقطة من الشروط، أبدت الكثير من أطراف القوى السياسية الشيعية تحفظها على وضع حوزة النجف ممثلة بالسيد السيستاني، كإطار مرجعي وحيد للمكون، والسبب يعود في ذلك لكون أغلب هؤلاء الشركاء في المكون، ليسوا من مقلدي السيد السيستاني. وهنا يبرز الخلاف في طبيعة التوجه نحو خيار أي المرجعيات التي عليها أن تكون قائدة وموجهة للعمل السياسي والمجتمعي والطائفي للمكون الشيعي، أي لمن العودة في خيار بناء الدولة الدينية العراقية، ومن يكون المرجع في القرارات، هل هي الحوزة الدينية في النجف أم مرجعية قم في إيران. ولكن الساحة السياسية العراقية ومنذ عام 2003 اعتادت على أن تقفز المرجعية الإيرانية إلى الواجهة لحسم الحدث السياسي العراقي بقوة القرار وسطوته. وهي بالذات من أملى أخيرا على السيد مقتدى الصدر خيار النفس القصير وإخلاء الطريق أمام تابعيها من الأحزاب والمليشيات.
ورغم وجود العديد من نقاط الخلاف، ولكن يعتقد أن الأمر قد حسم لخيار الحوزة الدينية في إيران ممثلة بولاية الفقيه وبمرجعية السيد الخامنئي، إذا ما عرف أن أغلب القوى السياسة الشيعية ومعها غالبية تنظيمات الحشد الشعبي وباقي المليشيات ، تتلقى الدعم المادي وتعود في خياراتها لتحتكم دائما لقرارات ولاية الفقيه، وهو المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، وتتبع تعاليمه وتلقى النصح والعون من حوزة قم، قبل أي طرف أخر.وهذا الخيار في طبيعته لا يعود فقط إلى الراهن من الوقت، بل عائدا أساسا لارتباطات سابقة، كان لإيران الفضل واليد الطولى في بناء هياكل سياسية ودينية للعديد من القوى السياسية الشيعية العراقية الحالية، ومنذ ما قبل مؤتمر شيعة العراق الذي عقد في طهران قبل سقوط سلطة حزب البعث في العراق، والذي أداره المرحوم أحمد الجلبي بمرافقة موفق الربيعي.
من جميع ما تقدم فقد أقرت اغلب القوى السياسية الشيعية وبشكل ناجز لا لبس فيه، واقع أن يكون خيار توزيع المناصب السيادية في الدولة العراقية وقيادات المكون الشيعي ، عائد لقرارات السيد المرشد علي خامنئي وليس لغيره، إن توافق ذلك مع الصدريين أو دونهم، وأقصيت فكرة مرجعية السيد السيستاني، التي سبق أن وضع ما يعرف بقواعد تحييدها، وعدم السماح لها بالتدخل في الشأن السياسي العراقي، وهذا ما أوضحته المرجعية الدينية العراقية نفسها، بإعلانها ذلك في الأشهر الأولى من عام 2019 بإقرار عجزها تجاه ما يقوم به القادة والكثير من السياسيين الشيعة، وفضلت تقديم النصح الديني، الذي ما عاد يعني للساسة الشيعة، ومن جميع أطراف المكون شيئا مؤثرا وفاعلا. وهم عازفون حتى عن الاستماع لخطبة الجمعة، التي بح بها صوت المرجعية الدينية في النجف، دون أن تجد لبحتها صدى يذكر، عند قادة العملية السياسية في العراق. وأن جميع الأطراف السياسية في المكون الشيعي، لم تعد هموم وأوجاع الطائفة الشيعية، تحرك لديها ما يسمى بمشاعر تأنيب الضمير أو مشاعر الوطنية ولا حتى صحوة دينية، بقدر تعلق الأمر بمصالح الأحزاب الطائفية والاقتصادية والانتظار الممل لقرب الاختفاء الجسدي والمعنوي للسيد السيستاني لتكون في النهاية، بحل كامل من عقدة ازدواج المرجعيات لتعلن دون مواربة عن كامل تبعيتها للمؤسسة الدينية الإيرانية ممثلة بولاية الفقيه.