(استهلالية كتاب احمد موسى جياد، توثيقية قطاع البترول العراقي – المجلد الرابع بعنوان ثانوي – تعديلات العقود النفطية قيد التنفيذ، الصادر عن مؤسسة لامبرت للمطبوعات الاكاديمية العلمية باللغة الانكليزية في شهر نيسان/ابريل 2023)
لم يتسن لنا التعرف على زميل الدرب العزيز أحمد موسى جياد قبل هبة خبراء النفط الطيبين للتصدي لمحاولة إمرار قانون النفط سيء الصيت في عام 2007، ولم يتسن لنا اللقاء إلى الآن. ولكن نشأت بيننا رابطة من الاحترام المتبادل ومن التواصل المستمر في متابعة القضايا النفطية. ولقاء الموقف الأهم كان عند “تهريب” تشريع قانون شركة النفط الوطنية في الأيام الأخيرة من عمر المجلس النيابي بتاريخ 14 آذار 2018 والتصديق المريب لرئيس الجمهورية عليه بعد أحد عشر يوما في 25 آذار 2018، وبعد يومين فقط من تلك المصادقة قام الأخ العزيز أحمد موسى جياد بتاريخ 27 آذار بتقديم وتعميم “طعن مباشر بقانون شركة النفط الوطنية العراقية” إلى المحكمة الاتحادية، في لائحة مفصلة يبين فيها مواضع انتهاكات ذلك القانون للدستور كما يبين أن مصادقة رئيس الجمهورية عليه هي انتهاك لواجبه الأساسي حسب المادة 67 بضمان الالتزام بالدستور. وكانت مبادرته باعثاً للتحفيز والحشد وبيان خطورة ذلك القانون على وجود العراق ككيان ودولة وتحويل كل المحافظات المنتجة وغير المنتجة للنفط إلى دويلات متمثلة “بدويلة” الإقليم، متقاتلة على الموارد وعلى حدود المحافظات وحقوق المرور وحتى على المياه، في ظل دولة كانت ستحكمها شركة تتملك نفط العراق وموارده بإدارة معينة غير منتخبة.
كانت تلك المذكرة هي أساس التحركات اللاحقة لبلورة الموقف عند نشر ذلك القانون رسميا.
وكان تواصلنا مستمراً بعد أن نشر القانون في الجريدة الرسمية، وعلى ضوء المشاورات معه قررنا التقدم بدعوى الطعن بالقانون إلى المحكمة الاتحادية، لأن الطعن الذي سبق أن قدمه كان غير مستوف لمتطلبات إقامة الدعوى من ناحية التوكيلات وما يسمى بالإجراءات الشكلية، والتي قد يتطلب استكمالها بحكم ظروف عمله والتزاماته خارج العراق شهورا كثيرة.
إلا أن الدور الأهم في تلك الدعوى هو ما قام به من الصياغة الدقيقة لكل مواد لائحة الدعوى وبيان المواد الدستورية التي خالفتها مواد قانون شركة النفط الوطنية، في صياغة قانونية معمقة. كانت لائحة الدعوى كاملة من صياغته باستثناء الاستهلالات والمقدمات الشكلية اللازمة الاتباع في لوائح الدعاوى القضائية. وقد استمر في المتابعة لكل مستجد في مسيرة الدعوى والتي حسمت بقبول الطعون في جميع المواد التي طعنا بها تقريبا، وبالتأكيد كان للطعون الدستورية والقانونية العميقة التي صاغها الدور الحاسم في قبول تلك الطعون و”تفليش” قانون شركة النفط المزري سيء الصيت.
ومما يلفت النظر غزارة دراساته ومداخلاته وتنوعها فقد عالج وأدان مواقف الحكومات المتعاقبة التواطئية في شأن سيطرة الإقليم المخالفة للدستور على العمليات النفطية في الإقليم، وذلك من خلال معالجته للموازنات السنوية وكمثال ما بينه في خصوص موازنة 2019 عن “سياسة الابتزاز وسلبية الإذعان. وإن أي مدفوعات من الحكومة الاتحادية لحكومة الإقليم لا تنتهك فقط قانون موازنة الدولة، بل تشير أيضًا إلى فشل الحكومة في حماية المصالح الوطنية”. وعالج وكشف الخروقات والفساد في وزارة الكهرباء وتعاقد الوزير مع “نفسه”. وهناك سلسلة دراساته القيمة والعميقة حول أنبوب البصرة العقبة وبيان عدم جدواه الاقتصادية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سلسلة الدراسات بخصوص التعاقدات مع شركة توتال والشكوك المبررة التي تثيرها، أو التحذير من “مشروع جنوب العراق المتكامل مع شركة اكسون موبيل”… إلى دراسات متنوعة لم تترك زاوية من السياسات النفطية وتعاقداتها إلا أشبعتها بحثاً وتحليلا بصبر وأناة من مثل معضلة المصافي إلى ناقلات النفط، وإلى استراتيجيات التطوير المشترك للحقول الحدودية… وغيرها كثير.
الأستاذ أحمد موسى جياد هو امتداد وخلاصة لجيل من الخبراء الوطنيين والتقدميين الذين حملوا هموم العراق وقضاياه النفطية على كواهلهم بعد سقوط ثورة تموز المجيدة، بعد تجرؤها على فتح معركة تحرير الثروة النفطية الوطنية بتشريع القانون رقم 80 لسنة 1961 وحشدت القوى المعادية كل الجهود الشريرة لإسقاطها. لقد تصدت رموز كبيرة من الخبراء والمثقفين العراقيين لقيادة المعركة النفطية يتقدمها فقيد العراق القامة الكبيرة د. محمد سلمان حسن بمحاضرته التي ألقاها في جمعية الاقتصاديين وصدرت بكراس بعنوان “نحو تأميم النفط العراقي”، والتي طرح فيها فكرة التأميم التدريجي للنفط العراقي. وهناك العمل الطليعي الآخر الذي قدمه د. إبراهيم علاوي بكتابه “البترول العراقي والتحرر الوطني” في 1967، الذي صار مرجعا لكل متابع للقضايا النفطية.
لقد عاصر الأخ العزيز أحمد ذلك الجيل بعد تخرجه سنة 1967، وكان من صفوة الشباب التقدمي الناهض الملتفين حول د. محمد سلمان حسن والمنسقين تحركاتهم ونشاطهم الفكري في ظل تلك الراية المجيدة.
وهو يمثل الآن خلاصة وامتداد، وبصفات استثنائية، لكل من سبقه. فهو قد أغنى تخصصه الأكاديمي الأول كخريج لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بعدة دراسات أكاديمية متخصصة في أرقى الجامعات العالمية بدبلوم في التخطيط وماجستير في التنمية وماجستير في القانون والدبلوماسية. وقد أغنى المكتبة النفطية بسلسلة مجلدات من “توثيقية قطاع النفط العراقي”. وهذا الجزء الرابع منها يغطي عام 2013. كما إنه يمتلك أهم مرجعية توثيقية للقضايا النفطية العراقية؛ كل ذلك مضافاً إلى خبرته الطويلة موظفا وخبيرا ومفاوضاً بوزارة النفط وشركة النفط الوطنية العراقية ومجلس الوزراء ووزارة التجارة والتي اختتمها كرئيس خبراء عند مغادرته العراق عام 1988. ولذلك تميزت معالجاته لكل القضايا النفطية المثارة بالمنهجية والروح العلمية الدقيقة روح الباحث المتقصي والمحلل للعوامل الفنية والمالية والجدوى الاقتصادية والبدائل الممكنة للموضوع الذي يعالجه بعيدا عن التشنج أو العبارات الإنشائية والسجالية.
نذكر ذلك لتبيان استثنائية هذه الموهبة الفذة. وفي الظروف العالمية شديدة التعقيد والتقلب في الصناعات والسياسات النفطية فأن عدم استفادة أجهزة الدولة المختصة، ابتداءً من رئاسة الوزراء، من خبراته واستشاراته هو خسارة جسيمة وتفريط وطني لا يغني فيه الاعتذار.
إنه الخلاصة المتلألئة لكل أجيال الخبراء والمثقفين العراقيين الذين تركوا ويتركون بصمتهم وعطائهم لبلدهم وللأجيال القادمة والمنارة المرشدة في وحشة طريق عز سالكوه.