لقد تسّنى لي قبل عشر سنوات مضت تقريباً أن ألتقي برجل في الخمسينات من عمره اسمه وارن سنوبل من جنوب أفريقيا. كان هذا الرجل يبحث عني حينها في المهرجان الثقافي الذي أُقيم في غرامستون، وهو أضخم حدث ثقافي سنوي في جنوب أفريقيا، هناك حيث تسنى لي مشاهدة برنامج عروض للأفلام السويدية. ما أراده السيد سنوبل، المتحّفظ إلى حد ما، ونحن نتناول وجبة طعام معاً، هو أن يروي لي تجربته مع الفيلم الذي شاهده في هذا المهرجان، والذي استطاع أن يحدّد مسار حياته!
لازلت أتذّكر وجبة الطعام تلك وأفكر طويلاً بحديث ذلك الرجل الأفريقي بشأن مسألة لافتة حقاً، وهي: كيف أن ساعات قليلة في صالة سينما يمكن لها أن تغيّر حياة إنسان؟!. نعم، لقد حدث ذلك حقاً للسيد سنوبل. أما الفيلم فهو أحد أفلام انگمار بيرگمان.
لقد توقّف بيرگمان اليوم عن عمل الأفلام بالطبع، فقد غادر السينما والتلفزيون ومسرح رويال الدرامي أيضاً، فضلاً عن هجره لكل الممثلين الذي أحبَّ العمل معهم بشكل حميم ومتّقد.
لقد نأى عن ستوكهولم، المكان الذي تشّيدت فيه معظم أعماله، ليقيم أبداً على ساحل جزيرة اسمها فارو. أما وضعه في تلك الجزيرة فيصوغها بيرگمان العجوز بهذه الجملة التهكمية:
(Full time Faro old fart) (**).
أقام بيرگمان في معتزله الاختياري صالة عرض مخصصة للضيوف أقامها في مخزن قديم للحبوب أو ربما هو مرأب عربات، كان يستخدمه في السابق كإستوديو سينمائي صغير. وفي منزله المطل على الساحل ثمة مكتبة موسيقية وكتب ودفاتر ذو جلادات سوداء وأقلام رصاص مشحوذة ومقعد ومصباح عمل مضاء.
المشهد هو كالتالي: منزل مستلقٍ على حواف البحر المتغير الأمواج ورجل عجوز يسير وحيداً على طول الساحل يحلم ويتذكر.
أتذكّر ما قاله لي حين أجريت لقاء معه قبل سنوات عدّة بمناسبة مرور ٧٥ عاماً على تأسيس المسرح الاذاعي السويدي: (لقد انتهى كل شيء الآن. لقد قمت بإخراج ٤٩ مسرحية إذاعية و ١٢٦ عرضاً مسرحياً، وإذا أحصيت انتاجاتي السينمائية والتلفزيونية معاً فستكون أكثر من ٦٠ إنتاجاً. أما الآن فإنني أطالع الكتب وأشاهد الأفلام في صالة السينما الخاصة بي، وثمة خمسة عشر ألف سائح تقريباً يأتون إلى جزيرة فارو كل صيف. شكراً لله على أنني أعيش على جانب من جزيرة، حيث القليل من الناس من يحب المخاطرة في القدوم اليها. لقد بعت قسماً من الأرض التي أملكها هنا لشخص يربي ثيراناً صغيرة. وثمة بوابة كتب عليها: “احذر صغار الثيران”. لديّ ساحل تكسوه صخور منبسطة يحيطها تيار البحر البارد، لهذا لا تبلغ درجة حرارة الماء أكثر من ثلاث عشرة درجة مطلقاً).
إن الرحلة التي أمضاها بيرگمان في ميدان السينما تمتد الى أكثر من ستين عاماً، وهي فترة ساحرة متلألئة، ابتدأت بالفترة التي كان يشغل حينها وظيفة في (سفينك فيلم اندوستري)، وحسب تعبيره في وصفه لفترة التلمذة تلك بـ “عبد السكربت”، والتي انتهت بمغادرته المهنة في فيلمه الأخير “ساراباند” عام ٢٠٠٣.
(ما الذي جعل منه مخرجاً عظيماً؟)
حين ولج بيرگمان الشاب ميدان السينما السويدية جاء اليها قادماً من مسرح الطلبة، وقد كان زمناً آخر. يومها كان ممكناً لذلك المبتدئ المتعنت والعنيد ان يحصل على أكثر من فرصة دون قرار مباشر ومُلحّ من شباك التذاكر.
لقد صنع له اسماً إبان قيامه بكتابة سيناريو “العذاب” عام ١٩٤٤، النص الذي كان متعطشاً لإخراجه، لكن لسوء حظه، لم تُتَح الفرصة آنذاك لقيامه بذلك، إنما توّلى العملية المخرج الكبير آلف سجوبيرغ (***). ومع ذلك فقد أنجز إخراج أربعة أفلام بعد ذلك السيناريو يصفها أنها “بمثابة تجارب إخراجية أكثر من بارزة”. أفلاماً عكست زمنهم واتجاهاتهم الحديثة.
اقتحامه الفني الأكبر جاء في السنة اللاحقة مع فيلمه “السجن”. هكذا ومنذ تلك الفترة وحتى خريف العمر، تحوّلَ عبد السكربت ذاك إلى أحد أهم وأجرأ وأَحبّ روّاد السينما في العالم. لكن السؤال الذي ظلَّ قائماً على الدوام هو ما الذي جعل منه عظيماً؟
يكمن السر، على الأرجح، في قدراته اللامحدودة في نسج أشكال عديدة من التعبير الفني والجمالي من فيلم إلى فيلم، فهو، وعلى خلاف الكثير من المخرجين السينمائيين، كانت جميع أشكال الأدب والفنون الأخرى تتعايش جنبا إلى جنب في داخله، ليس كأشياء سريعة وعابرة، إنما أشبه بدقات القلب، مثل نفحات السمو التي يبلغها إنسان، إيقاع من الماضي يحدث هنا الآن في السينما، حينما تتفتح حواسنا على قصص جديدة حول الفن الصعب للحياة والإنسان. ببصيرة تخترق عناد الموت
وأمل في حل تسوية موحّدة، بمزج محكم بين الماضي والمستقبل.
بعبارة أخرى، قدرة متكتمة محترسة في ملامستها لقلوبنا. وهو مثل القليل من الفنانين السينمائيين، كان يمتلك حباً للطبيعة الخاصة والمميزة للفيلم في مزجه أو توحيده لفن السيرك وعمق التفكير معاً. فهو غالبا ما كان يتحدث عن الفيلم ويشبهه بمهنة المومس، حيث النزعات التجارية والفنية تشكلان، حَرفياً، وجهين لعملة واحدة. لكن في حالته، هي دعارة وفقاً للظروف التي يحددّها هو نفسه.
هكذا لعب بيرگمان دوراً حاسماً في السينما السويدية والعالمية على حد سواء، ليس مثل عمود صخري راسخ في عالمه الإبداعي، إنما أشبه بدليل في رحلة جماعية. كمخرج ومنتج، كان يمّثل المحور الرئيس في ستينيات القرن الماضي، والتي نصفها اليوم في السينما السويدية بالعقد الذهبي. وكان بيرگمان مصدر إلهام ليس لأولئك الذين كرهوه ووقفوا ضد أفلامه أمثال بو وايدربيرغ أو ماي زيتيرلنغ فحسب، إنما أيضاً لأولئك الذين منحتهم أفلامه دفقاً من الشجاعة والقوة.
إن التأثير الذي تركه بيرگمان على تطور السينما يمكن تفسيره بشراهة حبه وفضوله للفيلم وأساليب تعبيره. كانت مكائن عرض الأفلام في صالة سينماه في جزيرة فارو تدور في الساعة الثالثة من كل ظهيرة. أفلاماً لمخرجين شبّان ممزوجة بأفلام كلاسيكية فضلاً عن صلة حية وعشق خاص لأفلام السينما الصامتة. إنه لعمل ملهم حقاً.
أتذكّر حينما سنحت لي فرصة إجراء مقابلة معه في إحدى المناسبات، وكنا نتحدث حينها عن فن الفيلم بالطبع، وكان يُفترض أن تكون المقابلة بمثابة لقاء تلفزيوني، والتي أصبحت فيما بعد فيلماً بعنوان “صوت بيرگمان”، وكنت سألته حينها، إن كان قد تعب من مشاهدة الأفلام. قهقه بضحكته السخية قائلاً: “أوه، كلا… الفيلم عالم شاسع وممتد. كلما شاهدت أفلاماً أكثر كلما اكتشفت أشياء أكثر”.
وبالفعل فأن أفلامه جميعاً هي تجسيد ساطع لهذه الفكرة البسيطة، لأن ثمة سعة فانتازية في المعابر الحدودية المجدِّدة له خلال ملكوت الفن السينمائي. لا يوجد مخرج سينمائي آخر في العالم مثله منحَ نفسه الحرية في أن يجرّب ويبتكر الأساليب التعبيرية ويجددها. وثمة الكثير من الشواهد،
فلعَّل فيلم تروفو (٤٠٠ ضربة) وهو أحد أعظم أفلام الموجة الفرنسية الأولى إحداها، ففي أحد مشاهده نرى الشاب جان بيير لياد وصديقه يطعن بعضهما البعض أمام بوستر فيلم بيرگمان “صيف مع مونيكا” المعلَّق خارج الصالة. ولم تكن تلك مجرد مصادفة، لأن بيرگمان بذلك الفيلم كان قد غادر عالم الاستوديوهات الخانق والمغلق دون رجعة، ودعا هاريت أندرسون في المشهد الختامي الساحر للفيلم أن تدير عينيها نحو الكاميرا وتتطلع فينا. هنا استطاع بيرگمان أن يحطم وفي ذات الوقت يعزّز وهم الفيلم في لحظة واحدة!.
لقد منح بيرگمان مخرجي المستقبل الشباب في باريس آنذاك الدوافع والحوافز الأساسية للتعرف على لغة سينمائية جديدة وهم يشاهدون أفلامه في السينماتيك متسائلين عما يفعله هذا المخرج السويدي المغمور!. كثيراً ما قيل عن المخرج السينمائي الشاب ويم ويندرس (****) أنه هو من ابتكر الأسلوب السينمائي الجديد المعروف بـ (أفلام الشارع) في السبعينات مثل “أليس في المدن” و”ملوك الشارع”، لكن الكثير يجهل أن في العام ١٩٥٧، وحين كان ويندرس يومها تلميذاً في المدرسة في سن الثانية عشرة، كان العالم يشهد العرض الأول لفيلم “التوت البري” الذي هو بمثابة النموذج الأسطع والاستثنائي لفيلم الشارع، فضلاً عن تعقبه وبحثه المتواصل للتعامل مع الضوء هو ومصوّره سفين نيكفيست (عملهما المشترك في هذا الشأن بدأ مع فيلم “الربيع البكر” في عام ١٩٥٩ وحقق تعبيره الكامل في فيلم “ضوء الشتاء” عام ١٩٦٢ والذي لا يزال يُعتبر بمثابة مرجع أساسي للمخرجين والمصورين السينمائيين في العالم أجمع). أما عبثه الخلاق مع الفيلم الصامت والذي عكس من خلاله في فيلم “السجن” مثلا، تجربة طفولته في صالات السينما في ستوكهولم، فسيبقى ملهماً خصباً لتجارب اليوم في شأن (الفلم داخل الفيلم)، فهو فيلم انطوائي يفتتح بلحظة مضيئة سعيدة حين يختبئ الشاب وصديقته في الغرفة العلية ليشاهدا فيلماً هزلياً صامتاً، المشهد الذي يُلمّح مباشرة لمسرح الصندوق السحري في فيلم بيرگمان “فاني وألكساندر” عام ١٩٨٢، أو المشاهد الكابوسية التي تستهل فيلمه “نشارة وخيوط براقة” عام ١٩٥٣ وفيلم “التوت البري” اللذان هما أيضاً أفلام صامتة نوعاً ما.
إن أفلام بيرگمان تدور حول محورها الخاص بها، تترصدنا وتترصد ذاتها معاً بشكل متواصل بقوة وكثافة جديدين. أما الشيء الاستثنائي والأكثر أهمية في مساهمته لتطوير الفيلم فهو الكشف
عن الإمكانات الخصبة التي تتضمنها اللقطة الكبيرة (كلوز آب)، والتي يعّبر عنها هو نفسه بالشكل التالي: “اللقطة الكبيرة، الشخص العاري، الوجه المنفتح، هو كشف سينمائي عظيم”. وقد
دعم هذه الفكرة عبر افتتانه الهائل بالتغييرات والحركات الطفيفة التي تطرأ على وجه الأشخاص حين يتكلمون أو يصمتون في فيلم “بيرسونا” ١٩٦٦ أو فيلم “العشق” ١٩٦٩،”صرخات وهمسات” ١٩٧٢ و “وجهاً لوجه” ١٩٧٥، والذي أصبح بمثابة منهجاً أو يقيناً فني بالنسبة له.
لم يكن السويديون من قبل يحبون بيرگمان كثيراً لكنه أصبح محبوباً لديهم فيما بعد.! أما السبيل للوصول إلى قلوبهم فقد كان عسيراً وطويلاً بالنسبة له، فمسارات الزمن لم تستطع أن تتحكم في توجهاته. أما تجديداته الاسلوبية، غير المهادنة، فقد تحولت كثيراً عما كان يسمى بالثبات السياسي، وهذه ربما واحدة من أهم أسباب عظمته.
حين أصبحتُ ناشطاً ضد الحرب في فيتنام كان عمري سبعة عشر عاماً، يومها أغواني فيلم “العار” لبيرگمان ما دفعني وبحماسة شديدة الى تعليق ملصقات عرضه حينها عند افتتاحه في ستوكهولم عام ١٩٦٨. وحين شاهدت الفيلم مرة أخرى في التلفزيون بعد عشر سنوات، وكنت وقتها أتجوّل في المناطق التي حدثت فيها تلك المعارك، أحسست فجأة أن الفيلم كان صورة للأسئلة ذات العلاقة بما حدث حقاً. وهو، كيف يمكننا التوفيق بين حياتنا الخاصة وبين إدراك عالم كان يحترق أمامنا؟ فيلم “العار”، لعله ليس بأفضل أفلام بيرگمان، أصبح بالنسبة لي تجربة حاسمة في حياتي غيّرت وجهة نظري حول أشياء كثيرة، أما من جعل من بيرگمان محبوباً في السويد فهو فيلمه “فاني وألكساندر” عام ١٩٨٢ بنسخته الكاملة (خمس ساعات) والذي كان يعرض عادة في التلفزيون السويدي نهاية كل عام في أعياد الميلاد. الفيلم الذي حصل بيرگمان من خلاله على اعتراف شعبي واسع في السويد ما جعله يدخل (البيت السويدي) بكل رضىً وطمأنينة. أما الفيلم الأول الذي أثار إعجابي حقاً فهو “الختم السابع” وكنت شاهدته في أواسط الستينات في ستوديو صغير تحت الأرض في المدرسة أنا وشّلة من المراهقين أمثالي ممن كنا نحاول أن نصبح مختلفين ومميزين، حينما كانت أفلام بيرگمان غريبة “ثقافياً” في الوسط السويدي.
كانت فكرة (البيت السويدي) فكرة مؤَّمن عليها وواسعة حينذاك وقد شيدت بشكل تعاوني وجماعي على مبدأ المجاراة. أي أن كل شيء فيها مبني على الانسجام والمطابقة والتكيف. في مرآة (البيت السويدي) كنا، نحن السويديون، أناس أصّحاء أغنياء سعداء وحكماء دائماً مقارنة بالآخرين. أما في مرآة بيرگمان فقد كنا الصورة المعاكسة تماماً.
حين أنظر اليوم إلى الخلف، أجد أن أفلامه تهّزني كما في النوم، لأن صورة السويدي السعيد حسب القيمّين على (البيت السويدي) قد شُيدّت في جزئها الأكبر على مفهوم القمع. أما أفلام بيرگمان فكانت تتحدث عن عواقب ذلك القمع. بل حتى الحب نفسه، بوصفه مسلك رومانتيكي، لا يمكنه أن يلعب دوراً هنا للهروب التقليدي. أما الأحداث العالمية والمعاصرة فقد كانت تتجسد في أفلامه مثل فيلم “أرواح شريرة”.
يمكن القول بالطبع أن فضاءات بيرگمان وشخصياته ذات طراز قديم. نعم، هذا يمكن، إذا اخترنا فقط الإِعراض عن مشاهدة أشياء أبعد من الدعائم السطحية السائدة، كالمشاهد التي تصور الأساتذة الجامعيون، المعلمون، المهرّجون ومديري السيرك، وهم يتحركون في فضاءات من العصور الوسطى، كما في فيلم “الصيف البكر”، أو في ما يشبه الحلم والبيئات الأبدية كما في فيلم “الصمت” ١٩٦٣. أما ثيمة (الروح الأبدية) فنجدها منسوجة داخل أفلامه الأخيرة ولا سيما فيلمه الأخير “ساراباند”.
إن أفلام بيرگمان تتحدث دائماً عن الصلات الوشيجة بالماضي، وغالباً عن الطفل المختبئ في أعماقنا، عن التماس الصارخ والشديد الوضوح ذو التأويل التخيلي للحياة، الحياة التي نفقدها بيسر مثل شظايا ذكريات متراكمة لأحلام نصف منسية. تخيّل فيلم “الصمت” بمشهده الاستهلالي وهو يُظهر صبياً يستيقظ ليجد نفسه في عربة قطار وهو يتطلع مباشرة نحو الكاميرا، نحونا، في صمتنا إزاء العالم. بلد غريب، مرعب، موات، وحياة أشبه بمشروع مستحيل. ذات الصبي يعود ليظهر ثانية في فيلم “بيرسونا”، الذي هو فيلمي المفضل بشكل مطلق، حين يدعه بيرگمان كما لو أنه يلامس صوراً مزدوجة التعريض. إنه سحر خالص ولا شيء آخر.
والآن، لنعد إلي صديقي وارن سنوبل والفيلم الذي شاهده في غرامستون والذي لم يكن سوى “سوناتا الخريف” ذلك الفيلم الذي اقتحم حياته بشكل لا يرحم.
كنا خلال وجبة الطعام تلك، والتي كثيراً ما تأتيني ذكراها، نجلس هناك أنا وإياه نتطلع نحو الخارج صوب المركز الثقافي، حيث مدينة الأكواخ الحقيرة وهي تنحدر هناك بعيداً في الوادي، أخبرني سنوبل عما حدث له في أواخر السبعينيات. لقد حكى لي أنه قد تزوج حديثاً من فتاة تخرجت من جامعة غرامستون، وكانا يديران معاً صالة سينما صغيرة، وكان لديهما طفل يعاني من تلف في الدماغ، وقد نصحوهما بعض الأصدقاء أن يودعاه في مؤسسة اجتماعية ليواصلا حياتهما.
“في إحدى الاماسي”، قال السيد سنوبل، مواصلاً حديثه: “عرضنا فيلماً لبيرگمان. كانت زوجتي بليندا حينها في المنزل مع ولدنا روجر. وبعد انتهاء العرض أخذتُ ماكينة عرض صغيرة ونسخة من الفيلم (حجم ١٦ ملم) معي لأُريها إياه، دون أن أقول لها رأيي فيه. ذهبتُ إلى المنزل وأيقظتها من النوم، وفي منتصف الليل جلسنا معاً نشاهد فيلم “سوناتا الخريف”. وحين انتهى الفيلم تطلّع أحدنا بوجه الآخر وقلنا معاً: “لن نرسل روجر إلى المؤسسة الاجتماعية”. وقررنا معالجته بأي شكل من الأشكال. بعنا كل شيء نملكه وسافرنا إلى الولايات المتحدة، هناك حيث كنا نأمل في العثور لروجر على أفضل عناية. توفي روجر بعد عشر سنوات وتوفيت زوجتي من ثم بعد إصابتها بمرض السرطان. أما أنا فلم أكن أمتلك الكثير من المال لذا فقد عدت إلى بلادي وحيداً. كان كل شيء قد ذهب سُدىً. لكنني مع ذلك لست آسفاً على شيء. فقد كنت ولا زلت ممتن جداً من ذلك الفيلم.
هذا بالضبط ما رواه لي وارن سنوبل. إنها حكاية تبدو شبيهة بحكاية الفيلم نفسه، لكنها واقعية هذه المرة، فالفيلم لم يكن ذو مديات عامة وشاملة فحسب، إنما هو شخصي وخاص أيضاً. لقد أتاحت أفلام بيرگمان الفرصة للكثير من الناس لئن ينضجوا بسرعة ليصلوا إلى مثل هذا الإدراك.
حين صوّرتُ مقابلتي له لفيلمي “إنغمار بيرگمان ـ اللحن الفاصل” في عام ٢٠٠٢، التقيته في يوم خريفي في مسرح رويال الدرامي في ستوكهولم وكان حينها قد بدأ العمل تواً على نص مسرحية “الأشباح” لهنريك إبسن. وكانت معه نسخة من سيناريو فيلمه الأخير “ساراباند” أيضاً. سألته إن كان المرء يفكّر بالموت حين يصبح عجوزاً. “يفكر بماذا؟” سأل بيرغمان. ربما لم أكن واضحاً بسؤالي أو لعله لم يسمعني جيداً. “الموت”، قلتها بصوت عال. “أوه” قال بيرگمان وضحك مواصلاً حديثه: “انني أفكّر بالموت كل يوم منذ إن كنت طفلاً. إلا إنه أصبح الآن حقيقة ماثلة للعيان بشكل فيزيائي. لكنه صار يخيفني أقل مما مضى. الخوف قد تلاشى”، قال ذلك ولاذ بالصمت. وحين أصبح صمته جلياً وقاطعاً، واصل حديثه فجأة قائلاً: “كلا، كلا. ليس لدي الوقت الكثير لهذا الأمر!”. تطّلعَ من بعد نحو ساعته ثم نهض وتمشى إلى الخارج بخطوات حيوية لمواصلة العمل في مسرحية “الأشباح”، التي ستكون آخر عمل مسرحي له. وخلف تلك المسرحية بوسعي أن ألمحه وحيداً عند صخور الساحل في جزيرة فارو، قلادة الفيلم اللؤلؤية وهي تمتد وتتسع لتصل إلى الأفق، مثل أشعة فنار بعيد. رجل عجوز يتطّلع نحو البحر فيما تتعمق عتمة شتاء “ساعة الذئب”. (*****)
حين غادرنا إنگمار بيرگمان إلى الأبد ترك لدينا إحساس بأننا يمكن، بل ينبغي علينا، أن نستفيد من لحظاتنا القصيرة على هذه الأرض.
المصدر:
مجلة بروجگشنس التي تصدرها سنويا أكاديمية الفيلم الأوربي. تحرير بيتر كاوي وباسكال إيدلمان. العدد (١٥) عدد خاص عن السينما الأوربية (٢٠٠٧)
* غونار بيرغدال (١٩٥١)
ـ ناقد وكاتب ومخرج ومنتج سينمائي سويدي وناشر. بدأ نشاطه السينمائي بإصداره مجلة “فيلمكونيست” عام (١٩٨٩).
شغل منصب مدير مهرجان {غوثينبيرغ}السينمائي (١٩٩٤ـ ٢٠٠٢). وكان عضو لجنة معهد السينما السويدي (١٩٩٩ـ ٢٠٠٣).
(****) ويم ويندرس (١٩٤٥) مخرج ومنتج سينمائي ألماني، كاتب مسرحي، وفوتوغرافي… (*****) فيلم “ساعة الذئب” ١٩٦٨، الفيلم الساحر ذو الطراز القوطي والذي يتحدث عن اختفاء فنان لا يترك خلفه سوى دفتر يوميات يأخذنا الفيلم من خلالها وعبر طريق التداعي (فلاش باك) لنتتبع تأريخ وضع كلاسي لبطل بيرگمان الذي تلازمه العتمة والأرواح الشريرة ومخلوقات مخيلته، لحين أن يحطموه في الآخر.