عن فنّ التوثيق وإتقانه…قيس الزبيدي
قيس الزبيدي ـ
في تحديده ما يُمكن اعتباره وصفاً نقدياً للأرشيف والتوثيق، يقول الأردني عدنان مدانات إنّ المواد الأرشيفية “وسيلة لعكس الواقع”. لذا، عليها “أنْ ترتقي لتُصبح مفهوماً عن هذا الواقع”. يُضيف: “يجب أنْ نضع أمام المادة الأرشيفية مهمّة أنْ تُصبح “وعياً” وإدراكاً لمواد الواقع”، مشيراً إلى إمكانية بلوغ هذه الحالة عند إخراج المواد الأرشيفية عن “الحدود التي تضعها في إطار المادة الإعلامية فقط، حيث لا نشعر بوجود الموقف والأسلوب الذاتي للمؤلّف”، وداعياً إلى ضرورة أنْ “تُعبِّر «أنا المؤلّف» الذاتية -التي ترتكز على الفهم الجدلي للطبيعة والتاريخ- عن نفسها بوضوح، من خلال المادة المُصوّرة” (“بحثاً عن السينما”، دار القدس، الطبعة الأولى، فبراير/ شباط 1975، ص. 169 ـ 170).
كلام مدانات يتعلّق بصناعة سينمائية وثائقية، يدأب عربٌ كثيرون، لغاية اليوم، على وصفها بـ”سينما تسجيلية”، رغم خروجها، منذ أعوامٍ مديدة، من “التسجيلي” إلى “الوثائقيّ”، الذي يعتمد غالباً على ابتكارات بصرية، كالتحريك والتخييل والتمثيل، في تحقيق وثائقياتٍ مختلفة. لكنّ وصفاً كهذا يُستفاد منه، بشكلٍ أو بآخر، في قراءة الجزئين الأولين من “فلسطين في السينما” (2006 و2019، “مؤسّسة الدراسات الفلسطينية”، بيروت)، للعراقي قيس الزبيدي، المتورّط في السينما توليفاً وتصويراً وإخراجاً وكتابةً، وتوثيقاً يختصّ أساساً بالسينما الفلسطينية، بحثاً عن ذاكرة يُراد لها النسيان أو الفقدان، وتنقيباً في تاريخٍ من الأفلام والأشرطة والصُور المُنجزة، في سنين طويلة، عن فلسطين، ومنها ولها.
مدانات ينتمي، بدوره، إلى جيلٍ سينمائيّ عربيّ (ينتمي الزبيدي إليه)، يركن إلى فلسطين ركيزةً أساسية في أبحاثٍ واشتغالاتٍ جمّة. جيل يصعب عليه الفصل بين نضال وإيديولوجيا وسينما وعيشٍ، خالطاً بينها في سلوكٍ أخلاقي وثقافي واجتماعي وحياتي، بسلاسة وحماسة، تدفعان الجيل نفسه إلى مواجهة تحدّيات التوثيق والأرشفة، كنواة أساسية في مقارعة أعداء الداخل والخارج، وأبرزهم التزوير الإسرائيلي، الهادف إلى إلغاء ذاكرة وتاريخ وجغرافيا وثقافة وعمارة واجتماع. ما يقوله عدنان مدانات عن التوثيق والأرشفة، قاصداً به صناعة الفيلم التسجيلي/ الوثائقي أساساً، ينطبق ـإلى حدّ كبيرـ على اشتغالات قيس الزبيدي في كتابه هذا، وفي سعيه الدؤوب إلى إنشاء مكتبة سينمائية تحتوي على النتاج البصريّ كلّه الخاصّ بفلسطين وناسها.
فالجزآن هذان يُحصّنان بعض المواد الأرشيفية (على الأقلّ) من الاندثار، ويؤكّدان أحد أبرز مضامينها الفكرية والفنية، بكونها (المواد الأرشيفية) “وسيلة تعكس الواقع”. ورغم اكتفائهما بنشر توثيقٍ علميّ لمئات الأفلام “الفلسطينية” لمخرجين/ مخرجات فلسطينيين وعربٍ وأجانب، أي لتلك المصنوعة في فلسطين وعنها ولها، فإنّ “المواد الأرشيفية” فيهما كفيلةٌ بتبيان واقعٍ حيويّ يقول بكمٍّ كبيرٍ من العناوين السينمائية، مختلفة الأشكال والأنواع والأساليب والمواضيع الفلسطينية، التي “تعكس الواقع”، بل تقوله وتوثّقه وتحصّنه من الاندثار المُراد له إسرائيلياً. والمواد الأرشيفية تلك يُستشفّ منها، في الجزئين هذين (يحمل الثاني عنواناً فرعياً: “ذاكرة وهوية”، كتأكيد إضافيّ على الفعلين الثقافي والأخلاقي، أساساً، للتوثيق فيهما)، تشكّل وعيّاً معرفياً بواقع النتاج السينمائي الفلسطيني، أقلّه توثيقياً عبر بطاقات تعريف بالأفلام، تقول -بوقائع ومعطيات- أنّ هناك “صناعة” سينمائية حيوية، وحاضرة -منذ أزمنةٍ بعيدة- في الجغرافيا والتاريخ الفلسطينيين، وفي الالتزام الأخلاقي والثقافي العربي والغربي بفلسطين وناسها، وبجغرافية وتاريخ البلد وناسه أيضاً.
مع “فلسطين في السينما”، الذي يتعاون قيس الزبيدي مع آخرين، توثيقاً وتدقيقاً وأرشفةً وترجمةً (أبرزهم الناقد الفلسطيني الراحل بشّار إبراهيم في الجزء الأول، ويحيى علوان في الجزئين معاً)، يُبرز العراقيّ “عاشق فلسطين” (عنوان كتاب للمصري محسن ويفي عن الزبيدي، صادر عن “صندوق التنمية الثقافية”، بمناسبة “مهرجان الإسماعيلية الدولي الرابع للأفلام التسجيلية والقصيرة”، 24 ـ 30 يوليو/ تموز 1995) “أنا المؤلِّف” مُعبِّراً عنها بوضوح: “أنا” تذهب إلى فلسطين وناسها، وتعيش هاجس فلسطين وناسها، وتروي حكايات فلسطين وناسها، وتُصوِّر فلسطين وناسها بألف طريقة، فالهمّ الأساسي للزبيدي مرتبطٌ أساساً بفلسطين وناسها، بينما أساليب التعبير تختلف، إخراجاً وتوثيقاً وأرشفةً وسجالاً وصوناً لهاتين الذاكرة والهوية من أي تغييب وإقصاء.
العربيّ المولود في بغداد (1945)، يدرس التوليف والتصوير السينمائيين في “جمهورية ألمانيا الديمقراطية”، في ستينيات القرن الماضي، لكنّه يعثر في بيروت، عشية اندلاع حربها الأهلية (1975 ـ 1990)، وقبلها في دمشق، على امتدادٍ، ثقافي وإنساني وفكري وحياتي، يُكمل اختباراته الأولى، ويُبلور خطواته المنبثقة من انشغالٍ دائم بالصورة ومعانيها وأشكالها وقدراتها، من دون ابتعادٍ عن فلسطين ومشاغل ناسها. بهذا كلّه، يُدرك الزبيدي أنّ المسألة غير مُكتفيةٍ بإنجاز أفلامٍ عن فلسطين، فهو يريد نوعية فنية جديدة للفيلم الفلسطيني، مُعتبراً أنّ هذا لن يكون مسألة يومية، بل سيرتبط بفرصٍ سياسية وإنتاجية، تُتيح المجال أمام الإبداع الفني، الذي يلتزم نوعية جديدة للفيلم الفلسطيني السياسي.
واشتغاله التوثيقيّ امتدادٌ لمفهومه إزاء النتاج الفلسطيني، وإزاء النوعية الجديدة للفيلم الفلسطيني. كأنّه -بتوثيقٍ الأفلام المُنجزة في سنين مديدة- يُثبِّت حقائق ووقائع تنبض بها تلك الأفلام، وتقاربها بأساليب عدّة؛ وتحثّ -وإنّ ضمنياً- على مزيدٍ من الابتكار والاشتغال والتنقيب.
أهمية الاشتغال التوثيقي لن تحول دون تنبّه إلى ملاحظةٍ في الشكل. فرغم صدورهما عن “مؤسّسة الدراسات الفلسطينية”، المعروفة باتقانها الفني البديع في تصميم الكتب وتنفيذها وطبعها، يُعاني “فلسطين في السينما” مشكلة تتعلّق بتصميم محتوياته وطباعتها. المشكلة حاضرة لأنّ الكتاب بجزئيه مبنيّ على بطاقات فنية للأفلام الفلسطينية، التي تتضمّن لوائح بأسماء العاملين في كلّ فيلمٍ، بالإضافة إلى اسمه وتاريخ إنتاجه والجهات الإنتاجية، ومعلومات مختصرة عن مضمونه أو حكايته. هذا يحتاج إلى تصميمٍ يوضح الحيّز الخاص بكل فيلم، على نقيض الحاصل، إذْ تبدو البطاقات المتتالية، غالباً، كأنّها متداخلةٌ وغير محدّدة أطرها.
هذا ليس تفصيلاً عابراً. التوثيق العلمي يحتاج إلى شكلٍ واضح المعالم لفقراتٍ وبطاقات. الصُور المختارة، المنشورة في نهاية كلّ جزءٍ، عادية للغاية، وبعضها باهتٌ، وبعضها الآخر غير مشغولٍ بالتقنيات الحديثة، التي تُتيح شيئاً من وضوح. صحيحٌ أنّ الصُور الخاصّة بالأفلام العربية عامةً تعاني خللاً، إنْ توجد صُورٌ لأفلام حديثة الإنتاج، فكيف بتلك المُنجزة منذ سنين طويلة، والمشكلة أكبر مع النتاج التسجيلي/ الوثائقي. صحيحٌ أنّ الصُور بالأسود والأبيض، الملتقطة من أفلامٍ قديمة، تحتاج إلى اشتغالٍ، ربما (أقول ربما) تتمكّن التقنيات الحديثة من تنقيتها من شوائب وأعطاب. لكنّ نشر صُورٍ من دون غربلةٍ، يُفترض بها أنْ تؤدّي إلى اختيار الأفضل، غير مقبولٍ، خصوصاً أنّ الكتاب المذكور، بجزئيه، متعلّق بالسينما، والسينما “صُورٌ” أساساً.
الكتاب، بجزئيه، مرجعٌ. هذا مؤكّد. التدقيق بكلّ ما فيه يحتاج إلى وقتٍ، تماماً كحاجة التوثيق الذي فيه. وقتٌ للبحث والتنقيب والغربلة، ووقتٌ للتثّبت من صحّة معلومة، ومن دقّة ترجمة. هذا يتطلّب فريقاً كبيراً، يتمكّن قيس الزبيدي، رفقة أصدقاء وزملاء، من اختزاله به وبهم، فالحماسة أكبر، والرغبة في منع الذاكرة من التآكل أقوى، والاشتغال على أساسٍ متين مطلوبٌ لضرورته. الجزآن هذان أساسٌ، أو مساهمةٌ عملية في بناء أساسٍ، يتمنّى كثيرون استكماله لأسبابٍ شتّى، تبدأ بالعلم والمعرفة والتوثيق، وتتأكّد بأولوية الصراع مع احتلالٍ، يُدرك تماماً أنّ “وجوده” منبثقٌ من إلغاء الآخر، والإلغاء فكريّ وأخلاقي وثقافي أيضاً.