هل لأن شريط الذكريات أعاد بيّ إلى ازمنة ساحقة في القدم
قبل 55 عام في مثل هذا الوقت من حزيران كنت اكتب امتحان البكلوريا في بغداد, في حين كانت حرب الأيام الخمسة تدور رحاها. الصحف العربية كانت تكتب: أسقطنا كذا طائرة للعدو, في حين كانت إسرائيل تكتسح الأراضي العربية, بما في ذلك القدس.
بعدها بفترة قصيرة سافرت إلى تركيا لغرض الدراسة. لم أمكث هناك سوى سنة ونيف ليحط الرحال بيّ
أخيرا في ألمانيا وحتى اليوم.
رحلة الاستجمام هذه أعادتني إلى أجواء الشرق بعبيره وحرارته, بفقره وفضاضته: الناس طيبين وصادقين
حتى في تجريحهم. في الأمسية الأولى في الهوتيل قالت لي تركّية من برلين: نحن ننظر إلى العرب كما ينظر الألمان الينا! النظرة المزدرية للعرب سمعتها تكراراً, ومن أناس لم أكن أتوقع ذلك منهم.
التقاطي للكلمات التركية المطعمة عربيا اعادتني إلى أجواء غربتي الأولى, ووجدتني انخرط في أحلام ومشاريع تربط طريق رحلتي في اتجاه معاكس: من المانيا, عبر تركيا إلى العراق, أو عودة الشيخ إلى صباه. ولتحقيق هذا الأفكار والمشاريع دبت فيّ رغبة لتعلم اللغة التركية – مجدداَ – وإجادتها.
الوضع الاقتصادي مزري, لا يخفى عن العين البصيرة. في الحي العربي, وهو حي شعبي فقير. وفي مقهى صغير منزوي يقع على مرتفع رأيت رجل يجرجر نفسه بمشقة نحو المقهى. ساعدته لعبور عتبة المقهى. جلس في القرب مني دون أن يطلب مشروبا. بعد هنيهة سألته فيما إذا يرغب في تناول مشروب, فطلب كوب شاي, تبرعت له به, إذ يبدو أنه لم يكن يملك ثمن الشاي. بالقرب كان رجل يحدّث آخر ويشكو له وضعه المالي. فهمت من كلامه أن ما كسبه في ذلك اليوم لا يزيد عن 80 ليرة – قرابة خمسة دولارات -, قد تكفي لشراء خبز وقليل من الحاجيات الأخرى لا غير. الغلاء والتضخم في تركيا غير معقول, ولا يقارن بالدول الأوربية. أما غلاء العقارات فحدث عنها دون حرج: فقط الأجانب وأتراك الخارج قادرين على الشراء, العراقيين والإيرانيين بالدرجة الأولى, ثم جاؤوا مع الحرب الروس والأكران. الحكومة تشجع المستثمر الأجنبي في العقار بمنح الإقامة, بل الجنسية إذا ارتفع المبلغ. أما المستأجر فهو واقع تحت رحمة أصحاب العمارة, الذي يرفع الأجور كما يحلو له ويفضل طبعا المستأجر الأجنبي, بل أن بعض الشركات صارت تكتب في اعلاناتها دون خجل بأن شققها لا تصلح للأتراك.
طبعا الحكومة توعز الوضع الاقتصادي المتردي إلى المؤامرات التي تحاك ضد تركيا من قبل الدول الأجنبية والشركات العالمية المتحكمة برؤوس الأموال. وطبعا المشاكل الداخلية توعزها الحكومة – وكذلك المعارضة – إلى اللاجئين, وخصوصا السوريين. فهم سبب البلاء والتخلف.
ولكيلا انهي مقالتي بقتامة اشير إلى جانب بدى لي مضيء في المجتمع التركي – وربما خصوصا الازميري – وهو وضع المرأة, فالمرأة تبدو – ظاهرا على الأقل – متحررة, لا يثقلها الحجاب ولا توجد أي مظاهر للحرشة, بل تبدو العلاقات بين الشباب من الجنسين اعتيادية.