معرض لفنان من أصول فلسطينية يعيد وجه غزة إلى جنبات التخيل
عماد كريم
أمس كنا جالسين نفطر على الشرفة عندما دلفت إلى المطبخ لجلب شيء ما. من المذياع جاء صوت يتحدث عن معرض فني على وشك الافتتاح. استرقت السمع قليلا, ولكن اهتمامي ازداد عندما سمعت اسما “طارق والقدس”. تبين أن الفنان من أصول مقدسية واسمه طارق كيسفزنسون من مواليد 1986 مدينة هالمشتادت في السويد, رغم أن الاسم العائلي يحمل نبرة اسكندنافية. مع ذلك أخذني الفضول. تابعت الموضوع في الانترنت فاكتشفت بأن الافتتاح سيكون اليوم 8 يونيو ((ولغاية 8 سبتمبر 2024)) في السادسة مساءا, فقررت الذهاب.
قاعة العرض Portikus Frankfurtـ مكان عبارة عن قاعة مقببه على أحد جسور مدينة فرانكفورت تفتح أبوابها للمعارض الفنية التي تقيمها المدينة بين حين وآخر. الجو صيفي مشمس, بل شديد الحرارة. قررت الذهاب مشيا بمحاذاة ضفة النهر, تعويضا عن مشيتي الرياضية الصباحية في البارك القريب عادة. الذي أثار فضولي أكثر, صراحة, هو كون الفنان فلسطيني الجذور. إذ افتتاح معرض عام لفنان فلسطيني أو عربي لم يعد متوقعا في ألمانيا منذ السابع من أكتوبر.23. بسبب انحياز ألمانيا المطلق إلى جانب إسرائيل. تذكرت الغاء الدعوة التي كانت موجهة إلى كاتبة فلسطينية تعيش في برلين, حازت على جائزة أدبية بعد روايتها عن فلسطين. الغيت دعوتها لحضور معرض الكتاب في فرانكفورت بداية أكتوبر المنصرم, الذي توافق مع أحداث السابع من أكتوبر. بدل ذلك تمت دعوة كاتب أو كاتبة إسرائيلية (دعما للأصوات اليهودية) كما جاء في بيان لإدارة المعرض. الأمر اذي أدى إلى مقاطعة معظم دور النشر العربية لمعرض فرانكفورت للكتاب.
ألقيت نظرة سريعة على منحوتات المعرض القليلة: كٌرسيان برونزيان متشابكان يسندان بعضهما, أحد الكرسيين فاقدا للساق الرابع, بحيث إن استناده إلى الكرسي الآخر يجعل توازن الكرسيين ممكناَ. اعجبني هذا العمل الفني وذكرني بجيراني العجوزين في الطابق الأعلى. أصيب هو بجلطة قلبية قبل مدة فصارت الزوجة السبعينية تحمل المسواق حتى الطابق الخامس.
اليوم شاهدتها قادمة مع حقيبتها من السوق, فهرعت إلى مساعدتها لحمل الأشياء. ساعدتني في ذلك شابة جارة جاءت صدفة.
الشكل الآخر عبارة عن عصي (عكازات) متشابكة مع بعضها تحت السقف في نسق يحافظ على توازنها. هنا أيضا وضبت مخيلتي للفهم: العصي المتناسقة والمتماسكة والمعلقة بين السماء والأرض تعبر عن نضال الشعب الفلسطيني وتماسكه بوجه العدوان. أكاد أتصور ابتسامة الفنان نفسه وهو يقرأ هذا النص, الذي سوف أرسله له لاحقاَ. فهو بالتأكيد لم يكن يقصد ذلك. ولكن ما الضير, المهم هو ما يشاهده المتلقي, اليس كذلك؟
القطعة الأخير بدت لي أكثر غموضا: مجسدات في صندوق زجاجي يتوسطها قلم حبر. سمعت الفنان يتحدث في معرض شرحها عن تشرشل وربما وعد بلفور أيضا, فهذا القلم كان يستعمل من كبار الساسة الإنكليز الذين تحكموا في الكثير من القضايا الحاسمة حينها وبأن معرضه يغطي سردية شخصية وتأريخية يبلغ عمرها مئة عام.
لم أقرأ بتمعن الكراس عن المعرض في اللغة الإنكليزية وسوف أقوم بذلك, بعد الانتهاء من كتابة هذا النص, لعلي أضيف بعض الشيء مما أفهمه.
قدمت نفسي إلى الفنان الأربعيني وسألته إذا كان يتكلم العربية. أجاب بالإيجاب ولكنه سرعان ما عاد إلى اللغة الإنكليزية, لكي يواصل الحديث عن معرضه للآخرين. أتضح بأنه لم يكن مولود في القدس, بل في السويد, كما يشير اسمه العائلي. ربما كان الأب فلسطينياَ والأم سويدية, أو العكس. مهما يكن وبغض النظرعن المنشأ والبيوغرافيا فهو كإنسان وفنان له بلا شك موقف ومشاعر إزاء القضية, وهو الأمر الذي أثار فضولي وأحببت تناوله معه.
غادرت المكان وذهبت إلى سينماي المفضلة القريبة لمشاهدة فيلم إيطالي, مع إمكانية العودة لاحقا, ففي حديقة المكان بار مفتوح حتى ساعة متأخرة.
عدت بعد الفيلم إلى المعرض وتوجهت إلى حديقة الموقع التي تطل على النهر, حيث البار. كانت الحديقة الصغيرة تضج بالشباب والشابات. الكل يتكلم الإنكليزية. معضهم طلاب فن, أو هكذا تبدى لي, بعضهم أجانب, غالبهم من آسيا, على الأرجح من يابان, يدرسون في أوروبا الفن والموسيقى. شعرت بالغربة, واقفا وحيدا, ارتشف نبيذي في هذا المشهد السريالي, وكأنني لست في ألمانيا. بل كدت أسال أحدهم: لماذا تتكلمون الإنكليزية, ألستم ألمان, ولكني استسخفت السؤال, فبقيت معقود اللسان, مع الشعور بأن انكليزيتي ليست بالمقام. وأنا خارجا رأيت الفنان قادما من علو. خاطبته وقلت له بأنني كنت أود أن اساله عن مشاعره وأفكاره عما يدور في غزة وفلسطين. أجاب: صعب. اعطاني رقم هاتفه واتفقنا أن أكاتبه باللغة الإنكليزية, فهو يقرأ العربية, ولكنه يجيد الإنكليزية أفضل. سألته عن علاقته بالقدس. قال بأنه زارها لكنه لم يعش هناك. قررت أن ابعث له هذه المقالة مترجمة إلى الإنكليزية, آملاّ أن يرّد أو يعّقب عليها.