(كان يحلم بمهرجان من الضوء في عالم زادت عتمته)
استذكار برحيل مخرجنا المسرحي الكبير إبراهيم جلال
علي كامل
هذه ليست مرثية لفنان غادرنا دون عودة، إنما هي مشاعر وفاء لمن علمّنا وفتح عيوننا ومخيلتنا على هذا الفضاء الرحب، الذي يُدعى “المسرح”، نحن القادمون إلى العاصمة بغداد من القرى والمدن الفقيرة، حيث العالم في عيوننا ومخيلتنا ينتهي عند تُخوم تلك المدن والقرى النائية.
مرت قبل أيام الذكرى الثانية والثلاثون لرحيل فناننا وأستاذنا الكبير إبراهيم جلال، وليس لديَّ ما أضيفه سوى إعادة ما نشرتُه في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية إبان سماعي الأنباء المتسربة من العراق عن رحيله. ما أتذكره حينها أننا لم نعثر له حتى على صورة فوتوغرافية ترفق بالموضوع، فبادر أحد الرسامين العراقيين بعمل تخطيط له وفقاً للمخيلة!
“الاكتشاف مهما بدا بسيطاً لكنه يحمل تميزه الخاص”
رحل عنا الفنان المسرحي إبراهيم جلال (١٩٢١ ـ ١٩٩١)، تاركاً خلفه إرثاً غنياً هو حصيلة بحوثه التجريبية وإنتاجاته
الجريئة التي كانت تمور في مختبرات حسه المتقد وذهنه الخصب.
كان الفنان إبراهيم جلال شخصية قلقة ومتشككة ولم يكن حبيس أفكار ثابتة وجاهزة، ففي كل مرّة يجد نفسه في مواجهة سؤال يقوده إلى كشف جديد عن وسائل مبتكرة لا توقعه في مأزق مشاكسة السائد بقدر ما تمنحه متعة الاستكشاف وعذوبة البحث. كان يرى في خشبة المسرح فضاءاً جمالياً وإنسانياً لصراع الأفكار، وكان مسعاه وضع حدٍّ لذلك الوهم الذي أفسد عقل المتلقي وأفقده حسه وخيله، وجّل جهده كان ينصّب في تحريك تلك الذهنية الآسنة الكسولة للمتفرج وجعله مشاركاً أساسياً في صنع الحدث المسرحي وتغيير مساراته.
لقد ترك الفنان الراحل حقي الشبلي تأثيره الواضح على تلميذه الشاب جلال، كممثل ومخرج على حد سواء، فقد أسهمت جهوده من تمكين تلميذه القدرة على تطوير حس الإلقاء والتلفظ ورشاقة الحركة ودقة التعبير. وقد أثارت براعته، كممثل، انتباه بعض المخرجين السينمائيين العرب الذين قدموا حينها إلى العراق، فلعب أدواراً في عدد من الأفلام أمثال “القاهرة بغداد” إخراج أحمد بدر خان وفيلم “عليا وعصام” للفرنسي أندريه شوتان وفيلم “ليلى في العراق” للمخرج المصرى أحمد كامل مرسي، وأفلام عراقية أمثال “شايف خير” و “سنوات العمر” وغيرها.
أما في ميدان الإخراج فقد اتبّع إبراهيم أسلوب يحاكي كثيراً أسلوب أستاذه الشبلي، وإن تميّز عنه باستخدام طرائق جديدة في التحليل والتعليل قبل التوصل إلى النتائج، فضلاً عن شغفه بالحوار والنقاش مع الممثلين كمنهج للوصول إلى وسائل مبتكرة في الأداء.
وهكذا، وبتأثير من الشبلي، ورهافة حس الفنان الشاب، بدت الملامح الأولى لمنهج يكاد يقترب من منهج ما كان يسمى حينها بمنهج “الطريقة” من دون أن يعلم، على حد تعبير الفنان سامي عبد الحميد. وقد تجسد تطبيقياً ذلك المنهج في عرضه المميز لمسرحية تشيخوف “أغنية التم” ومسرحية “ست دراهم” ليوسف العاني، وعروض أخرى في فرقة المسرح الفني الحديث التي أسسها هو ويوسف العاني عام ١٩٥٢.
التحق جلال في تلك الحقبة بمعهد الفنون الجميلة وتولى رئاسة قسم المسرح في المعهد تزامناً وعمله في فرقة المسرح الفني الحديث، ولعل أبرز نتاج مسرحي قدمه لفرقته آنذاك هو مسرحية “آني أمك يا شاكر” ليوسف العاني التي أحدثت يومها دوياً في الوسط الفني والسياسي على حد سواء، لجرأة موضوعها وأسلوبها الإخراجي المميز.
في عودته من الولايات المتحدة الأمريكية وبعد أن أنهائه دراسة الماجستير بأطروحته الموسومة “نظرية التغريب البريختي”، استطاع إبراهيم أن يُتقن واقعية ستانسلافسكي وملحمية بريخت، على حد سواء، مبتدئاً مشواره التطبيقي بمسرحية “الطوفان” التي كتبها أحد تلامذته وهو عادل كاظم، والذي سيصبح كاتبه المفضّل إلى وقت متأخر، حيث أخرج له في البدء مسرحية “مقامات أبي الورد” و”عقدة حمار” ثم توالت الأعمال فيما بعد كمسرحية “المتنبي” وعملهما المشترك في إعداد مسرحية “دائرة الطباشير القوقازية” التي تحول اسمها إلى “دائرة الفحم البغدادية”.
إن الخيط الرابط بين إبراهيم جلال وكاتبه عادل كاظم هو إنهما لم يكونا يحفلا بهموم الناس اليومية وقضاياهم العابرة ولم تأخذهم الظواهر الحياتية الجزئية، إنما انحصر تركيزهما في العثور على العام والثابت الذي ينتظم فيه الوضع أو الظاهرة، مستشرفين من اليوم ما سينتهي إليه الغد، ومسكهما الجوهري لما ينطوي عليه الفرد من نزوات راهنة ومسارات توجه ذلك الراهن وصيرورته، دون أن يحملهما ذلك على تجريد نماذجهما أو فصلهما عن مجرى التيار اليومي لحركة الناس الاعتيادية. النائي الذي أرادا الإمساك به وانتزاع خصائصه الجوهرية لم يُنسيهما اليومي المألوف بالطبع، بل كان يفجّر لديهما نسغاً حياً ينساب في عروق ذلك البعيد الذي يسعيان للوصول إليه. لذا فقد كانت نماذجهما (نائية ـ قريبة) إذا جاز القول، وقد أُطلق على هذا الاتجاه حينها بـ (مسرح التحّولات الاجتماعية أو مسرح الكشف والتغيير). ولعل ذلك يفسر تعويلهما على التأريخ والأسطورة والحكاية الشعبية وميلهما إلى استخدام الأسلوب الملحمي في الطرح.
كانت الظاهرة الإخراجية في المسرح العراقي فترة السبعينات من القرن الماضي قد شهدت بلورة أساليب وطرق إخراجية متعددة ومتنوعة لدي المخرجين المسرحيين العراقيين، فقد سعى البعض في إيجاد خصوصيات في طرق معالجتهم للنص المسرحي، وكان في مقدمتهم الفنان إبراهيم جلال الذي تميز بدقة معالجاته وطرق تطبيقاته للمنهج الملحمي البريختي في جُّل النصوص التي أخرجها، سواء كانت مكتوبة خصيصاً بأسلوب ذلك المنهج أو لا. وقد برز تطبيق ذلك المنهج بشكل جلي في إخراجه مسرحية “بونتيلا وتابعه ماتي” لبرتولد بريخت بعد أن حّول الشاعر صادق الصائغ حوارها إلى العامية العراقية واستبدل عنوانها بـ “البيگ والسائق”.
في إخراجه ومحاولاته الدؤوبة، كان إبراهيم يسعى إلى إبراز عوامل التغريب في أي نص يتناوله، واتباعه منهج الميزانسين الرينهارتي (نسبة إلى المخرج النمساوي ماكس رينهارت) في التعامل مع الممثل وطرق تحريكه على خشبة المسرح، معتبراً أن المجموعة على خشبة المسرح هي بمثابة كتلة معبّرة واحدة وليست أفراداً مختلفي التعبير. وقد تركزت عروض أستاذنا جلال تلك على جمالية المشهد وتعبيريته أكثر من اهتمامها بالتفاصيل، وكان يضفي على تلك العروض مسحة شعبية عراقية ذات قيمة جمالية تفتقر إليها الكثير من التجارب المسرحية العراقية وتغيب عن معظم اتجاهات مخرجينا آنذاك.
كان إبراهيم صياداً ماهراً يتسقط الايحاءات والرموز في ظلال النص خالقاً منها صوراً تدفع النص نحو الأمام بهدف إكمال حلقته الإبداعية التي لم يُكملها المؤلف. من هنا تميزت نتاجاته عن نتاجات مجايليه. فسامي عبد الحميد مثلاً، وهو الذي يشكل اسماً بارزاً في المسرح العراقي والعربي على حد سواء، كان همه محاولة توظيف النص العالمي وجعله محلياً، هدفاً في أن يحقق من خلال ذلك مفهوم الجدلية في شمولية عملية الابداع، فضلاً عن سعيه إلى إيجاد وخلق ممثل محلي بسمات فكرية عالمية، إلا أن مسعى كهذا يصعب أن يجد له تطبيقاً دائم بالطبع.
الممثلون لدى سامي هم أهّم من النص!، ولذا غالباً ما تجده يبحث عن نص محلي جيد (معروف أن معظم النصوص التي قام بإخراجها للفرقة هي من تأليف يوسف العاني).
ما سعى إليه سامي هو البناء الجدلي داخل النص، وإلباس المسرحية ثوباً عراقياً بحتاً وعكس ما هو محلي على خشبة المسرح. فقد كان أحياناً يلجأ إلى تأليف ما يريد إخراجه على الخشبة من خلال المقترحات التي يقدمها إلى المؤلف قبل كتابة النص. والنص بالنسبة لسامي مسألة شاقة وعسيرة، فقد كان في بعض الأحيان يحمّل نصوصاً ضعيفة تأويلات أكثر مما تحتمِل فينعكس ذلك سلباً على عملية الإخراج ذاتها رغم وضوح الرؤية الإخراجية لديه. لكن، عندما يكتشف نصاً جيداً تتحول طريقته الفنية حينها إلى شيء حسي يلامس عقل وعواطف المتفرج العراقي بشكل إيجابي.
وإذا تحدثنا عن الأستاذ الفنان قاسم محمد سنجد أن قاسم قد اختصر الطريق على نفسه وفنه ببحثه الخاص الجاد والمميز عن أشكال درامية لها شعبية ثقافية وفكرية استطاع أن يحقق فيها توازناً منطقياً بين ثقافته وبين حاجة المسرح العراقي. لقد اختار الأستاذ قاسم نصوصاً وأحداثاً من الحياة وفصولاً من بطون الكتب. غار في التراث عميقاً كغوره في الواقع الراهن، وفضله أنه حاول أن يكتشف فضاءه الخاص به وقوة جهده ما يجعل من ذلك الخاص عاماً.
أما إبراهيم جلال فهو يقودك، عبر محاولاته التجريبية، إلى التنوع والغنى والسعة في الاجتهاد والتفسير، فجُّل اهتمامه ينصَّب على إبراز العلاقات داخل النص والباسها ثوباً محلياً يجعل منها بالتالي نموذجاً عالمي. فاللغة الفصحى بالنسبة له ينبغي أن تكون سهلة وغنية في الأداء وثرية بالموحيات صافية الجرس دالة المعنى، مستهدفاً من ذلك تحقيق أكثر من غرض وحاجة لعل أولها إغناء أداء الممثل وإعادة بناء جسده وروحه وتنشيط ما سكن في مخيلته. لذلك نجده متشدداً صارماً في حركة الممثل وطريقته نطقه.
وإبراهيم مخرجاً لا يكّف عن اللعب مع النص وفيه، وما دام العرض متواصلاً نجده لا يتوقف عن الحذف والاضافة بعد كل ليلة عرض، بل الأكثر من ذلك أن لديه على الدوام رغبة لإعادة إخراج النصوص التي سبق له أن أخرجها.
عثوره على أسلوبه الخاص به جاء ثمرة لجهده وبحثه المتواصل الذي اكتشف من خلاله أن جوهر الجدل موجود في عملية التطهير الأرسطية ذاتها (Catharsis)، فالطقوس التي كان يمارسها الانسان أفضت إلى ولادة الممثل والجوقة عبر ثيسبس وأسخيلوس اليونانيين، والتي نقلت المسرح من العام إلى الخاص. هذه النقلة، والتي هي ليست عابرة، يعتبرها إبراهيم نوعاً من التغريب. وهي النقطة الحاسمة التي توصل إليها إبراهيم جلال والتي ستشكل أسلوبه ألموسوم بـ “الهارموني”، هذا العنصر الجمالي الذي سيكون حلقة الوصل بين التطهير الأرسطي والتغريب البريختي.
كان إبراهيم يضع المتناقضات وجهاً لوجه لاستنباط قيم نوعية، وأكثر ما كان يشغله هو البحث عن هوية خاصة ومتميزة للمسرح العراقي. لقد كان يسائل نفسه على الدوام عما قدمّه هو ورعيله منذ أربعينات القرن الماضي وحتى سنواته الأخيرة فيما يتعلق بموضوع الأصالة في المسرح:
“أحسب أننا لا زلنا لم نأتِ بما نحلم به” هذه العبارة طالما رددها بيننا نحن تلامذته. كان إبراهيم يسعى إلى تحقيق ذلك الحلم بطرق متباينة ومتنوعة بدئاً بالمحاكاة، كمرحلة أولى، ثم الممازجة، وانتهاءً بعملية الخلق. “الاكتشاف مهما بدا بسيطاً لكنه يحمل تميزه الخاص”، هذه العبارة كانت ترّن في رأسه على الدوام.
***