يندر العثور على كاتب انعكست أوجاعه الخاصة في جُلّ كتاباته مثلما هو الحال مع أوغست سترندبيرغ، فزيجاته المضطربة الخائبة الثلاث تركت جُرحاً عميقاً في روحه وأصبحت مثل ترنيمة مكرّرة بتلاوين مختلفة، هي الثيمة الجوهرية لجميع نتاجاته، ولعل “لعبة حلم” هي المرآة الأكثر جلاء لصورة ذلك الجرح.
تعتبر “لعبة حلم”، حسب معظم النقاد، الدراما التي مهدّت لانبثاق المدرستين التعبيرية والسوريالية على حد سواء. إنها رحلة سوريالية في أرض الأحلام، كتبها سترندبيرغ وهو تحت
تأثير محموم بالديانة الهندوسية، فهي بمثابة أصداء لكلمة الإله “كريشنا” في الملحمة الهندية الشهيرة “مهابهاراتا”، حين يُعلن أن “العالم هو مجرد وهم”.
كتب سترندبيرغ هذه المسرحية وهو في حالة اضطراب وتشوّش شديدين، وقد كتب في مقدمته لها عام ١٩٠١: “إنها ثمرة ألمي الكبير”، وهذه الملاحظة تعكس حقاً أن الحياة بالنسبة له على غرار الحُلم هي مجرّد وهم.
الكاتبة المسرحية البريطانية “كاريل تشرتشل” قامت بإعداد النسخة الجديدة عن النص الأصلي، حيث أجرت تغييرات جوهرية، لعل أهمها أنها نقلت مكان الحدث وزمنه من ستوكهولم مستهل القرن الماضي إلى خمسينياته في لندن. أما القلعة السترندبيرغية فقد استبدلت بمبنى لشركة أسهم. ليس هذا فحسب، إنما أصبح المحور الفلسفي والعاطفي لنص سترندبيرغ، والذي تجسده شخصية أغنيس (ابنة الإله أندرا، التي تهبط إلى الأرض لتجد أن الحياة هي أشبه بوادٍ من الدموع)، تحتله شخصية سمسار للأسهم المالية يدعى ألفريد غرين، الذي يمثل شخصية الحالم هنا، والذي ستتدفق عبر مخيلته جُّل أحلام الكاتب. في حين شغلت أغنيس موقع إحدى سكرتيراته، والتي ستوكَل لها تشرتشل، فيما بعد، دور ملاك يرشد ربّ عملها، ألفريد غرين، في رحلته الحلمية ـ الكابوسية تلك.
كتبت كاريل تشرتشل في مقدمة نسختها الجديدة للمسرحية: “لست موقنة، ما سيكون شعوري لو
أن أحداً أراد أن يعالج أو يعيد كتابة إحدى مسرحياتي بالطريقة التي عالجتُ فيها مسرحية سترندبيرغ هذه. ومع ذلك، آمل أن أكون قد جعلتها أكثر جلاء ولم أشوهها”.
العرض الذي تولّت إخراجه “كيتي مايكل” هو عرض مبتكر لمخيلة تجريبية جريئة، فالمخرجة لم تكتفِ بنسخة كاريل تشرتشل، إنما تفحصت دفتر مذكرات سترندبيرغ السري نفسه الذي دوّن فيه أحداثاً غريبة من أحلام وتجارب استبصارية ومراقبة شّيقة لسلوك الطيور، فضلاً عن تعمقها في دراسة سيرة حياة الكاتب التي استلّت منها أحلاماً وفواجع لتضيفها زاداً إلى روح العرض، فقد نهلت من سيرة حياته، الزيجة المختلّة بين الأرستوقراطي وخادمة الحانة، اللذان هما بمثابة صورة لأب وأم سترندبيرغ، وكذلك موت أمه، حين كان عمره ثلاثة عشر عاماً، وزيجاته الفاشلة الثلاث، ومن ثم فقدانه لطفلته.
تقول المخرجة: “إنَّ هدفي في هذا العرض، يتماهى تماماً وهدف سترندبيرغ، وهو أن أجسّد الحُلم على خشبة المسرح. خيارٌ كهذا كان التحدّي الأول لي وللممثلين، فقد ابتدأنا في تشييد عالم يقظة الحلم، لنتعرّفَ ونتخيل ما الذي يحرّضنا على الأحلام. لماذا نحلم؟”.
ثيمة الأحلام، في الواقع، خضعت إلى تفسيرات متنوعة وعديدة، فالبعض من علماء النفس المعاصرين من ادّعى أن الحُلم هو مجرد فعل عشوائي ونشاط مشوش للدماغ، فيما لمّح البعض الآخر إلى أن الأحلام تمّدنا بنوع من الهروب العملي من تهديدات عالم اليقظة. في حين رأى
آخرون إنَّ الحلم، هو بمثابة مجرى لعملية يتم عبرها إقصاء بعض الحقائق من ذاكرتنا، تلك التي نحن لسنا بحاجة إليها. جدير بالذكر معرفة أن سترندبيرغ لم يقرأ كتاب فرويد “تفسير الأحلام” إلا أن الكثير من طروحاته نعثر على أطياف لها في خبايا النص السترندبيرغي.
تقول كيتي مايكل: “ومن أجل العثور على لغة مسرحية بمقدورنا أن نقيم من خلالها جسراً يوصلنا إلى ضفاف الحُلم، شرعنا بدراسة أحلامنا الخاصة وأحلام الآخرين. إلا إنَّ مسرحة أحلامنا الخاصة لم يكن أمراً سهلاَ بالطبع، فثّمة ملائكة يحملون حقائب تحوي جثث موتى، وقنابل مخبأة تحت الطاولات، وإرهابيون في دورات المياه، وسرطانات بحرٍ بخِصي، وأسنان تسقط من الأفواه، طيران وزيجات ومآتم، وسواها.. وفي الآخِر، قررنا أن ننتقي ما يمكننا مسرحته من تلك الأحلام دون استخدام تقاليد مسرحية ثقيلة غير قابلة للتطبيق.
ثمّة مشاهد في المسرحية خاصة جداً بماضي حياة سترندبيرغ الشخصية، مثل زيارة الحالم لأمه (ماتت والدة سترندبيرغ وعمرة ثلاثة عشر عاماً)، وهناك مشاهد يمكن الإحساس بها أنها مسرحية أكثر منها مشاهد حلم، لذا بدأتُ بإقصاء وحذف كل ما لا يشبه الحلم. أخيراً، وبعد شهرين، ابتكرنا
عرضاً وحدَّ ما بين النص الأصلي ونص تشرتشل وإضافاتنا أنا وطاقم العاملين معي. ومع ذلك، فإن الصيغة التي توصلنا إليها تختلف نوعاً ما عن الصورة الأولى التي تخيلها سترندبيرغ، ولكن
في مركزها كان الهدف ذاته، وهو أن نضع الحلم على خشبة المسرح”.
الأفكار الجوهرية التي عالجها العرض تمثلت في “الطفولة”، “الخيانة الزوجية”، “الفقدان”، ومن ثم “الموت. كل ذلك عَبر أحلام رجل واحد، هو ألفريد غرين، الذي سعت المخرجة أن تُضيء الأحداث جُلهّـا من خلال عيون هذا الحالم.
***
يُستهل العرض في نهاية يوم عمل نتعرف فيه على ألفريد غرين “الممثل أنكاس رايت” وهو يتهيأ للخروج من مبنى عمله للذهاب هو وزوجته في المساء إلى المسرح لحضور أوﭙيرا، إلا أنه
ولشدة إعيائه يغفو على طاولة مكتبه وينام وتحل العَتمة.
يُفتتح الحدث وهو يجري في فضاء حلمي ولا نعرف في البدء مَن هو الحالم. تظهر أربع موظفات، من بينهن أغنيس “الممثلة لوسي ويبرو”، سكرتيرة ألفْريد، وقد نمت على أكتافهن أجنحة وتحوّلن جميعاً إلى ملائكة. يقتربن من ألفْريد في محاولة لإيقاظه، لكن عبثاً.
وهكذا، في وضع غائم بين اليقظة والحلم، يُدخلنا هذا العرض البصري في سلسلة مشاهد هي بمثابة حلم واحد طويل، حيث كل شيء ينبثق من لا وعي شخص واحد هو ألفريد.
تتداخل الأحلام وتتناوب وهي تنهل من التأريخ الشخصي المضطرب لحياة هذه الشخصية في دوران زمني مجازي، يسرع ويبطئ، يتقدم ويتراجع، دون إذعان لآلية كرونولوجية، زمن مطواع لمنطق اللاوعي وغواياته، متسللاً بين محطات مجازية ثلاث، هي، الطفولة، الراهن، الشيخوخة.
وبما يشبه حلم اليقظة، تقوده أغنيس إلى واحدة من تلك المحطات بحافز من ذكريات طفولته المضطربة وحاضره المقلق، حيث زوجته على وشك الانفصال عنه. فنعثر عليه شيخاً هرماً يقف
عند بوابة مسرح منتظراً عشيقته بريمادونا، المغنية الرئيسية في الأوﭙيرا، وقد شاخت هي الأخرى، تجلس مُقعدة على كرسي متحرك، غير قادرة على الظهور ثانية على المسرح.
يتداخل الحلم بحلم آخر نشارك فيه بهجة الذكريات والآمال التي يمكن أن يجلبها الزواج، فنتعرف على زوجين سعيدين يدركان فجأة أن سعادتهما تلك لن تدوم طويلاً. فيقول الزوج للزوجة:
“يمكننا أن نموت معاً. السعادة هي مجرد شيء عابر، إنها هناك بعيداً عند أسفل الجبل…. إنني أخشى السعادة!”. وهكذا يقرران الانتحار بالمسدسين اللذين كانا هدية زواجهما!
فجأة يستأنف الزمن دورانه ويتراجع صوب الماضي وتأخذنا كُوّة الضوء إلى الخزانة المعتمة
المخيفة التي كان يختبئ فيها ألفريد في طفولته. تُفتح الخزانة، فتخرج منها لعبتان مشنوقتان، إحداهما شبيهة بالملكة فيكتوريا التي سبق وأن منحت ألفريد لقب فارس.
فلاش باك آخر – ألفْريد وهو شاب يقف عند بوابة المسرح يحمل باقة ورد منتظراً خروج زوجته الممثلة المتقلبة المزاج، ثم عودة سريعة معاكسة له وهو طفل يخضع لعقوبة مُعلّم المدرسة بسبب عدم انجازه واجباته المدرسية.
ننتقل إلى حلم آخر، يُظهر لقاء الفْريد، وهو صغير، بوالدته كريستين، خادمة الحانة، الممثلة “أناستاسيا هيلي”، التي هي صورة لوالدة سترندبيرغ، ثم نقلة سريعة نجد أنفسنا في قاعة رقص للباليه، حيث يجلس الفْريد وهو صغير يتطلّع نحو أمه وهي ترقص مع عشيقها.
يحلُّ صمت طويل في القاعة، كما لو أنه يعلن عن نهاية العرض، لكننا نُفاجئ بالمشاهد الحلمية وهي في حالة رجوع، يعاد عرضها وفق إيقاع بطيء وزمن مقلوب، أشبه بإيحاءات موجعة ولاذعة تشي بأن الحياة تتكرر بشكل مضجر ومفجع ومميت.
يتغير إيقاع المشاهد ونلج حلم آخر من جديد، يجد فيه ألفْريد نفسه عارياً حتى من سرواله الداخلي، حيث يُطرَد من مركزه الوظيفي، يحيطه حشد من الكورس، فيما تتساقط أسنانه بشكل مسموع محدثة طقطقة على الأرض.
تحّل العتمة لثوانٍ ثم تُفتح دائرة ضوء تتوسع تدريجياً لتكشف عن الفْريد وهو يرتدي تنورّة منتفخة وسط راقصي الباليه.
نعود ثانية إلى مشهد بوابة المسرح، حيث العجوز ألفْريد وهو بانتظار عشيقته التي لن تظهر مطلقاً.
وهكذا، تتكسر الأحلام لتتحول إلى كوابيس، وتظهر الملاك أغنيس، دليلة الفْريد في رحلته الحلمية وهي حزينة تتطلع نحونا قائلة: “إنني أشعر بحزن عميق نحو الناس، إنهم يواجهون مصاعب جمّة حقاً”.
فجأة، تتكدس جثث على الطاولات، ومن بين تلك الجثث نتعرف على جثة ألفْريد وهو يرقد داخل نعش، يحيطه حشد من المُعزّين من موظفيه. ويسود صمت طويل ثم تحل العَتمة.
***
عشرة ممثلين لعبوا الأدوار جميعاً بالتناوب، مجسدين وكلاء أسهم مالية، ملائكة، أطفال، راقصوا باليه، عرسان ومعزوّن، فضلاً عن قيامهم بتغيير قطع الديكورات من مشهد لآخر.
سينوغرافيا العرض الذي صممته فيكي مورتايمر جسَّد رهبة ودهشة العالم المزعزع لشخصية ألحالم، سواء ذلك الذي يتعلق بماضيه أو راهنه، من خلال تكوينات وإكسسوارات سوريالية. جدران مضغوطة وأبواب متماثلة وغرف منحرفة أو سائبة في الفضاء. تكويناً أشبه بسفينة تترنح
وسط بحر هائج، رافقته إضاءة المصمم كريس ديري التي يسرّت الانتقالات اللولبية لزمان ومكان الأحلام.
أما المؤثرات البصرية فقد كانت مذهلة في تجسيدها لشفافية الحلم والمناخ الخانق للكابوس، ولعلَّ المشهد الأكثر إثارة في العرض هو مشهد المناضد المتأرجحة التي تستدعي صورة بحر هائج.
كذلك الموسيقى، فقد لعبت دوراً رائعاً في نقلنا إلى جو استعادة الزمن والذكريات ضمن فضاء حلمي، فكانت مزيجاً من كلاسيكيات شوبرت إلى “مجنون” ويلي نيلسون، تخللتها موسيقى شعبية توحي بلندن الخمسينيات. ومن أجل أن تتحقق الأحلام بالأبيض والأسود ظهر الممثلون بملابس أحادية اللون.
عرض “لعبة حلم” كان أشبه بلعبة بصرية، إلا أنها لم تكن لعبة مسلّية، إنما لعبة تداخلت فيها البهجة والرهبة والحزن في فضاء سائب غامت فيه الحدود بين اليقظة والحلم، بين الواقع وخشبة المسرح.
كتب سترندبيرغ مرةً:”إن حياتي تبدو لي أشبه بمسرحية، عليَّ أن أعانيها، وأكتبها في ذات الوقت”.