فيلم “العراق في شظايا” تصوير للأنقسام الطائفي الذي خلفه الاحتلال الامريكي
علي المسعود
أغلب ألأفلام التي أنتجت عن حرب العراق تكشف عورة السياسات الامريكية ، وعندما يتم كتابة التاريخ الكامل لهذه السيرك الدموي، فإن الناس سوف ينظرون إلى الوراء في حجم وقاحة فساد الاحتلال وعجزه . من الأفلام المتميزة التي تناولت الوضع العراقي بعد الاحتلال وبعد دخول القوات الامريكية الى العراق في عام 2003 ، الفيلم الوثائقي ” العراق في شظايا ” عام 2006 ، قام بالإخراج والإنتاج “جيمس لونكلي ” وهو أيضاً مدير التصوير و مصمم موسيقى الفيلم . أمضى االمخرج لونكلي عامين وهو يتجول في العراق بمفرده بالكاميرا ابتداء من أبريل 2003 ، بعد أقل من شهر من إعلان جورج دبليو بوش الشهير في إكتمال العمليات العسكرية الرئيسية . يتكون الفيلم من ثلاثة أجزاء منفصلة وهي حسب العرض ، الجزء الاول كان بعنوان “محمد بغداد” و كان عنوان الجزء الثاني “جنوب الصدر”، واما الجزء الثالث فقد حمل إسم بعنوان “الربيع الكردي”. يرسم الفيلم الفروق في المناطق التي تسكنها الغالبية السنية، وأماكن مناطق ساكنيها من الغالبية الشيعية، والمنطقة الثالثة ذات الاغلبية الكردية . فيلم “العراق في شظايا” للمخرج جيمس لونكلي عام 2007 المرشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، يتبع ثلاث قصص مختلفة في خضم صراع طائفي و سياسي يزداد سوءا تدريجيا في عراق ما بعد الحرب . قطعة سينمائية إعلامية ورصدية يرويها العراقيون (السنة والشيعة والأكراد ) . يرسم الفيلم من خلال محاوره الثلاث صورة للعراق والواقع الاجتماعي والامني بعد الاحتلال الامريكي .
يبدأ الفصل الأول (محمد بغداد) حكاية الصبي اليتيم والذي يبلغ من العمر 11 عامًا ويعيش مع عمه في منطقة الشيخ عمر وهو الجزء السني من بغداد (حسب تقسيم الفيلم الطائفي لمناطق بغداد). ” محمد هيثم ” صبي يحاول إعالة أسرته بعد اختفاء والده واعدامه من قبل رجال المخابرات في نظام صدام ، يعمل الصبي اجيرأً في ورشة ميكانيكي لتصليح السيارات تقع بالقرب من ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني ويعامله صاحب الورشة بطريقة فظة وغير إنسانية وحتى يسمعه السباب والشتائم البذيئة . بعد سنوات من الفشل المدرسي تنعدم رغبته في التعلم . تعكس كاميرا لونكلي الفضولية ذات الرؤية الدقيقة لوجه محمد التوتر بين السنة والشيعة من نظرة عينيه وحيرتها . محمد هو رمز الشعب العراقي الذي أرست عقود من العنف والحرب المشؤومة والعقوبات الاقتصادية أسس حياتهم . يقول” جيمس لونكلي” إنه كان يتابع” محمد” للحظة في لحظة لمخاطبة الجمهور ليس لبيئته بل إلى الأعماق بداخله”. محمد يريد أن يكون طيارا. يقول: “أريد أن أطير الطائرة وأتخيل أنني في السماء وأستطيع أن أرى الحمائم والسماء “. كان محمد مستسلم لظروف العمل القاسية التي كان يصرح بها، تعرض للتخويف والضرب من قبل صاحب الورشة الغليض ،هذا هو القسم الأكثر صعوبة وإيلاما للقلب في الفيلم. يأسر محمد قلب المشاهد بروحه الطيبة التي لا نهاية لها وطبيعته التي تعمل بجد وحبه وتفانيه لعائلته. في هذه الجزء تجد دخان اسود يغطي المدينة والإنفجارات تهز المدينة وأصوات سيارات الاسعاف والطائرات السمتية، وسيارات الهمر للقوات الامريكية تجوب الشوارع وتشكل الخلفية للمؤثرات الصوتية للفيلم، بنايات مدمرة و الاطفال يتجولون وسط الخراب والدمار . يكشف محمد خوفه من الليل ومن اصوات الانفجار، وحسب قول الصبي ” صاير الدنية تخوف”، وكذالك حديث رجال يلعبون الطاولي ( النرد) في المقهى” هذا كله بسبب النفط لو ياخذوه و يتركونا” ، ورجل اخر يقول” الوضع يوم بعد يوم يسير نحو الآسوأ ، يعني اليوم احسن من باجر، أمان ماكو بالشارع!”.
يعكس الفيلم لغة الناس في الشارع بعد انهيار نظام صدام حسين، ويعلق الصبي على لحظة القبض على صدام حسين وكيف كان الامريكان يفحصون اسنانه وهو بوضع مزري، و كذالك عرض صور له وكيف كان في السابق وهو يحمل السيف في ساحة الاحتفالات تلك الصورة المخزونة في ذاكرة الصبي و تشكل الذاكرة العراقية بعد الاحتلال الامريكي . “الكلام العراقي” لا يتعلق بالحرب نفسها ، بل هو منهج اجتماعي للحرب. مع تتابع لصور المباني التي تحترق في النار والقمامة التي تملئ الشوارع . تتلاحق الصور لجنود امريكان ونظرات الشك والحذر تجاه العراقيين، وعلى لسان محمد الذي يتحدث بصوت الانسان العراقي البسيط” إهنا ماكو أمان “. هذا الصبي رغم صغر سنه وصغر تجربته في الحياة ، لكنه لا يزال قادرًا على صياغة رأيه الخاص حول البلد والقوات الأمريكية الأجنبية ، وهو أمر ربما يكون قد تبناه من كبار السن . وعند سؤاله عن امنياته ، اخبر الصبي محمد معلمته ” أحب أن أكون طيارأُ، كي أرى دولا راقية و حلوة واعيش في تلك الدول”. لكنه لا يزال يحلم بمستقبله على أمل أن يصبح طيارًا ، “أريد أن أطير الطائرة لأرى مكانًا جميلًا ولطيفًا غيرالعراق “. لسو حظه ، فان مسار حياته لا يقربه من تحقيق أحلامه ، في النهاية يختار محمد العمل مع خاله هربا من ضرب و تعنيف صاحب الورشة الذي يتعامل معه بعيدا عن الانسانية . في الجزء رغم ان الموضوع الرئيسي هو الاحتلال الامريكي ونتائجه ، لكننا نجد إشارات الى جوانب عديدة ، مثل الطائفية والمحاصصة الطائفية التي وصلت الى حد التعين ، يشير صاحب الورشة التي يعمل بها محمد الى تلك الظاهرة ” التفرقة موجودة ، ابسط مثال في التفرقة بين السنة والشيعة، تروح تراجع يطلبوا منك ان تجلب تزكية من حزب الدعوة حتى يتم تعينك “. يكشف الفيلم عن ظاهرة خطيرة سادت في المجتمع العراقي وهي (عمالة الاطفال ) التي إنتشرت في الآونة الأخيرة وبشكل لافت للنظر وأمام أعين المسؤولين العراقيين والتي تتزايد كل عام .
الجزء الثاني من الفيلم بعنوان ( جنوب الصدر) يتبع تياراً شيعيا بقيادة رجل الدين مقتدى الصدر في الناصرية الذين قرروا تولي زمام الأمور بأيديهم لاستعادة الأصولية الدينية ، كما يتابع الفيلم فرض جيش المهدي قانونه الخاص على اجزاء من العراق واعتقاله رجلا يبيع الكحوليات ويشكو الرجل وهو معصوب العينين من ظهور طغاة جدد بعد التخلص من صدام . من المشاهد الصعبة حين يقارن المعتقلين المخطفوفين من قبل المليشيات بألاسلوب القمعي لنظام صدام حسين الدموي . في هذا الجزء تجولت كاميرا ( جيمس لونكلي) في المناطق الشيعية وبالتحديد في مدينة الصدر و النحف ومدينة الناصرية في الجنوب، والعنوان يشير إلى أتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر في خضم الإعداد لحملة انتخابية. في هذا الجزء المهم والذي كان رحلة متكررة للمخرج بين الناصرية والنجف لإبراز ظهور الحركة الدينية السياسية لمقتدى الصدر من وجهة نظر شيعي . إلى جانب محاولة المخرج ” جيمس لونكلي” الناجحة لعكس المعتقدات الشيعية الخاضعة لسيطرة مقتدى الصدر . يبدأ هذا الجزء من حكاية الشيخ الشاب اوس الخفاجي (وهو من قيادي التيار الصدري) وهو يسرد لنا حكايته، كيف دخل الحوزة الدينية في النجف وقصة اعتقاله من النظام السابق وكيف منع صدام اللطم وأقامة الشعائر الدينية للشيعة ، ثم يعرض لنا المخرج في هذا الجزء صورأ لجموع من الشباب وهي تجلد نفسها بالسلاسل والزنجيل وجموع اخرى تلطم على الصدور، وفي احدى خطبه في ايام الجمع يهاجم الشيخ ” اوس الخفاجي” الأحتلال الأمريكي . يكشف لنا الفيلم فرزا للاصوات في إنتخابات مجلس المحافظة في الناصرية وفق المحاصصة الطائفية البغيضة التي هي أساس خراب العراق وتكريس للفساد فيه بحيث تم توزيع المقاعد للاحزاب الاسلامية مع تهميش باقي المكونات و الاطياف من الشعب العراقي. ثم يقوم الشيخ “أوس الخفاجي” بالتحريض ضد بائعي الخمور في سوق الهرج في مدينة الناصرية ويعطي الايعاز الى لميلشيات “جيش المهدي” في اعتقالهم والقصاص منهم ودون الرجوع الى الدولة أو موؤسساتها الامنية . يركز المخرج على رجال ملثمين من جيش المهدي وهو يضربون رجلا بوحشية وهو يتوسل بهم وسط فوضى السلاح ، تتابع كاميرته الفترة التي برز ت فيها مليشيات ” جيش المهدي ” وغزوته في سوق الناصرية لاعتقال بائعي المشروبات الكحولية وبتحريض من الشيخ الصدري وخطابه التحريضي المتعصب . يقول المخرج ألامريكي” جيمس لونكلي” الذي يبلغ من العمر 35 عامًا أنهم لن يسمحوا لي بإطلاق بالتصوير عندما شعروا بالخجل من سلوكهم مع الناس، وحين تري في احد المشاهد، امرأة شيعية تتوسل رجلا من جيش المهدي من أجل زوجها البريء ، وتدعوا إلى تحرير زوجها وتقسم له انه يبيع الخردة والادوات المستعملة في سوق الشيوخ و لايبيع الكحول . ولا تجد لها من يستجيب الى طلبها على الرغم من انكسارها ، ” والله العظيم أحنه ظلينا بلا ريوك و لامعين”. عليهم ان يخجلوا من تلك الافعال و الممارسات التعسفية، يجسد الفيلم الكاريزما التي ينتمي إليها مقتدى الصدر وحشوده المؤيدة له بشكل متزايد . في خلفية الفيلم ، يعرض لونكلي مصادفة مع تواجده في النجف ، وانتفاضة الصدر وجيش المهدي وصدامه مع الامريكان ، والحصار الأمريكي في الفلوجة ، و كذالك الكشف عن الانتهاكات في سجن أبو غريب .
يأخذنا الفصل الثالث والأخير إلى كردستان عراقية، وهي أكثر هدوءا، مليئة بالعمال، والفلاحين الذين يرعون ويزرعون المحاصيل ويصنعون الطوب. وهم أكثر تسامحا مع القوات الأجنبية والتمتع بشعور من الحكم الذاتي . وحسب رأيهم، فإن القوات الاجنبية هي التي ساعدتهم في إزاحة الطاغية صدام . في الثلث الأخيرنتابع حكاية الشاب الكردي سليمان محمود وعائلته من المزارعين في شمال العراق . يطمح سليمان إلى أن يصبح طبيبا ويريد البقاء في المدرسة، ولكن ينتهي به الأمر إلى ترك الدراسة من أجل إعالة عائلته من خلال رعي الأغنام والعمل في فرن الطوب . هذا الجزء أيضا والذي محوره منطقة كردستان ، تشعر بان الايقاع والاسلوب مختلفًا تماماً، يظهر الريف الجميل في كردستان في الصورة ، لاأثر للمسلحين، أو للتشنج الطائفي ، بل تلاحظ الهدوء والسكينة، وألعاب كرة القدم ، يريد سليمان أن يدرس الطب “أريد أن أذهب إلى الكلية وأن أكون شيئًا” – لكن عليه أن يعمل كصانع في معمل للطوب كي أعيش تظهر في خلفية الصورة السماء وهي تمتلئ بالدخان الآسود الكثيف الخارج من مرافق صنع الطوب. يدخن والد سليمان الذي رسمت على وجهه سنين القهر اثارها عليه من خلال التجاعيد . يتنهد قائلاً “مستقبل العراق سيكون في ثلاث أجزاء” في اشارة الى تقسيم العراق الى ثلاث أقاليم ( الآقليم السني ، وألاقليم الشيعي، والاقليم الكردي)، ولكن على خلفية من الموسيقى الساحرة، فإن أطفال العراق هم الذين ينطقون بألفاظ أكثر الكلمات حكمة: “العراق ليس شيئًا يمكنك تقطيعه إلى أجزاء. العراق بلد، كيف يمكنك قص بلد بمنشار؟ . يعكس الفيلم لغة الناس في الشارع بعد انهيار صدام حسين، وهذه اللغة او اللهجة العراقية لاتحمل معاني الحرب بل هي منهج اجتماعي للواقع الإنساني للإنسان العراقي بعد السقوط المدوي للديكتاتور!. . في الواقع ، نحن أمام ثلاث قصص من الواقع العراقي ، عن تحولات الانسان العراقي وهمومه وليس فقط خلال الحروب بل مع آثارها . يقدم المخرج”: جيمس لونكلي ” ثلاث رؤى جميلة للعراق ، إنه فيلم مذهل وقوي، مليء بالصمت التعبيري، ولقطات شخصية عن الوجوه والعينين. تمحو تمامًا الوسائل التقليدية للأفلام الوثائقية من خلال تعليق صوتي ومقابلات مباشرة إلى الكاميرا، يرسم فيلم “العراق في شظايا ” ثلاث صور للعراق – السني والشيعي والكردي- من خلال عيون مواطنيه الذي يحاولون التعايش مع اثار الحرب التي قادتها الولايات المتحدة للاطاحة بالديكتاتور . التقط جيمس لونكلي لقطات وقصصا ستبقى في الذاكرة في هذا الفيلم المفجع . ثلاثية وثائقية تراقب كيف وقع العراق في إضطرابات وكراهية وأقتتال طائفي ومذهبي بشكل كبير بسبب الاحتلال ورجال الدين وخطاب الكراهية الديني بالاضافة الى فساد السلطة الحاكمة الذي جعل الحياة أسوأ وغير مستقرة منذ الإطاحة بالطاغية ، فيلم “العراق في شظايا” هو سيرة جميلة تم تصويرها لبلد كان على وشك الحرب الأهلية وعلى حافة التشظي .