فيلم .. الأرجنتين ، 1985 يكشف جرائم الديكتاتورية ضد الإنسانية
علي المسعود
مرت 37 عاما منذ محاكمة المجالس العسكرية التي حكمت خلال الديكتاتورية الأخيرة في الأرجنتين، بين 24 مارس 1976 و 10 ديسمبر 1983. فيلم الأرجنتين ، 1985 مستوحى من القصة الحقيقية للمدعين العامين خوليو ستراسيرا ولويس مورينو أوكامبو ، الذين تجرأوا على التحقيق ومحاكمة أكثر الديكتاتوريات العسكرية دموية في الأرجنتين في عام 1985. لم يردعهم النفوذ العسكري الذي لا يزال كبيرا في الديمقراطية الجديدة الهشة ، قام ستراسيرا ومورينو أوكامبو بتجميع فريق قانوني شاب من الأبطال ورغم التهديد المستمر لأنفسهم وأسرهم، تسابقوا الزمن لتحقيق العدالة . تجرأوا على اتهام الزمرة العسكرية رغم كل الصعاب وتحت التهديد المستمر من قبل أكثر الديكتاتوريات العسكرية الأرجنتينية دموية . كتب السيناريو ميتري وماريانو ليناس . الفيلم بمثابة تكريم للجهود التي بذلها خوليو ستراسيرا (ريكاردو دارين) ولويس مورينو أوكامبو (بيتر لانزاني) للحكم على المسؤولين عن أكبر إبادة جماعية في تاريخ البلاد بأمر من الحكومة العسكرية للدكتاتورية. يمضي فيلم ميتري قدما أولا بطاقة فريق المدعي العام الشاب ضد عقارب الساعة ، مدعوما بدقة بتحرير نابض بالحياة وسيناريو رشيق . عرض المخرج سانتياغو ميتري لأول مرة في الدورة 79 من مهرجان البندقية السينمائي الدولي فيلمه الأرجنتين ، 1985 . فاز بجائزة الجمهور لأفضل فيلم في النسخة 70 من مهرجان سان سيباستيان. الفيلم يشكل وثيقة أدانته للطغاة ودرس في محاسبتهم على جرائمهم .
الذاكرة الجمعية للمحاكمة :
أعاد فيلم الأرجنتين 1985، بطولة ريكاردو دارين وبيتر لانزاني الى الذاكرة الجماعية لحظة تاريخية عاشتها الأرجنتين بمجرد عودة الديمقراطية مع محاكمة المجالس العسكرية التي كانت مسؤولة عن حكومة الأمر الواقع التي فرضت بالقوة بين عامي 1976 و 1983 . لقد كانت عملية معقدة وبسبب عدة عوامل . وزن أولئك الذين كانوا في قفص الاتهام والهشاشة التي كانت لا تزال تستعيد الديمقراطية الفتية في 10 ديسمبر 1983 وأهميتها في السنوات التالية، ، وبالتالي تسببت هذه المحاكمة في نقطة تحول في الحياة السياسية للبلاد . استمرت المحاكمة 232 يوما ( بين 22 أبريل/نيسان و9 ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام ) ، فيلم الأرجنتين 1985، والحائز على العديد من الجوائز في عرضه في المهرجانات الأوروبية وتم اختياره لتمثيل الأرجنتين في حفل توزيع جوائز الأوسكار .
محاكمة المجالس العسكرية: السياق التاريخي
في 24 مارس 1976 أطاح انقلاب مدني عسكري بحكومة ماريا إستيلا مارتينيز دي بيرون التي ظلت رئيسة بعد وفاة زوجها خوان دومينغو بيرون في 1 يوليو 1974 . في ذلك الوقت ، سيطر المجلس العسكري على البلاد . منذ ذلك الحين بدأت ما يسمى بعملية إعادة التنظيم الوطنية، التي كان لها أربعة رؤساء بحكم الأمر الواقع : خورخي رافائيل فيديلا، روبرتو إدواردو فيولا، ليوبولدو فورتوناتو غالتيري ورينالدو بينيتو بينيوني. نفذت الحكومة العسكرية استراتيجية قمعية ضد المعارضين للسلطة العسكرية والذين تم تحديدهم مع البيرونية واليسار ، مع عمليات الخطف والتعذيب والاختفاء القسري والقتل للثوار المناهضين للحكم العسكري . بعد حرب فوكلاند عام 1982 ، ضعفت الحكومة العسكرية لدرجة أن بيجنون دعا إلى إجراء انتخابات في العام التالي والتي أجريت في 30 أكتوبر 1983. ذهب النصر إلى الاتحاد المدني الراديكالي .
من هم المدانون ؟ :
بعد خمسة أيام فقط من توليه منصبه ، وقع راؤول ألفونسين المرسوم 158/83 ، الذي أمر بإجراء محاكمة موجزة لتسعة القادة العسكرين الكبار من الأسلحة الثلاثة التي شكلت المجالس العسكرية: خورخي رافائيل فيديلا ، وأورلاندو رامون أغوستي ، وإميليو إدواردو ماسيرا ، وروبرتو إدواردو فيولا ، وعمر جرافيجنا ، وأرماندو لامبروشيني ، وليوبولدو فورتوناتو غالتيري ، وباسيليو لامي دوزو ، وخورخي أنايا. . وقد عرفت القضية منذ ذلك الحين “القضية 13/84” . في 15 ديسمبر 1983 ، أنشأ ألفونسين إنشاء اللجنة الوطنية للتحقيق وتغيب وأختفاء الأشخاص (كوناديب). كان هدفها التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة إرهاب الدولة في الأرجنتين في سبعينيات و ثمانينيات القرن العشرين ، التي نفذتها الديكتاتورية العسكرية تسمى عملية إعادة التنظيم الوطنية . تألفت اللجنة من رئيس، الكاتب إرنستو ساباتو، 5 أمناء و 12 عضوا آخر، قاموا بجولة لمدة 280 يوما في البلاد بحثا عن شهادات من الناجين والأقارب وأيضا من القمعيين فيما يتعلق بالأماكن المستخدمة كمراكز احتجاز . في 20 سبتمبر 1984 ، سلم ساباتو إلى الرئيس ألفونسين التقرير الذي تضمن الأدلة وجرد فيما يتعلق بمراكز الاحتجاز السرية البالغ عددها 340 ، وشهادات الناجين ، وسجلات الشرطة والمشرحة ، وبيانات عن الإجراءات المستخدمة لاستخراج المعلومات من المحتجزين – من بين أمور أخرى – عبر أكثر من 7000 ملف في 50 صفحة ، إلى جانب قائمة بالأشخاص المفقودين التي استخدمت لاحقا كأساس لمحاكمة المجالس العسكرية التاريخية .
لماذا كانت محاكمة غير مسبوقة :
حقيقة أن محكمة مدنية حاكمت جرائم ارتكبها الجيش أعطت العملية نظرة غير مسبوقة. ولكن بينهما كانت هناك اختلافات وطريق متعرج للوصول إلى مثل هذا الاستنتاج . في البداية أمر المرسوم الذي وقعه ألفونسين في 15 ديسمبر 1983 بمحاكمة أعضاء المجلس العسكري أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة دون تدخل المحاكم المدنية . وأشار إلى أن الادعاء سيشير إلى (جرائم القتل والحرمان غير القانوني من الحرية وتطبيق التعذيب على المعتقلين) . لكن في فبراير 1984، أصدر رئيس الدولة إصلاحات لقانون القضاء العسكري الذي وافق عليه الكونغرس قبل أسابيع، ومنحت محكمة بوينس آيرس الفيدرالية (وهي محكمة مدنية ) 180 يوما للتحقيق في وجود طريقة لانتهاك حقوق الإنسان . وكان القرار الذي اتخذته المحكمة الفيدرالية لمدينة بوينس آيرس في 4 أكتوبر 1984 كان تولي القضاء المدني سير المحاكمة وإبطال محاكمة المجالس العسكرية. وكان القضاة خورخي تورلاسكو، وريكاردو جيل لافيدرا، وليون أرسلانيان، وخورخي فاليرغا أراوز، وغييرمو ليديسما، وأندريس داليسيو، أعضاء محكمة بوينس آيرس الاتحادية، جزءا من المحكمة التي أجرت المحاكمة ضد قادة الطغمة العسكرية. في حين كان المدعون العامون خوليو سيزار ستراسيرا ولويس مورينو أوكامبو . وبدأت المحاكمة في 22 نيسان/أبريل 1985 واستمرت جلسات الاستماع حتى آب/أغسطس من ذلك العام. وأدلى 839 شاهدا بشهاداتهم في نحو 530 ساعة من جلسات الاستماع. وكانت أول ضحية للإدلاء بشهادتها أدريانا كالفو، إحدى مؤسسي رابطة المحتجزين المختفين السابقين. استخدم المدعون العامون في تقريرهم عبارة “لن يتكرر ذلك أبدا” كأساس للأدلة. في الواقع ، تم استخدام هاتين الكلمتين في ختام حجة المدعي العام ستراسسيرو : “أيها القضاة ، أريد أن أستخدم عبارة وهي رسالة بالفعل إلى جميع فئات الشعب الأرجنتيني ، أعزائي الحكام لن يحدث ذلك مرة أخرى أبدا “. وأصدرت المحكمة الاتحادية حكمها في 9 كانون الأول/ديسمبر 1985. على خورخي فيديلا وإميليو ماسيرا بالسجن مدى الحياة. أورلاندو أغوستي بالسجن لمدة 4 سنوات و 6 أشهر ؛ روبرتو فيولا إلى السجن 17 عاما ؛ وأرماندو لامبروشيني إلى السجن 8 سنوات. وبرئت ساحة عمر غرافيجنا وأرتورو لامي دوزو وليوبولدو غالتيري وخورخي أنايا . تم تأكيد الحكم في عام 1986 من قبل محكمة العدل العليا للأمة ، ومن بين الجرائم التي أدين بها الضباط الخمسة في المحاكمة (القتل عن طريق الغدر)، و (الحرمان من الحرية الذي تفاقم بسبب التهديدات بالخطف والعنف)، و(التعذيب) .
ماذا حدث للمدانين :
بمجرد تأكيد الأحكام، عانت حكومة راؤول ألفونسين من انتفاضتين عسكريتين، نظرا لإمكانية فتح هيئات قضائية جديدة ضد ضباط الجيش من الرتب الدنيا الذين شاركوا في الديكتاتورية. وفي سياق الضغط هذا، صدر قانونان يهدفان إلى منع ظهور عمليات قضائية جديدة: عرف قانونا الطاعة الواجبة وقانون التوقف التام باسم “قوانين الإفلات من العقاب”. يضاف إلى ذلك العفو الذي أنشأه الرئيس آنذاك كارلوس منعم في 29 ديسمبر 1990 ، من خلال المرسوم 2741/90، الذي استفاد من العفو الرئاسي عن المدانين الخمسة: خورخي فيديلا، إميليو ماسيرا، أورلاندو أغوستي، روبرتو فيولا وأرماندو لامبروشيني . ولكن في عام 2003، خلال رئاسة نيستور كيرشنر، بدأت عملية التشكيك القضائي في دستوريــــــة العفو التي انتهت في عام 2010 بحكم صادر عن محكمة العدل العليا .
نقل المحاكمة الى شاشة السينما :
نقلت المحاكمة الى السينما وتمثل ب(فيلم الأرجنتين، 1985) الحائز على جائزة الجمهور في مهرجان سان سيباستيان وهو التعاون الثاني بين سانتياغو ميتري كمخرج وريكاردو دارين كبطل للفيلم، حيث يلعب دور المدعي العام خوليو ستراسيرا . ويرافقه بيتر لانزاني وأليخاندرا فليشنر وكارلوس بورتالوبي ونورمان بريسكي . تركز القصة التي شارك في كتابتها مخرجها وماريانو ليناس على شخصية خوليو ستراسيرا وأدائه في محاكمة قادة المجالس العسكرية بعد توقيع مرسوم الرئيس آنذاك راؤول ألفونسينو وعمل نائب المدعي العام لويس مورينو أوكامبو (لانزاني) وفريق من المحامين الشباب ، ضد عقارب الساعة للحصول على الأدلة اللازمة، وكونهم ضحايا تهديدات مجهولة الهوية مستمرة يبدأ الفيلم في عام 1984 بعد تولي راؤول ألفونسين منصبه كرئيس ومن خلال بعض النصوص على الشاشة ، يضع المشاهد في الموقف الذي يعيشه فيما يتعلق بمحاكمة المجالس العسكرية موضحا بالتفصيل الطريقة التي تجنبت بها المحاكم العسكرية تولي مسؤولية الأمر . إذا انتهى الموعد النهائي لإصدارها، يجب أن تكون المحاكمة في أيدي المدنيين، وبشكل أكثر دقة في المحكمة الوطنية للاستئناف الجنائي والإصلاحي في بوينس آيرس . المدعي العام يدعى خوليو ستراسيرا، يلعبه ريكاردو دارين كما لو كان قد تدرب طوال حياته لجعل تلك الشخصية حقيقية ومقنعة . ينتمي خوليو إلى الطبقة الوسطى ويدمج عائلة نموذجية مع زوجته سيلفيا (أليخاندرا فليشنر) وطفليهما فيرونيكا وخافيير. يشعر ستراسيرا بالقلق من الحياة الرومانسية لابنته التي تواعد رجلا أكبر منها بقليل . بعد فشله في تجنيد أسماء كبيرة، يتلقى ستراسيرا المساعدة من مجموعة من المحامين الشباب لا يملكون أي خبرة وينضمون لأسباب مختلفة، لكنه يفاجئ بمساعده الشاب لويس مورينو أوكامبو (بيتر لانزاني).
أوكامبو مختلف بصفته سليل عائلة عسكرية ميسورة الحال ولديه صلة مباشرة بمشاعر الطبقة الحاكمة عن طريق والدته (سوزانا بامبين) على وجه الخصوص التي ترفض تطوع ابنها إلى فريق المدعي العام. من ناحية أخرى، يعتقد مورينو أوكامبو، مثل كل شاب، أن التغيير ممكن، على الرغم من أنه يأتي من عائلة ثرية، مع تقاليد عسكرية ومسيحية. يسافر المدعون العامون جنبا إلى جنب مع فريق مرتجل من الشباب المتحمسين الذين يمثلون أيديولوجية الأجيال الجديدة في جميع أنحاء البلاد بحثا عن الأدلة والشهود المحتملين. وكذالك يحتاج المدعي العام استشارة صديقة الكاتب المسرحي كارلوس سوميليانا (كلاوديو دا باسانو) الذي سبق وأن عمل في المحاكم . يبدأ المدعي العام بسماع شهادة الضحايا أو الأهل من المختطفين والمغيبين في سجون الدكتاتور . وهناك ضحايا مازالوا خائفين من الإدلاء بشهادتهم مثل الضحية (زيلايا) الذي يخبر المدعي العام أن أحد الجلادين يعمل الآن لدي المحافظ الجديد ، والطبيب الذي تفقد جروحي وأنا أتحمل المزيد من الصدمات الكهربائية في المعتقل هو الآخرأصبح الآن مديرا للمستشفى! ، لا يمكن حماية أحد طالما كلاب المجلس العسكري أحرار وهذه هي الحقيقة المؤسفة . هذه الشهادات وصمة عار تلاحق رجال النظام الدكتاتوري لارتكابهم الجرائم والممارسات اللإنسانية بحق المدنيين . محاولة المخرج سانتياغو ميتري ترسيخ الجانب الإنساني من التاريخ هو أحد إنجازات الرئيسية التي تسمح لنا بالدخول إلى الحقيقة نفسها في ملحمة المحاكمة . وقبل المحاكمة والمقاضاة، قام المدانون أيضا في تدمير الأدلة والسجلات الخاصة التي تثبت جرائمهم ضد الإنسانية .