مظفرْ النوابِ..
خاتمةُ شاعرٍ.. تنذرَ بثورةِ غضبٍ!
عصامْ الياسريّ
حلّ على حضرة مدينتهِ بغداد التي طالما كانَ يتغزلُ بها، يومِ السبت، قادم من الإمارات جثمان الشاعر العراقي مظفر النواب بعد أن فارق صباح يوم الجمعة 20 أيار/ مايو 2022 الحياةَ في غربةٍ قاتلةٍ امتدت لعقودٍ… على أكتافِ شبابِ ثورة تشرينَ محمولاً، تُحيطَ بهِ جماهير غفيرةٌ منْ محبيه وعشاق شِعرهُ. وسط جمع كبير من الأقارب والأصدقاء وأصحاب الفكرِ والقلمِ والسياسة انتقل جثمانُ الفقيدِ إلى مثواهُ الأخيرِ. بذلك انطفأَ ضياءَ رمزٍ آخر من رموز العراق، كان يحلمُ بوطنٍ يحتضنهُ قبل أن تأتيه المنيةُ في الغربةِ.
ولِد المناضل الوطني والشاعر العراقي الكبير مظفر النواب في بغدادَ في 1 كانونَ الثاني/ يناير عام 1934، وأظهرَ موهبةً شعريةً منذُ سنٍّ مبكرةٍ. أكملَ دراستهُ الجامعيةَ في جامعةِ بغدادَ وأصبحَ مدرسا، لكنهُ طرد لأسبابٍ سياسيةٍ عام 1955. ولمواقفهِ السياسيةِ تعرضَ للاعتقالِ والتعذيبِ، وقدْ أصدرتْ محكمةً عراقيةً حكما بالإعدامِ بحقهِ بسبب إحدى قصائدهِ، وخففَ فيما بعد إلى السجن المؤبدِ. وفي سجنه الصحراوي (نقرةُ اَلسُّلَّمَانِ) أمضى وراء القضبان مدةً منْ الزمن ثُمَّ نقل إلى (سجن الحلة) جنوبَ بغداد، قبل أنْ يَفِرّ منه والاختفاء جنوبيَ العراق بين الفلاحينَ والبسطاءَ من الناسِ. وفي عامِ 1969 صدر بيانُ العفوِ عنْ المعارضينَ، فرجع إلى سلك التعليم، ثم غادر العراق، مودعا بغداد إلى بيروت ثم إلى دمشقَ، وتنقل بين العديدِ من العواصمِ العربيةِ والأوروبيةِ.
لم يترك الفقيدُ مناسبةً إلا وكشف عن غيظهِ تجاه النظام الديكتاتوري السابق، ولم ينثنِ عن نقدِ سياساتهِ وحروبهِ الهمجيةِ، التي أدخلت العراقَ في متاهاتٍ أوصلتهُ إلى ما هو عليه اليوم. إذ إن النمط الهمجي الذي سار عليه صدام، ومنذُ احتلالِ العراق في 2003 لا زال قائما، والعراقُ خربا ممزقا تعيثُ بمقدراتهِ ثلةً من الفاسدينَ والجهلةِ الذين أتى الاحتلال بهم ليحكموا بلدا عريقا ذا حضارةٍ تَمْتَدّ لأكثرَ من خمسة آلافِ سنةٍ على أسس طائفيةٍ لم يعرفها المجتمع العراقي.
وعلى الرغم من تعدد العناصر القيمية والمعنوية التي تجمعُ بين الفضاء الافتراضي للحدثِ ومفهوم الزمان والمكان الذي جعل الفقيدُ مظفر النواب يتكيفُ معَ ما كان ينتظرهُ في قادم الأيام. إلا أَنَّ خبر رحيله “المفاجئِ” على قدرِ كلمةِ “الموتِ” وأثرهِ البالغ، لم يكن للجميع مفاجئةٍ بالمعنى العام لفاجعة نهاية الحياة، بقدر ما كان خبرا مؤلما وحزينا بلا حدودٍ!… وعلى ما يبدو أَنَّ “مظفرا” كان أسير أحاسيسَ دفينةٍ لم يتمكن من اختزالها أو تجنبها، يقاومَ وحيدا لمواجهة النهاية بانضباطٍ وهدوءٍ. بفضل إرادتهِ وعنادهِ وهوَ يصارع المرض، تمكن من إعطاء الأمل لنفسه للبقاء على قيد الحياة بأقصى ما يمكن. لكن كما يبدو كمْ كان صعبا عليه أن يواجهَ تراتيل هواجس المرض، دون المقدرة على المشاركة لوضع حدٍّ لآلامِ “وطنِ وشعبِ” قهرهما العجزِ وشدة البلاء؟. بيد أن إبداعهُ اَلشِّعْرِيّ بقي وسيبقى، سبيلٌ، لمواجهةِ المشهد الدرامي ووضع نهاية له. نعمَ كُلّ تلكَ القصائدِ وذلكم الصوتُ الثائرُ، سيبقى كلمةَ وداعٍ مؤثرةٍ تذكر ب “الوطن” ومواجهة أزماته القاتلة بعنادٍ بعدَ مغادرته الحياة إلى عالم آخر ومن ثم قدسيةُ الخلودِ.
اليوم ونحن نودعُ رحيل الشاعر مُظَفَّر النواب والألم يعصرُ أفئدتنا، نستذكرُ الفقيد من زوايا مختلفةٍ، مقدرَتُهُ الشعريةُ، وما يتميزُ به أسلوبَهُ اَلشِّعْرِيّ من تجليات وظواهرَ إبداعية. أيضا كيف كان له أن يكون طرفا في سرد الأحداث السياسية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعاتُ، ليس على مستوى العراق فحسب، إنما على مستوى الوطن العربي أيضا. ليجسد في الغالب في أعمالهِ مكانةَ الوطنِ وحياة المجتمع. لكن القدر أسدل الستار على الفصل الأخير من حكايةِ شاعرٍ كبيرٍ كان بعيدا عن وطنٍ انكفأَ ازدهارهُ، قبل انتهائها بمشوارٍ.
ولعلي أختم بقولٍ: لا أريدُ أن أتحدث عن سنوات طويلةٍ تفاقمت فيها معاناة مظفر الصحيةِ ولا عن معاناته الجسدية والنفسية لدرجةٍ أصبحت الحياةُ فيها بالنسبةِ له، وهو المحبُ للحياةِ، بمثابة سجن انفرادي، تضّيقَ جدرانهُ الأربعةَ عليه الخناقُ… أقولُ كم نحن اليومَ بأمس الحاجة إليك يا أبا عادلاً، وكمْ من مقامٍ بلا حدود لك في نفوسنا.
أراد مظفر أخيرا أن يرقدَ براحةٍ وسلامٍ، ينعمَ بتربةٍ صغيرةٍ من أرض بلاده التي كان يعشقها وضحىْ من أجلها. لكن شعاعهُ الأدبي والفكري والوطني سيبقى خالداً على مرِ العصور.