متى تنتهي ماساة العراق والعراقيين وتتوقف احزاب السلطة عن اطماعها؟
عصام الياسري
ليس جديدا او غريبا ان تتجاذب مواقف الاحزاب والقوى سواء في السلطة او خارجها حول العديد من القضايا كواقع حال مفروض لحماية مصالحها العقائدية والذاتية، دون ان تتدارك هموم المواطن ومصالح الوطن ومجتمعاته التي باتت على حافة الهاوية. ويبدو ان التغيير الطاريء في مواقف الاطراف الاقليمية والدولية خاصة إيران والولايات المتحدة الامريكية، جعل القوى العراقية المتصارعة على السلطة وفقا لما افرزته النتائج الانتخابية حاد المظاهر وغير محسوب العواقب. فيما القضايا المجتمعية التي افرزتها “إنتفاضة تشرين” وطالبت بوضع حلول جذرية لها، بقيت عالقة، بل تجري محاولات لجرفها نحو غياهب النسيان. والعراقيون على ما يبدو، في ظل هذه الازمات المفتعلة، وانقسامهم المجتمعي والسياسي، غير قادرين لوحدهم على التغيير ووضع حد لمعاناتهم ومعاناة بلدهم ما لم تتكون لديهم القناعة والموقف الوطني “الجمعي” لتحمل المسؤولية الاخلاقية لكسح هذه الطبقة المافيوية المتجذرة في مؤسسات الدولة والسلطة عن المشهد السياسي.. السؤال: من ذا الذي يستطيع تحريك الطبقة الصامتة منذ ثمانية عشر عاما لتقوم بتغيير هذا الواقع المرير وهي بموقفها السلبي هذا منحت الفاسدين فرصة الهيمنة على البلد ومصالح شعبه بالكامل؟.
أكثر من شهر ونصف مضى على اجراء الانتخابات وصولة فرسان “الاطار التنسيقي الذي تشكل مؤخرا لاغراض فئوية” من مواقعه، يهدد ويتمرد ويحرض على انتزاع ما ليس له فيه من حق من جبة “القضاء” بالقوة. وهو ما لا يمكن ان يتأتى حتى اذا ما انتزع القانون بعضا من النتائج التي حصل عليها المستقلون لصالحه.. الغريب في الامر ان هذه القوى لم تكن في الانتخابات السابقة 2010 ، 2014 و 2018 ، تسمح لنفسها بالتنازل للاخرين ورفضت كل الطعون التي شككت بنزاهة الانتخابات معتبرة نتائجها سليمة رغم انها تعلم علم اليقين بانها مزورة.. من جانبه اكد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر التزامه باحترام نتائج الانتخابات وتصميمه على تشكيل “حكومة أغلبية وطنية” لا حكومة توافقية، كما ينص الدستور على ان “الكتلة الحائزة على أكثر المقاعد وليس الاصوات” هي من تقوم بتشكيل الحكومة. بمعنى آخر حكومة مسؤولة تقوم بإدارة الدولة وشؤونها لاربع سنوات، ومعارضة تراقب عملها كما هو متعارف عليه في دول العالم ومنها الدول الجارة للعراق وليس على طريقة دولة القانون عندما فاز علاوي بانتخابات 2010 سحبتها منه تحت ضغط طائفي. ودعا الصدر الى رفض أي تدخل أجنبي في شأن الانتخابات، بما في ذلك إيران. كما طالب بحل الحشد وحصر سلاحه بيد الدولة، وتوجه للاطراف الراغبة للمشاركة في الحكومة ان تنظف صفوفها من الفاسدين وحل ميليشياتها المسلحة واعلان ولائها للعراق ارضا وشعبا.
مع الاعلان بحسب النتائج الأولية لمفوضية الانتخابات عن فوز تيار الصدر في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت في العراق نتيجة الغضب على نطاق واسع ضد كبار السياسيين واتهامهم بالفساد والثراء على حساب الشعب والوطن، وتحول ذلك الغضب الى احتجاجات حاشدة في تشرين 2019 أطاحت بحكومة عبد المهدي آنذاك. حاليا أقدمت احزاب الاسلام السياسي الشيعية على تشكيل منظومة جديدة سميت “بالاطار التنسيقي” لمواجهة الصدر الداعية الشعبوي لتياره. اضطره ذلك للتفاوض مع الاحزاب الكردية والسنية “البرزاني والحلبوسي” لتشكيل حكومة اغلبية وطنية معهم، انتهت دون نتائج إيجابية، تحسب لصالح الصدر كما يقول المثل الدارج: رب ضارة نافعة.
فشل محاداثات الصدر في رايي أنقذه من مآخذ ومناكفات سياسية وعقائدية ومجتمعية ووطنية لا ترحم. اذ ان مسالة التحالف مع الاكراد والسنة امر غير منطقي، اذ ان مصالحهم لا يمكن ان تستقر الا وفق نظام المحاصصة التوافقية، كما انهما سيشكلان في التحالف مع الصدر ان تحقق اغلبية قادرة على الابتزاز لتحقيق مصالحهم المناطقية والعقائدية دون غيرهم، وهو ما كان يغفله الصدر بالتأكيد. ثم ان الطرفين، الحلبوسي والبرزاني، لا تهمهم مصالح العراقيين بقدر ما تهمهم مصالحهم الفئوية والحزبية على حساب الدولة العراقية ومساحاتها الجيوديموغرافية والاقتصادية، الامر الذي سيجعل الصدر عرضة للحرج الشعبي، ولن تنتهي الا بقضمهم الاتفاق عمدا، دون قطرة حياء كما هو معروف عنهم. وتجدر الاشارة الى ان رفض البرزاني والحلبوسي للاتفاق بحجة ان على الاطراف الشيعية ان تتوحد وتتفق فيما بينها على ترشيح من تراه مناسبا لتشكيل الوزارة، ما هو الا مناورة لحصاد مزيد من الحقوق والمكاسب والامتيازات.
ما ينبغي على الصدر القيام به ان كان جادا في نقل المشهد السياسي والمجتمعي نحو الافضل. بعد ان اتجه الوضع العام برمته نتيجة موقف جميع الاطراف سيما الشيعية من نتائج الانتخابات، نحو الانسداد السياسي على الرغم من الضغوط الايرانية عليهم لتفادي السقوط في المستنقع. ومن ثم تصريحه في 24 تشرين الثاني لحل أزمة تشكيل الحكومة بالقول (اما يشكل الآخرون “حكومة أغلبية وطنية” ويذهب تياره الى المعارضة، او يشكل هو “حكومة اغلبية وطنية”، وتذهب الاحزاب الاخرى لتشكيل معارضة برلمانية، مؤكدا غير ذلك لن يحصل، ولن تعود لعبة الدكاكين الى سابق عهدها! )..
وبغض النظر عن موقفنا من أحزاب الاسلام السياسي ونوايا السيد، أقول اذا ما أصر الصدر بثبات على هذا الموقف الوطني في ظل ظروف تفتقر إلى اجواء سلمية تسمح لكتلته النيابية الفائزة انجاز مهام العملية الانتخابية، فانه سيضع الجبهة الكردية ـ السنية من جهة، وتحالف الاطار التنسيقي ـ الشيعي من جهة اخرى امام معادلة مربكة جديدة، تُسقط كل ما لديها من خطط غير معلنة للبقاء في السلطة، كما وتحرجها لمواقفها الفئوية التي تتعارض مع مصالح الشعب والبلد امام المجتمع العراقي والدولي. وسيفضي الى جملة احتمالات من شانها ان تؤسس لصراع سياسي سلمي لتداول السلطة وانقاذ البلد، أو تتحول المناكفات السياسية التي ادت وتؤدي الى تعطيل الحياة المدنية والادارية والاقتصادية والامنية، الى غضب شعبي، يعود من جديد للمطالبة باجراء انتخابات جديدة رديفة للسابقة. ستؤدي الى مشاركة نوعية واسعة لمن قاطعوا في المرة السابقة، لادراكهم بانها لن تغير الوضع في العراق بشكل جوهري، ولانعدام الثقة في السياسة وتدني الإقبال إلى مستوى قياسي شكل علامة واضحة على إحباط الكثير من العراقيين من الوضع السياسي في بلادهم.
اذن اذا ما توفرت الارادة المخلصة لاجراء انتخابات نزيهة ومنضبطة اداريا وامنيا على غرار تجربة الانتخابات السابقة، فانه لمن المؤكد ان تكون مشاركة من يتوقون لنظام حكم يسوده القانون والعدل والمساواة واسعة بالشكل الذي يسمح لهم لعب دور فعال في الحياة العامة على المستوى الاداري والسياسي والاقتصادي مستقبلا، بعيدا عن اي تدخل اجنبي في شؤون بلادهم. والاهم، اجراء مراجعة شاملة للاوضاع العراقية وإعادة النظر ببنود الدستور والقوانين المتعلقة بالاحزاب والانتخابات واللجان، وتصحيح كل ما نتج عن الحكومات الطائفية السابقة التي هيمنت على مؤسسات الدولة وجعلتها مؤسسات تابعة لاحزابها وعوائلها، كذلك محاربة الفساد وتقديم كل الفاسدين للقضاء وانهاء ماضي العراق الدموي.