بعد إعلانه مؤخرا الابتعاد عن المشهد السياسي ودعوته أنصاره الانسحاب من المنطقة الخضراء في ظروف غامضة غير معروفة أسبابها، علق الصدر للمرة الثانية هدف التغيير الرامي إلى بناء دولة المواطنة وإحلال مشروع الإصلاح بدل دولة العهر السياسي والفساد المالي والإداري. وبدأت الأزمة السياسية في العراق تقترب من الذروة: ففيما أعلن الصدر “اعتزاله السياسة”، كثف “الإطار التنسيقي” تحديه للتيار وزعيمه الذي أغلق مكاتب حزبه في الوقت الذي تعالت الهتافات “هذه ثورة شعبية وليست حركة صدرية” ودعا آخرون إلى “الإطاحة بالنظام”، فرض الجيش حظرا للتجوال ودعا المواطنين إلى مغادرة “المنطقة الخضراء” على الفور وضبط النفس “لتجنب الاشتباكات وسفك دماء العراقيين”. وفي بيان أكدت القوات الأمنية مسؤوليتها في “حماية المؤسسات الحكومية والبعثات الدولية والممتلكات العامة والخاصة” بالقوة.
لقد زاد الجمود السياسي من عمق أزمة الحكم في العراق. والأحزاب المتصارعة على السلطة لا زالت غير قادرة على الاتفاق على رئيس للجمهورية وللحكومة. بيد أن قرار الصدر لعدم الانخراط في الشؤون السياسية، وإعلان تقاعده النهائي وإغلاق جميع المرافق “المؤسسات الدينية” المرتبطة به، وترديد مقولة “إذا مُت أو قتلت، أطلب صلاتكم”، جعل المشهد السياسي أكثر ظلامية، والبلاد بموجب طبيعة نظام الحكم وتعدد الأقطاب، تتحول إلى محميات تابعة لقادة الطبقة الحاكمة. تعاني من وطأة الأزمات الاقتصادية والتضخم والفساد وهدم مؤسسات الدولة وعدم حماية ممتلكاتها العامة.
في الأصل، أن الاحتجاجات التي اندلعت عام 2014 ثم عادت عام 2019، والمعروفة باسم ثورة أكتوبر، هي سلسلة مستمرة من مظاهرات ومسيرات واعتصامات وعصيان مدني. بدأ تكرارها في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وهو التاريخ الذي حدده نشطاء مدنيون على وسائل التواصل الاجتماعي، ويمتد عبر محافظات العراق الوسطى والجنوبية، للاحتجاج على الفساد والبطالة وعدم كفاءة الخدمات العامة. بالإضافة إلى ذلك، يشكو الكثير من الاساط العراقية المعارضة لطبيعة نظام الحكم “الطائفي التوافقي” من النفوذ الخارجي (إيران، والولايات المتحدة الأمريكية). ثم تصاعدت إلى دعوات واسعة لتغيير نظام الحكم بالكامل ووقف التدخل الإيراني في الشأن السياسي العراقي. استخدمت الحكومة العراقية الماء الساخن ورذاذ الفلفل والغاز المسيل للدموع والبنادق ضد المتظاهرين مما أدى إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى.
وبالعودة إلى تاريخ أحداث عام 2011، كما هو الحال في العديد من البلدان في العالم العربي، اندلعت الاحتجاجات في مختلف محافظات العراق للمطالبة بوضع حد للفساد والمحسوبية والبطالة. كذلك المطالبة برفع الأجور وتحسين الخدمات العامة مثل الكهرباء والنقل والرعاية الصحية والتعليم والخدمات. فيما واجه المتظاهرون القمع الحكومي ووحشية الشرطة والاعتقالات. فاتسعت مطالب الإصلاح خلال الاحتجاجات العراقية 2012-2013 لتصل المناطق التي يقطنها أغلبية سنية في أعقاب أعمال الاضطهاد التي ارتكبها نوري المالكي ضد السنة. وأظهرت مشاهد الاحتجاجات المناهضة بالدعوة لإسقاط الحكومة الطائفية وإعادة كتابة الدستور، فضلاً عن مسيرة إلى بغداد لاحتلال المنطقة الخضراء. وتم قمع هذه الاحتجاجات من قبل الحكومة، مما أدى إلى اشتباكات بين قوات الأمن ورجال العشائر المحليين، انتهت بإطلاق الحكومة حملة الأنبار عام 2013، بحجة الفصائل السنية كانت جزءا من التمرد لبسط سلطاتها والسيطرة على محافظة الأنبار. تعهدت وزيرة الخارجية الأمريكية عام 2014 بتقديم دعم “مكثف” للحكومة العراقية بينما ناشدت الحكومة أن تتخطى “الدوافع الطائفية”، لكن وفقا لمسؤولين كبار في وزارة الدفاع، امتنعت الولايات المتحدة عن تزويد الجيش العراقي بالسلاح بسبب انعدام الثقة في القوات العراقية. بينما أكد صحفيون أميركيون مخضرمون مطلعون على الوضع، أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ليس هو طرف الذي يمكن أن يستجيب، والمعادلة يجب أن يستقيل.
بسبب عدم إحراز تقدم من قبل حكومة حيدر العبادي واستمرار فساد الدولة، دعا زعيم التيار مقتدى الصدر إلى اعتصام في المنطقة الخضراء ببغداد لإجبار الحكومة على إيجاد حلول جادة للفساد. في 30 أبريل/ نيسان 2016، اخترق آلاف من أنصار الصدر حواجز المنطقة الخضراء واقتحموا المباني الحكومية، بما في ذلك البرلمان العراقي، طاردوا مسؤولي المنطقة الخضراء قبل أن يتراجعوا في اليوم التالي بدعوة من الصدر. وفي تموز 2018، اندلعت مظاهرة أخرى في البصره والمدن المحيطة بها، واستمرت لعدة أشهر بسبب تدهور الخدمات العامة وتلوث المياه ونقص الكهرباء. أحرق المتظاهرون عددا من المباني الحكومية ومقرات بعض أحزاب السلطة، وقطعوا العديد من الطرق الرئيسية، وهدموا وأحرقوا صور الخميني وخامنئي. تم قمعهم من قبل قوات الأمن والحشد الشعبي بما في ذلك كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 16 متظاهراً.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2019: اندلعت الاحتجاجات من جديد ضد ارتفاع معدلات البطالة وسوء الخدمات الأساسية وفساد الدولة، في بغداد وسط ساحة التحرير. وكان معظم المتظاهرين من الشباب الذين ألقوا باللوم على الحكومات المتعاقبة لإخفاقاتها العديدة. امتدت هذه الاحتجاجات إلى عمق المحافظات الجنوبية. وفرضت السلطات قطع الإنترنت في البلاد، وإغلاق 75٪ من أساليب الوصول إليه. وأعلن رئيس الوزراء العراقي حظر التجول حتى إشعار آخر.
بعد فشل تحالفه مع القطبين (الحلبوسي والبرزاني) في تشكيل (حكومة أغلبية وطنية) تفتقر المصداقية ولا تمتلك برنامج حكومي محدد. مارس الصدر بعد دعوة نوابه للاستقالة “لعبة المناورات السياسية” التي لا قيمة لها دون الشرعية البرلمانية القادرة على قلب المعادلات ومساراتها بالشكل الذي يضمن تحقيق الهدف الذي يصبو إليه، إذا كان الأمر يتعلق فعلا بإجراء تغيير شامل لنظام الحكم. لكنه أساء تقدير إمكانياته القيادية والسياسية فوضع العراق وشعبه أمام مصير مجهول ومحنة مواجهة عصابات متمرسة تحكم بقوة السلاح الميليشياوي ولا تريد التنازل عن السلطة حتى أن كلف ذلك دمار الوطن ومَن عليه.!