لماذا تحاصر ثقافة الوعي في العراق؟
عصام الياسري
مضى ما يقارب العقدان من الزمن على غزو العراق في العام 2003 واحتلاله، وخطاب ما يسمى بالسياسي العراقي “الديمقراطي”؟ لا يزال ملتبساً يراوح في مكانه. فيما المضمون المؤسساتي والإداري للدولة بات اكثر تعقيدا، والاوضاع السلبية الشائكة مع وجود صناع القرار القدامى الجدد، يعجز لملمتها وكنس اضرارها الخطيرة من على ارصفة السياسة على الصعيدين الوطني والمجتمعي لانهاء مرحلة “عصر” التوافق الطائفي في مختلف مجالاته دون رجعة.
بعد مضي كل هذه السنوات من الازمات والفشل والظلم والاستهتار بمقدرات العراق وشعبه، نسأل: ماذا حصد هذا البلد العريق بحضارته وثقافاته وتنوع طوائف مجتمعه؟ وكيف سيكون مستقبله في ظل تناحرات طائفية وعرقية، تبدو عسيرة على الحل؟.
فالمواءمة بين الرؤية الواقعية، وامكانات المجتمع التقنية والبشرية، على ما يبدو من الناحية الموضوعية والهوامش الوطنية الذاتية لا زالت غير ناضجة لتعبيد الطريق وفق سياقات سياسية واضحة امام الرأي العام وتحفيزه للشروع اكثر جدية باتجاه عملية التغيير السياسي لنظام الحكم وانهاء “سلطة التوافق الطائفي” لاعادة بناء الدولة واصلاح مؤسساتها لتكون كفوءة تخضع لمراقبة القضاء والقانون والمجتمع. لكن، لا يمكن تحقيق كل ذلك ما لم يكن التفاعل السياسي منسجما مع التفاعل الثقافي والاعلامي، وكلاهما متناغما مع الوجدان المجتمعي بكل اطيافه العقائدية والاثنية.
لكن السؤال يبقى: ما المصلحة في خراب ثقافة الوعي وملاحقة القائمين عليها سلطويا؟.
في عام 2003 قامت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في حلف شمال الأطلسي “الناتو” بمساعدة المنظومة العربية والأقليمية بشن حرب كونية ثانية على بلاد الرافدين “العراق” أستعملت فيها كل أنواع الأسلحة منها “اليورانيوم والكيميائي” المحرم دولياً والذي خلف ولا يزال الكثير من الخراب والضحايا والأمراض والعذابات. وفي ظل تداعيات سياسية غامضة تعرض العراق بقيادة الولايات المتحدة الى تاسيس نظام حكم “طائفي توافقي” لم يعهده في كل عصوره الحديثة. سلخا هذين الحدثين، العراق، عن مداره المعاصر وجرى عن قصد تدمير هويته الثقافية، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى تمرد حكومات ما بعد الاحتلال العراقية المتعاقبة على اصحاب الفكر والقلم وحرمانهم من ابسط حقوقهم المدنية بما فيها القوانين التي تتعارض مع حقوق الانسان وحرية التعبير عن الرأي وحجر وسائل المعلومات الإلكترونية.
اليوم يواجه المجتمع العراقي أسوأ مسارٍ لا يتناغم مع بصيرة الانسان وعقله، حيث يجري وسط جدل مثير للغاية بحجة “انظام لاصلاح الاسلاموي” خنق “الثقافة” وتهديم أركانها المهمة في تطور المجتمع وإنماء وعيه. وتحت ما يسمى بالعملية السياسية المترنحة على أطلال هلامية لم تفرخ بعد، “الديمقراطية والحرية”، يتعرض أهل العلم والفكر والثقافة والإعلام العراقيين للملاحقة والقتل، الأمر الذي أدى إلى هجرة العديد منهم خارج وطنهم حيث يعانون من مشاكل إنسانية ومجتمعية جمة. ويبدو أن المشروع الثقافي في إطاره العام في العراق تحت رحمة الكتل والأحزاب الطائفية والشوفينية الحاكمة، ولن يستطيع النهوض لاعمار وهيكلة أوضاعه للمساهمة ببناء الدولة وصيانة كيانها. فاصبح مشروعاً لا يستطيع في ظل “ثقافة الجهل” أن يتنقل بشكل صحي بين واحات المعاهد والمراكز والمؤسسات الثقافية داخل الوطن وخارجه.
ومع ضجر المجتمع العراقي بمختلف اتجاهاته من سلوك السياسة والسياسيين، تضاءل دور المثقفين وحوصرت الثقافة ووضعت العراقيل أمام تطورها ما تسبب من خراب لعقل الإنسان والفكر. واتجهت دوائر الدولة المعنية وبشكل خاص وزارة الداخلية عن عمد لتطويق وسائل الثقافة والفكر والإعلام والتواصل الاجتماعي وسواها. ولم تصنع مناخات ثقافية عراقية متنوعة تخدم حضارة وادي الرافدين العريقة.
عندما نتحدث هنا عن الثقافة نقصد بذلك إجمالاً “الفن والأدب والإعلام” التي يستقيم نحوها كل اعتبار ومال، كونها وبكل ما تملكه من عناصر ومقومات، قبلة المجتمع في أي ظرف ومقياس… والأنظمة القائمة في العديد من الدول على أسس ديمقراطية تأخذ برأي المثقف، وتضع له منزلة خاصة في الشأن الاجتماعي السياسي ذاته، لأنها تدرك أن صناعة العقل لا تتحقق إلا بوساطة المثقف والثقافة المتحررة من هيمنة وقيود السلطة. إن احترام الدولة للثقافة والمثقف واجب من صميم مسؤولياتها واحترامها للمجتمع الذي يجل تراثه ويعتز برواد ثقافته ومبدعيها. لكن المشهد الثقافي في العراق على ما يبدو سيبقى جزءاً من اللعبة السياسية، وبسببه سيتراجع مضمون الثقافة وتتدنى كثيراً من ناحية إنتاج مستوياتها الإبداعية.
وفيما يعاني العراق من قيد ظلامي شائك، ومن حكم طوائف وميليشيات لا تهمها الثقافة بقدر ما يهمها نهب المال العام وممارسة الابتزاز والتهديد والرشق المتبادل. أصبح انتشار ظاهرة ثقافة “التظليل” التي تمارسها السلطة السياسية عبر وسطاء “الثقافة” يشكل أسلوباً بدائياً متخلفاً ويروج لثقافة العشيرة التي ينبغي مواجهتها بحزم من أجل إرساء مفاهيم تجعل من الثقافة عاملاً مؤثراً في حل الأزمات ومشاكل المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل ينسجم وعناصر الدفاع عن مصالح الأمة الوطنية.
لقد آن الأوان لإعادة النظر بعقلانية وموضوعية ليس تجاه الشأن السياسي وحسب، إنما تجاه كل مدارات “الثقافة” وجوهر مفاهيمها الفلسفية والفكرية التي نالها أخطبوط الصراع على السلطة وحول هذا القطاع الهام في حياة الشعب ومستقبله إلى أنماط وتصنيفات هامشية. كما ينبغي أن يكف المسؤولون السياسيون عن اعتبار الثقافة والمثقفين العراقيين مشروعاً أيديولوجيا مؤطراً لصالح هذا الحزب أو ذاك.