في ظل الأوضاع السائبة… إلى أين سيفضي اعتصام المنطقة الخضراء
عصام الياسري
المواجهة
بعد مضي ما يقرب عشرة أشهر على الانتخابات العامة التي جرت في العام المنصرم، وصلت الأوضاع في العراق الدولة الغنية بالنفط إلى طريق مسدود. حيث أشعل اقتحام الصدريين للبرلمان وتعطيل جميع الجلسات، شرارة صراع قديم على السلطة بين النخب السياسية، وكان هدف المتظاهرين الضغط على السياسيين وبالأساس الإطار التنسيقي الذي عرقل تشكيل حكومة أغلبية وطنية. وكانت الكتلة الصدرية في ذلك الوقت المنتصر، لكنها فشلت في تأمين النسبة المطلوبة “أغلبية الثلثين” لانتخاب رئيس الجمهورية، حسب تفسير المحكمة تحت ضغط قوى الإطار التنسيقي. وكان قادة الإطار يشككون في نتائج الانتخابات ولا يريدون الاعتراف بالهزيمة ومجيء حكومة تحارب الفساد وتصلح النظام السياسي برمته.
وكاد للصدر أن يصمد بوجه التداعيات لتحقيق ذلك، لولا انحراف مجموعة ما يسمى “بالمستقلين”، بعيدا عن تعهداتهم. وتخلي حلفاؤه، البرزاني والحلبوسي، تحت تأثير وإغراءات الاطاريين. لكن ليس من المؤكد أن تشكيل حكومة جديدة متمثلة بقوى “الائتلاف الثلاثي” الصدر الشيعي، والحلبوسي السني، والبرزاني الكردي، ستفضي إلى تحقيق نوع من الإصلاح المضمون، بمعنى، التغيير الشامل للنظام السياسي ومحاربة الفساد. وبالنهاية، القطيعة مع التقاليد السياسية “التوافقية” الدارجة منذ 2003 حتى الآن، إذ شغل وفقا لمبدإ المحاصصة الطائفية الذي أسسه المحتل، منصب رئيس الجمهورية كردي ورئيس الوزراء شيعيا، فيما يكون رئيس البرلمان سنيا. قوبل مشروع الصدر رغم تعدد التناقضات السياسية والعقائدية بين جميع الأطراف والكتل بالمقاومة، لأن البعض يخشى ضياع السلطة والنفوذ، والأخطر والأهم، مواجهة القانون وعدم إمكانية الهروب من العقاب. انتهى الأمر بالصدر دعوة أعضاء تياره إلى الاستقالة من مجلس النواب. فسر المراقبين وبعض مراكز البحوث السياسية، الانسحاب، على أنه خطوة لوضع الأحزاب والسياسيين المناوئين تحت الضغط، فيما تحدث آخرين على أنها خطوة غير متوقعة، لكنها مدروسة ومستهدفة، نظرا لما نتج عنها من تأثير في غاية الأهمية على نزول التيار إلى الشارع ومحاصرة البرلمان سيما بعد ترشيح الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء.
وفي رسالة موجهة للمتظاهرين، وصف الصدر الاحتجاجات بأنها “ثورة عفوية وسلمية”. ودعا إلى دعم جماهيري واسع، مجتمعي ووطني، لا سيما العشائرالعراقية. مرددا “هذه فرصة عظيمة لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي”. وهي المرة الاولى التي يتحدث فيها عن “التغيير الجذري” بشكل واضح، دون ان يشير بالضبط الى نوع التغيير الذي يريده وكيف!.
عاصفة البرلمان
حاولت قوات الأمن في المنطقة الخضراء شديدة التأمين، التي تبلغ مساحتها عشرة كيلومترات مربعة وفيها البرلمان والعديد من المباني الحكومية والسفارات، بما في ذلك السفارة الأمريكية، تفريق المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع، ووقعت إصابات خطيرة بين ما لا يقل عن 125 متظاهرا سلميا. فيما احتج “الإطار التنسيقي” الذي يتزعمه المالكي بشدة على الاعتصام وقال في بيان إن “الدولة وشرعيتها ومؤسساتها الدستورية والسلم الأهلي على المحك”. متجاهلون حجم الخروقات الدستورية والقانونية والإدارية التي ارتكبوها على مدى تسعة عشر عاما. انتهاك حرمة الدستور ومعاداة القانون والضغط لتمرير مشاريعهم على المؤسسة القضائية بقوة السلاح. إضافة للعديد من الانتهاكات السياسية والاقتصادية والمجتمعية وسرقة المال العام والثروات الوطنية وتعريض السلم الأهلي مرات للخطر والحرب الأهلية، كما تعرضت الدولة العراقية ومؤسساتها الشرعية للابتزاز والدفع بها نحو حافة الهاوية.
إن كلا المعسكران الشيعيان- الصدر والمالكي- يعتبرون أنفسهم زعماء، كل على طريقته الأولى بالحكم. فالمالكي البالغ من العمر 72 عاما، كان بعد سقوط الدكتاتور صدام حسين رئيسا للحكومة من 2006 إلى 2014. إلا أن منتقديه يتهمونه، من بين أمور أخرى، بالمسؤولية عن نجاح ميليشيا الدولة الإسلامية الإرهابية (داعش) وسقوط الموصل وغيرها من المدن العراقية، بسبب سوء إدارة الحكم وتجاوزه حدود صلاحياته كمسؤول دولة يفترض أن يصون البلد ويحفظ أمنه وأمن شعبه كما يتطلب الدستور والقانون ذلك. بالإضافة إلى هدر المال العام وتفشي الفساد الإداري وعدم احترام سيادة الدولة. فيما يعتبر الصدر البالغ من العمر 47 عاما، شخصية مثيرة للجدل. بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، أسس جيش المهدي لمحاربة القوات الأمريكية. اليوم هو أكثر اعتدالا ويبدو مزيجا من، القوميين والشعبويين. أتباعه يعيشون في المناطق الأكثر فقراً في بغداد ومدن أخرى. وتكمن قوة الصدر في قدرته على حشد الجماهير وضبط إيقاعها السياسي والمجتمعي. لذلك فسر انسحاب أنصاره من البرلمان على أنه مناورة لمواصلة وضع الأحزاب تحت “ضغط الشارع” ومنع “التحالف السابق” من الالتفاف حول المالكي.
ولكن على ما يبدو أن الصراع على السلطة بين الطرفين، سيبقى مستعرا، والوضع لكلا المعسكرين الشيعيين خطيرا. لأن لديهما ميليشيات مسلحة بكثافة، وحكومة “تصريف الأعمال” الحالية، لا تستطيع لعب دور مهم في كسر الجمود السياسي وفك تشابك الأطراف المتصارعة على السلطة. فيما مشاكل البلاد عديدة: ارتفاع معدل البطالة بين الشباب، تضخم حالة الخدمة المدنية، اعتماد الاقتصاد على النفط، نقص في وجود نخبة سياسية مسؤولة مستعدة لتسوية خلافات الطرفين لصالح الجمهور والجمهورية.
إن الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أتت في أعقاب المظاهرات بعامين، في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، جاءت في أوقات عصيبة اقتصاديا مع ارتفاع الأسعار والبطالة سيما بين الشباب. وكانت موجهة من بين أمور عدة، ضد الفساد المستشري وسوء الوضع الاقتصادي والبنية التحتية وافتقار الصحة والماء والكهرباء. وكان لكل ذلك تداعيات انعكست مظاهرها في دخول البرلمان وإعلان الاعتصام المفتوح، حتى تتحقق جميع المطالب السابقة، إذ لم يعد ملايين العراقيين يثقون بالسياسة بعد الآن وغاضبين من الجمود السياسي وأساليب المماطلة والتسويف، مما دفعهم للبقاء في “مجلس الشعب” يحتجون، ولا مَن يعرف ما يحمل المستقبل من تنبؤات ومن أي نوع؟؟