ثورة 14 تموز 1958 ومنعطف اجهضها.. اسبابها.. ولماذا؟
عصام الياسري
في 14 تموز يوليو 1958، تمت الإطاحة بالنظام الملكي العراقي، المرتبط ارتباطا وثيقاً ببريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية. من قبل حركة “الضباط الأحرار” وعلى رأسهم الضابط العسكري الوطني عبد الكريم قاسم. لقد كانت ثورة تموز بكل المعايير ثورة وطنية وغير عادية، ففي خلال الساعات القليلة الأولى على نجاحها خرج مئات الآلاف من العراقيين والقوى والأحزاب الوطنية للاحتفال بتأسيس الجمهورية ونهاية النظام الملكي.
حين يعرف المرء الظروف الاجتماعية، التي كانت الجماهير تعيشها آنذاك، ويدرك قسوة الهيمنة السياسية والاقتصادية للدول الإمبريالية، سيفهم عندئذ مدى الاستياء العام، الذي كان يسود المجتمع العراقي، والأسباب التي أدت إلى الثورة وحدوث بعض الانتهاكات الدموية غير المتوقعة، وغير اللائقة بسمعة العراق وإرثه الحضاري، التي حصلت للأسف أثر ردود الفعل العفوية بحق بعض رموز العهد الملكي السابق من قبل بعض العسكريين بطريقة وحشية.
وعلى الرغم من تعرض الثورة للمؤامرات والضغوط الإقليمية والدولية المتعددة ومحاولات بعض القوى الداخلية لإجهاضها، ألا إنها حققت خلال فترة قياسية لم تتجاوز خمس سنوات العديد من المنجزات الوطنية المهمة. فقد تم إجراء إصلاحات محلية بعيدة المدى شملت القانون رقم (80) لسنة 1961 “قانون تعيين مناطق الاستثمار لشركات النفط” وإصدار مراسيم تشكيل الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية وإطلاق حرية الصحافة. بينما جسدت المادة 3 من الدستور المؤقت ولأول مرة كخطوة تاريخية: “شراكة العرب والأكراد في العراق”… ووضعت كذلك أسس الدولة المدنية وإرساء العدالة الاجتماعية والمساواة وتحقيق الإصلاح الزراعي والاعتراف بحقوق العمال والفلاحين وقامت بتوزيع الأراضي ودور السكن على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وسعت من أجل المساواة القانونية للمرأة بسن “قانون الأحوال المدنية” وبذلت الجهود الكبيرة في قطاع التعليم والصحة والبناء والإعمار.
وفيما كان نصف مساكن بغداد صرائف وأكواخ يحيط بعضها بمدينة بغداد، اتخذت الحكومة الجديدة سنة 1959 قراراً بإسكان أصحاب الصرائف ، فأنشأت 911 داراً في مدينة الثورة شرق بغداد، ووضع تصميم جديد لمدينة بغداد تضمن شق 3 قنوات في بغداد، اثنتان في الرصافة، وواحدة في الكرخ للحد من مخاطر الفيضانات، أنجز منها في أشهر معدودة قناة واحدة بطول 23 كيلومترا سُميت ب “قناة الجيش” لتكون ممرا مائيا صناعيا، مسارها إلى الشرق والشمال الشرقي كي لا تؤثر على خطة استملاك أراض واسعة للمواطنين أصحاب الدخل المحدود والفقراء. إنها ليست قناة فحسب، بل مشروع إسكان كبير، وقد افتتحت بعد ذلك مدينة الثورة، شرق بغداد، وسكنها آلاف العوائل التي كانت تسكن في مساكن عشوائية بين مياه آسنة، وحدثت قفزة عمرانية في بناء أحياء سكنية جديدة على جانبي القناة.
كانت ثورة 14 تموز يوليو 1958 ثورة تحرر وطني بامتياز، حققت الكثير، مما كان الشعب العراقي يطمح إليه في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار، حيث تم خروج العراق من النظام النقدي الإسترليني البريطاني وانسحابه عام 1959 من حلف بغداد العدواني الذي ضم المملكة المتحدة وتركيا وإيران وباكستان، وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية متكافئة مع الدول وتصديرالموارد النفطية دون تدخلات خارجية. لكن الدول العظمى التي تضررت مصالحها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لم تتوقف عن حياكة المؤامرات، تكللت بانقلاب 8 شباط الأسود 1963 الذي قاده حزب البعث وقوى اليمين والرجعية بمباركة القوى الاستعمارية الطامعة بخيرات العراق. ثم تمكن عبد السلام عارف من القيام بانقلاب عسكري في 18 نوفمبر 1963. وفي 17 تموز- يوليو 1968، استعاد حزب البعث السلطة وأصبح أحمد حسن البكر رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس قيادة الثورة وبقي كذلك حتى استقالته مجبر في 16 يوليو 1979، وحل محله الطاغية صدام حسين لغاية سقوطه عام 2003 على يد الولايات المتحدة وحلفائها وتأسيس نظام حكم طائفي.
اتسم العراق منذ انقلاب شباط 1963 بالصراعات السياسية والحروب العبثية والعنف والاضطهاد السياسي نتيجة سياسات الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة، وحلت به حتى يومنا هذا كوارث ومصائب كبيرة. ففي ربيع عام 1969 اندلع القتال مرة أخرى بين القوات الحكومية والأكراد واستمر القتال حتى أبريل 1975. وفي أيلول سبتمبر عام 1980، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، التي أنتجت العديد من الكوارث التي شهدها العراق وشعبه، وبقي الأمر كذلك حتى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1988. ثم جاء احتلال صدام للكويت وقيام الولايات المتحدة الأمريكية بما سمي بحرب تحرير الكويت التي أدت إلى تدمير البنية التحتية وتخريب البنية الاجتماعية والاقتصادية للعراق وفرض حصار استمر اثنا عشر عاما، أدى إلى هجرة الآلاف من الكفاءات وشرائح المجتمع المثقفة والمتعلمة، وأرجع العراق عشرات السنوات إلى الوراء.
وفي 9 نيسان 2003 قامت الولايات المتحدة بغزو العراق تحت ذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل لغرض السيطرة على منابع النفط. وبعد الاحتلال تم تفكيك مؤسسات الدولة العراقية من جيش وجهاز أمن وشرطة وحرس حدود إلخ. كما أستحدث نظام حكم طائفي اثني، تسلم مقاليد الحكم فيه، ثلة من الانتهازيين واللصوص القادمين من الخارج. فتم القضاء على ما تبقى من منجزات الثورة، وتم تعليق العمل بالعديد من القوانين المهمة التي تراعي حقوق المجتمع وكرامته. فيما حولت الأحزاب الماسكة بالسلطة “الشيعية والسنية والكردية”، مؤسسات الدولة إلى أوكار تعمل بأساليب غير قانونية تتعارض مع المصالح الوطنية العليا للمواطنين والوطن.
اليوم ونحن نحتفي بالذكرى الرابعة والستين لثورة تموز 1958 في زمن تحاذي المخاطر والأزمات مصير الشعب ومستقبله، ويعاني العراق من وطأة التدخلات الأجنبية من قبل إيران وتركيا والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. فإن القوى والأحزاب الطائفية الماسكة بالسلطة منذ غزو العراق، ما زالت تناور بشتى الطرق والأساليب للبقاء في الحكم تحت ذريعة حماية الديمقراطية والعملية السياسية. بيد إن التناحرات والصراعات العبثية ما بين “السياسيين” تحت قوة السلاح “المحمي” هو ما أضاع على العراق الكثير من فرص التطور والتقدم وأبقاه في عداد الدول المتخلفة في ميادين اقتصادية وصحية واجتماعية وتقنية وعلمية كثيرة.
لقد أصبح هدف تغيير النظام السياسي الطائفي الذي أطاح بالدولة وقيمها ومبادئها الأساسية بالكامل، مسؤولية وطنية وأخلاقية لا تقبل المساومة والمناورات السياسية. وعلى القوى الوطنية المدنية أن تحسم أمرها لإنهاء الجدل حول تموضعها السياسي والوطني والمجتمعي الحقيقي، كي لا تخسر ما تبقى لديها من أوراق ضغط لحسم الموقف لأجل تحقيق مطالب الثورة التشرينية وأهدافها القيمية. وعليها أيضا أن توحد جهودها لمواجهة الادعاءات الزائفة للطبقة السياسية لنظام حكم طائفي عرقي أنتج الإرهاب والفساد والمليشيات المسلحة التي أشاعت الفوضى وعمليات الخطف والقتل والتهجير القسري وحولت حياة العراقيين إلى جحيم حقيقي وأوصلت بلاد الرافدين إلى حافة الانهيار، لتسويق نفسها، من أنها حليفة “ثورة الفقراء والجياع” منذ تسعة عشر عاما.