بعد خامس انتخابات برلمانية أسس لها الاحتلال… العراق إلى أين؟
عصام الياسري
لا يستطيعَ أي محللٍ سياسي أن يتنَبأ ماذا سيحل في العراق في قادم الايام؟ وماذا يُمكن أن يطرأ على السياسة العامة للدولة؟ والصراعات العرقية والطائفية بين جميع الكتل المهيمنة على مجالس السلطات الثلاث قائمة على قدم وساق. والتي لا هدف لها سوى البقاء على راس السلطة. بالرغم من مرور ثمانية عشر عاما على نظام توافقي محاصصاتي وخمس انتخابات برلمانية، لم تجلب الا البلاء للعراقيين وبلادهم. بيد ان القضايا المصيرية الهامة التي تعني بالدرجة الأولى المواطن العراقي منذ تشكيل أول إدارة حكم في البلاد على يد الاحتلال، لا تزال موضع خلاف شديد. الأمر الذي ادى ويؤدي بين الحين والآخر إلى مناكفات سياسية، تكاد أن تقوض مصير العراق وتؤدي به نحو المجهول. ومن بين هذه القضايا الحساسة التي لا تزال تراوح على حالها، ليس الإفتقار إلى الماء والكهرباء والبطالة والنهب والسرقات والتفريط بثروات العراق واراضية ومياهه النهرية والبحرية وخراب الصناعة والزراعة فحسب، انما اتساع الهجرة والتهجير وتصاعد عدد الأرامل واليتامى وتفشي الإرهاب والقتل على الهوية. والى جانب افتقار مؤسسات الدولة الى مرجعيات قانونية وقضائية يمكن الاحتكام إليها، آلياً وحرفياً، وابتلاء الدستور بالثغرات القابلة للتأويل الافتراضي والتحريف والتخريج لغير صالح الدولة، فان مسألة نظام الحكم الذي جاء به الاحتلال وفق مبدأ ما يسمى بنظام “المحاصصة الطائفية التوافقية”، برمته فاشل. فقد عطل تحت غطاء العملية السياسية المزعومة وبإسم الديمقراطية الزائفة كل أمرٍ في البلد وجعل مصالح ألاطراف “الطائفية والقومية” فوق مصالح الشعب والوطن.
والخطير في الأمر ان جهاز الدولة التشريعي منذ اول دورة له لم يشرع قانونا عادلا ومعاصرا للانتخابات يمثل ارادة المجتمع، ويتبنى تحديثه، فبالرغم من ضغط انتفاضة تشرين 2019 فما تمّ من إنجازات حتى الآن لم يكن الا على قياس احزاب السلطة. كما لم يقر لحد الساعة “قانون احزاب” وفق احكام الدستور، الذي يحظر اجازة الاحزاب التي تمتلك مليشيات مسلحة، كما لا يسمح لها بالعمل السياسي او المشاركة بالانتخابات. والخطير ايضا، ان سلاح العشائر غير المنضبط قد اصبح وسيلة ضغط، ورائه احزاب وارادات متنفذة لممارسة اعمال التهريب والتهديد والسيطرة على واردات الدولة ومنافذها الحدودية. اما عناصر الميليشيات المسلحة التي تشكلت جميعها على أساس الولاءات والمحاصصات الطائفية والعرقية، فضمها إلى القوات العسكرية وقوى الشرطة والأمن العراقية لا زال موضع جدل مستمر. وفي الضفة الاخرى هناك قوة عسكرية كردية منظمة ترفع العلم الكردي فقط “البيشمركة”، تتسلح وتتقاضى رواتبها من الحكومة الاتحادية الا انها لا تخضع لاوامرها انما لاوامر الاقليم. فيما الصراع بين الطرفين حول العديد من القضايا المصيرية ومنها المناطق المختلف عليها التابعة للدولة العراقية وتقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظة نينوى والتي تحاول الأطراف الكردية انتزاعها بالقوة وجعلها مثل كركوك وسيلة ضغط ومساومة مسبقة للحصول على مكاسب جيوديمغرافية ومادية وسياسية أوسع. كل ذلك بات يهدد الدولة ويشكل عرضة لانفجار مزيد من الصراعات العرقية والسياسية ومزيد من التناقضات التي تضر بالنسيج الثقافي والمجتمعي العراقي.
ومن المثالب التي تواجه العراق ومكوناته ومدى تاثيرها على عجلة البناء والاصلاح، يتحدث خبراء عن مخاطر سيطرة احزاب (شيعية وسنية وكردية) ومتنفذين في السلطة على المنافذ الحدوية والاستحواذ على وارداتها وتهريب النفط وبيعه داخل العراق وخارجه، مما يؤثرعلى مستقبل العراق وتطوره. كذلك توجهات الحكومات المتعاقبة وتنازلها لدول الجوار (الكويت والسعودية والاردن وايران) عن اراض عراقية حدودية ـ مليئة بالثروات المعدنية والنفطية والغازية بوتيرة تبعث على التساؤل والقلق تحت ذريعة تسوية النزاعات مع غياب أي حديث عن تشريع قوانين خاصة بتلك الحالات المشبوهة. ان استمرار التفريط بثروات العراق وأراضيه وتقاسم إيراداته وثرواته بين الطبقات المتنفذة والاحزاب الحاكمة، يتطلب ايضا إضاءة الحقائق والكشف عما يجري في اقليم كردستان من خطط وابرام عقود نفطية مع شركات اجنبية تحت أقنعة كاذبة دون أي علم للحكومة المركزية.
إن تأجيج الصراع في الأسابيع الأخيرة بسبب نتائج الانتخابات، وجه الأنظار إلى مدى خطورة الوضع وعدم استقراره منذ الغزو الأمريكي للعراق. فأحزاب “الاطار التنسيقي الشيعي” ترفض حكومة الاغلبية الوطنية التي يدعو اليها الصدر. والتآلف “السني الكردي” رفض التفاوض مع الصدر لايجاد مخرج بهذا الشأن. فالبرزاني من جهته، عندما دعى الشيعة الى التوافق فيما بينهم على رئيس للوزراء، فهو يدرك انه بذلك سيحرج الجميع، مستهدفا فيما لو تعذر تشكيل “حكومة توافق” طائفي، أمرين: فرض شروطه لاجل مزيد من المكاسب الاقتصادية والجغرافية، وفرصة عودة التهديد لتحقيق هدف الانفصال عن العراق كما سعى إليه سابقا. اما الحلبوسي فانه يطمح الى ضمان ولاية ثانية لرئاسة البرلمان، فإن تحقق له ذلك فسيكون قد قطع نصف الطريق نحو الاستئثار بالسلطة على كامل مساحة المناطق السنية. انها محاولات لاعب النرد، لكنها بالتاكيد ليست سهلة المنال او خالية من الخطورة. اذ ان الاطار التنسيقي الشيعي يبحث عن مخرج “توفيقي”، يكفل مشاركته في السلطة كما يقيه شر ملاحقة منتسبيه قانونيا وتقديمهم للقضاء لما اقترفوه من خطايا، الا ان ذلك من غير الممكن دون حلحلة الامر مع الصدر، لكنه مأزق لا تُحسم جدليته الا انتفاضة جديدة.