العراق يستحقُ نظرةً موضوعيةً لمواجهةِ الواقعِ السياسيِ المضطربِ
عصام الياسري
انفعالات الرأي العام بسبب ممارسات الساسة المتسلطين وانعدام الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والنفسي، متراكمة للغاية، وستشتد كلما ضاق أفق الأمل بالمستقبل وتعاظمت التحديات والضغوط الاجتماعية والقوانين السلبية وعندما تبلغ الانفعالات درجة النضج ستصبح وسيلة ذات أثر عظيم نحو التغيير والبحث عن بدائل جديدة تضع حدا للقهر والمعاناة على كافة الصعد. كما وتصبح سلوكا لمواجهة الرأي السائد على أن: الناس تتكيف مع الواقع المفروض، وأنهم بسبب شدة التسلط أقل استعدادا للتعبير علنا عن مشاعرهم لتغيير واقع معاناتهم. إن ما يجري في العراق مخطط له ومحسوب، والكتل السياسية وإعلام مافيات أحزاب السلطة حصرا، هي من يحرك لتعميقه وإحداث حالة من الفوضى والرعب داخل المجتمع، لإلهائه وبث روح الكراهية والصراع الطائفي بين أبنائه بهدف تأمين مصالحها وأمنها.
لإنقاذ مستقبله ومستقبل أبنائه، يحتاج العراق، إلى تغيير جذري في هيكلة نظامه السياسي وترميم مؤسسات الدولة وإعادة إصلاحها إداريا وبشريا، وعزل تجار السياسة وسراق المال العام الذين تسببوا بخراب البلد وهدر أمواله. وكي لا يبقى العراق رهينة بيد العابثين، على الإعلام الملتزم أن يلعب دورا رياديا لتنوير العقل العراقي وبعث روح المسؤولية فيه وتوجيه البوصلة نحو التغيير ووضع حد لتفاقم الأوضاع وما يجري من خراب ومسخ للإنسان. إذ ليس أمام العراقيين أي خيار غير مواجهة أصحاب المحاصصة الطائفية، الفاسدين والمفسدين… العراق بلدنا ولا يمكن أن نراه يتدمر ونسكت!!
شهد العراق لأكثر من عقدين ولا يزال، جرائم قتل سياسي بحق الأبرياء، فقط لأنهم بدافع المسؤولية الأخلاقية والسياسية إزاء وطنهم وشعبهم، أبوا التواطؤ والصمت. فيما وقف العديد من أصحاب الكلمة والإعلاميين العراقيين يتفرجون غير معنيين بما يحل بالبلد من مصائب وخراب. والأغلبية الصامتة، هي أيضا، لا تخرج عن صمتها إلا عندما تتضرر مصالحها الشخصية فقط، مثلا: عندما أشيع قبل عامين خبر وقف رواتب الموظفين، ومؤخرا كارثة رواتب المعلمين في محافظات كردستان، خرج هؤلاء يتباكون؟ وهو رد فعل قد يكون منطقيا، إلا أنه مسلك غير طبيعي، كونه لا يتناغم مع “قضية” لها انفعالات عامة تتجذر في عمق المصالح الوطنية والعامة للمجتمع. وبسببها لم يعد الصمت ممكنا وﻻ مبررا! ومفهوم “قضية” في هذه الحال ليس أمر “مجازيا” مثيرا للجدل، إنما هدف أساسي، لمسألة واضحة من الناحية السياسية والعلمية. إطارها العام يتجسد في كيفية ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية كـ “قضية”وضمان حقوق المواطنين ومصالح الدولة العامة للأجيال الراهنة والقادمة، بعيدا عن ممارسة الدولة للعنف وملاحقة المواطنين واعتقالهم في أقبية الأمن والميليشيات المسلحة…
الدستور العراقي يقر بأن “الشعب مصدر السلطات”، والمشرعون يتبجحون بأنهم ملتزمون بمبادئه وتطبيقها بحق الجميع دون تمييز أو استثناء أو مواربة!!. وإذا كان الشعب مصدر السلطات حقا، ونعني “التشريعية والتنفيذية” ولا نستثني “القضائية”، فلماذا لم يع هؤلاء المشرعون استغاثات الشعب على مدى عقدين سوء الأوضاع وتراكمها على جميع المساحات والصعد؟. وإن كان الدستور هو مجموعة أحكام في العرف المدني، الفيصل، لإحلال السلم الأهلي وإعلاء شأن العدل والمساواة وضمان حقوق الناس مهما اختلفت انتماءاتهم!. فمن أعطى منتسبو تلك السلطات الحق لشرعنة استثناءات دستورية خاصة بهم، كخصخصة الرواتب العالية وتنوع الامتيازات المالية والعقارية والمكافآت غير المقبولة، والتي لا تتناسب مع الدخل العام للمواطنين. فيما يتعرض عامة الشعب لقهر وجوع وردع وعراء وأمراض لا طائل منها. وتحت عباءة الدستور الذي لا شك أكثر مواده قابلة للتأويل وتفسرها طبقة النخب السياسية على هواها، تجير أحزاب السلطة القوانين لصالحها… الخطير، أن هذه الطبقة الساقطة سياسيا قد جعلت من ممارساتها الاستنزافية أمرا طبيعيا. السبب الذي جعلها تستأثر البقاء في السلطة بالقوة على حساب قوت الشعب ودماء الضحايا وبناء البلد.
في بلد، لا يحل فيه العدل والقانون ويسوده وضع سياسي معقد ونظام حكم طائفي كالعراق، ويتعرض الإنسان للخطر وتنتهك حقوقه وكرامته وتنتشر الفوضى وتسلب ممتلكات الدولة وأموالها. لم يبق أمام المواطن سوى خيار مواجهة الظلم وفساد السلطة الذي لا ينتهي إلا بإنهاء الصراع القائم بين طرفين متناقضين في المواقف والممارسات والمناهج والرؤى. بين سلطة شللية طائفية شوفينية تنظر لمصالحها الضيقة، الحزبية والشخصية، أولا، ومن هذه الزاويا حصرا. ومعارضة جماهيرية واسعة مسحوقة، همها الإصلاح والعدالة الاجتماعية وتحقيق السلم الأهلي والحفاظ على الوطن وأمنه. مظاهرات تشرين 2019 ارتقت إلى مستوى الأسطورة الوطنية بعيدا عن الأيديولوجيا ومتناغمة موضوعيا مع طبيعة المرحلة غير الاستثنائية التي نتج عنها تمرد السلطة على القانون والمجتمع بأكمله، وجعل الإصلاح المرتقب من بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق عام 2003 في أتون المجهول والعراق على صفيح ساخن.
السؤال؛ هل ستحسم الأحزاب الناشئة وقوى المعارضة المختلفة المشارب، موقفها، من السلطة دون رجعة – وتعمل جادة لتوحيد جهودها ودخول الانتخابات القادمة بجبهة وطنية عابرة للفئوية والشللية وبرنامجا سياسيا موحدا أكثر نضجا واندفاعا؟ أم أنها ستبحث في الأروقة المظلمة عن حلول ترقيعية تعيد تموضع الأحزاب والكتل الحاكمة في الحياة السياسية وتضييع الفرصة من جديد؟ والسؤال الأهم؛ هل ستستجيب قوى أصحاب السلطة حقا، احترام إرادة الشعب كما وعدت، وتتحمل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية دون تحيّن الفرص للانقضاض تحت ادعاءات زائفة على أطياف الحراك المدني بقساوة لغلق أبواب التغيير والإصلاح بوجهها قبل وأثناء الإنتخابات؟… لننتظر إلى ما تؤول إليه الأحداث والمواقف في قادم الأيام ونرى من يبلى بلاء شعبيا حسنا!!