شهد العراق لأكثر من تسعة عشر عاما ولا يزال، جرائم قتل سياسي بحق الأبرياء، فقط لأنهم بدافع المسؤولية الأخلاقية والسياسية إزاء وطنهم وشعبهم، أبوا التواطؤ والصمت. فيما وقف العديد من أصحاب الكلمة والإعلاميين العراقيين يتفرجون غير معنيين بما يحل بالبلد من مصائب وخراب. والأغلبية الصامتة، هي أيضاً، لا تخرج عن صمتها إلا عندما تتضرر مصالحها الشخصية، يخرجون يتباكون. وهو رد فعل قد يكون منطقيا، إلا أنه مسلك غير طبيعي، كونه لا يتناغم مع “قضية” لها انفعالات عامة تتجذر في عمق المصالح الوطنية والعامة للمجتمع. وبسببها لم يعد الصمت ممكناً وﻻ مبرراً! ومفهوم “قضية” في هذه الحال ليس أمراً “مجازياً” مثيراً للجدل، إنما هدف أساسي، لمسألة واضحة من الناحية السياسية والوطنية. إطارها العام يتجسد في كيفية ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية وضمان مصالح البلد وحقوق المواطنين العامة للأجيال الراهنة والقادمة، بعيداً عن ممارسة الدولة للعنف وجرائم القتل وملاحقة المواطنين واعتقالهم في أقبية الأمن والميليشيات المسلحة التابعة لأصحاب السلطة وأحزابها.
جاءت انتفاضة تشرين 2019 التي تحل اليوم ذكراها السنوية الثالثة. وما تلاها من تظاهرات في العديد من المدن العراقية للمطالبة على مستوى شعبي شامل بالحرّية والعدالة الاجتماعية، منسجمة وطنياً مع مفهوم “القضية” عندما رفعت شعارين هادفين “نريد وطناً”، و”نازل آخذ حقي”. تكللت بالإطاحة برئيس الوزراء عادل عبد المهدي وحكومته عديمة الضمير والأخلاق، لفشلها في توفير أبسط الخدمات للمواطنين، إضافةً إلى عجزها عن تحقيق العدالة والأمن والاستقرار السياسي وإعادة إعمار البلاد.. لم ير العراق في تاريخه الحديث حكومةً متورطة في أعمال القتل والتمييز والنهب والخضوع لإرادات خارجية، إقليمية ودولية، مثل تورط حكومة عبد المهدي. وبات العراق في ظلّها مهدداً بالتجزئة والتشرذم والاحتراب. فألهبت الثورة مشاعر العراقيين في كل مكان. وخرج المواطنون كما هم اليوم إلى الشوارع احتجاجاً على سياسة الحكومات المتعاقبة المغرقة في الطائفية والفساد. وسقط خلال المواجهات الدامية مع مليشيات الأحزاب والأجهزة القمعية للسلطات العراقية المختلفة، الآلاف من الأبرياء بين قتيل وجريح. من أجل حريّة العراقيين وكرامتهم واستقلال وطنهم، وأصبحت دماؤهم ديناً في أعناق الأحياء، ولن تذهب هدراً!
وبينما تنحدر الأمور نحو الأسوأ، وترتفع أصوات الشرفاء في الداخل والخارج للتضامن مع المتظاهرين، يخرج البعض للدفاع عن الأحزاب المهيمنة على الدولة وسلطاتها الرئيسية الثلاث، بهدف تظليل الرأي العام فيما يتعلق الأمر بحقوق الأغلبية من العراقيين وارتباط ذلك بمفهوم “الوطن” والانتماء إليه، أو التغطية على الإشكاليات التي تعاني منها هذه القوى والأحزاب سيما “الإسلاموية”. إذ إن السلوك السياسي للأحزاب المهيمنة على السلطة والقرار “الشيعية والسنية والكردية” لديها “إشكالية” إنما مشتركة، حول مفهوم “هوية الدولة والدولة الوطنية والمجتمع” التي لا تضع لها هذه الأحزاب أية اعتبارات قيمية، بقدر ما هو متعلق بمصالحها: من أن الصراع لا يقتصر على منازعة الدولة لشرعيتها السياسية والوطنية، بل يتجاوز التشكيك بهويتها. بمعنى أنها لا تؤمن بمفهوم “الوطن” جيوديموغراقياً، إنما بعقيدة الأيديولوجيا “الشعبوية” أو “الدولة الإسلامية” التي لا تفصلها حدود وتخضع للخلافة الرشيدة أو لولاية الفقيه.
هذه المواقف ليس محض وجهات نظر، لا صلة لها بأي توجيه من داخل المنظومات الشعبوية وخارجها، إنما بدافع الرمزية العقائدية، المادية والمعنوية. ليس الاعتراض على الاختلاف في وجهات النظر، إنما الاعتراض على جزئية السكوت على الظلم والطغيان واستبداد القوى الظلامية وتجاوزها على المبادئ العامة لحقوق المجتمع والدولة ومؤسساتها بشكل عام. والغريب إن أغلب الذين يتصدرون الدفاع عن أحزاب السلطة وشخوصها. من أولئك “المتأدلجين” الذين انخرطوا مع الحشر، وكان بعضهم عراباً للاحتلال، وما زال “يلغف” من كل ثريد خلافا للمألوف الذي يتميّز به الإعلامي والسياسي النزيه تجاه المشروع الوطني وصناعة إنسان المستقبل وتطور المجتمع وبناء الدولة المدنية الحديثة والدفاع عنها. بل جعل مهنته مسلكاً في غير محله للوصول إلى هدف انتهازي بالتأكيد. إلى غير ذلك، فإن المنهج السائد فيما يتعلق الأمر بالموقف من “مشروع الدولة ولا دولة”، لدى بعض العاملين في مجال الفكر والإعلام، لا ينسجم في أغلب الأحيان مع الأعراف والقيم المهنية التي تتطلب الموضوعية والأمانة الحرفية البينية المتوافقة مع مفهوم الوطنية وليس أي نمط يعج بالمتناقضات والمسالك في كل الاتجاهات.
إن إنارة الطريق أمام المجتمع في مثل هذه الظروف التي يمر بها العراق ومجتمعاته المتعددة الثقافات، ونحن نقف على عتبة انطلاق الثورة التشرينية من جديد يعني: “الاقتراب بدافع الاهتمام للوصول إلى الحقيقة لخدمة المجتمع” كما يقول الفيلسوف “فيلهلم دِلتي” مسألة ضرورية. لكن “دوافع الاهتمام” كلٍّ في مجاله يجب أن يسمو بمستوى المسؤولية، بمهارة أخلاقية واعتبارية واسعة الشأن. لا إن يكون جَدَّفَا في غير موضعه بدافع انتهازي لا يستحق الاحترام. ليس المهم، حجم ما تقوم وكيف.. المهم، لماذا، ولمن، ومتى تفعل؟ لتكون قدر المسؤولية… اليوم نحن أمام ديماغوغية قديمة جديدة تعمل على إزاحة المسؤولية عن من ارتكبوا جرائم سياسية لا تغتفر بحق بلدنا ومجتمعاتنا لأكثر من تسعة عشر عاما من الضياع والتدهور والحرمان على يد مستبدين من طراز جديد ونظام حكم طائفي مقيت وشوفينية انتهازية… لا شك في أن هذا الواقع سوف لن يفضي بأي حال من الأحوال إلى شرعنة هذه الطبقة دراماتيكيا لإضفاء نوع من المصداقية على سلوكها وتبرير ما ارتكبته من خطايا بحق الشعب والوطن، إذ أن الثورة قادمة لا محال!!