العراق الحديث ونظام دولة حكم اللصوص!
عصام الياسري
قبل تأسيسها، ما يقارب مئة عام ونيف، كان العراق دولة مدنية ذات مؤسسات معاصرة ومحترمة بين المنظومة الدولية أينما حل موظفوها. من بعد احتلاله عام 2003 تحول كما هو شائع اليوم على المستوى الداخلي والخارجي، إلى دولة فاشلة سيئة السمعة، تحكمه ثلة من المارقين الذين تغلغلوا في جميع مؤسساته وحولوها إلى محميات يسيطر عليها فاسدون محترفون تمكنوا من تحويل نظامه المؤسساتي الرصين إلى ما يعرف بنظام “الكيانات” الطائفية الذي اعتمد مبدأ تجزئة الجمعي ((شيعيا، سنيا، كرديا))، أنتج بالتالي طبقة “حكم اللصوص” وما بعده الاستحواذ على الدولة وممتلكاتها.
فكيف ينشأ حكم من هذا القبيل؟ وما هي عناصر أيديولوجيته؟
ينشأ “حكم اللصوص” نتيجة تفاعل عدة عوامل تتعلق بالتاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة. غالبا ما يكونون القادة الذين يسعون إلى حكم اللصوص مهتمين بتحقيق مكاسب شخصية وسياسية كبيرة. يستغلون مناصبهم للوصول إلى المال والثروة ويمتلكون الرغبة في البقاء في السلطة للحفاظ على التحكم بمقدرات الدولة وممتلكاتها. وغالبا ما يتجاوزون القوانين والأخلاقيات لتحقيق مصالحهم الخاصة من خلال التضليل واستخدام وسائل الإعلام والدعاية للتلاعب بالرأي العام وخلق صورة إيجابية لأنفسهم أمام الجمهور، حتى يمكنهم البقاء في السلطة وتجنب المحاسبة. أيضا ممارسة القمع والتضييق واستخدام القوة والترهيب لقمع أي معارضة قد تهدد استمرارهم في السلطة. ولتعزيز تأثيرهم والحفاظ على دعم دائم، يقومون بشراء الولاءات السياسية وتعيين الأشخاص المحسوبين عليهم في المناصب الحكومية والمؤسسات الحيوية بالإضافة إلى التلاعب بالنظام الانتخابي وتزوير الانتخابات أو تقييد حرية التنافس السياسي. يجيدون تجنب المساءلة القانونية عبر تعديل القوانين والتحايل عليها، أو تلافي القضاء واستغلال الانقسامات الاجتماعية والعرقية والدينية وتشجيع التوترات لتأمين مصالحهم.
ولتحقيق مآربهم يستخدم “زعامات اللصوص” العناصر الأيديولوجية التي تتنوع وتعتمد السياق السياسي والثقافي والاجتماعي. فمنهم من يتبنى الشعارات القومية أو الدينية، بينما يتمسك آخرون باللامبالاة تجاه القيم والمبادئ ويعتمدون الأنشطة الإجرامية والانتقام والوعود بالثروة على مستوى الدولة والمجتمع لجذب أعضاء جدد إلى صفوفهم. والأخطر: تحاول هذه الفئات التي تمارس اللصوصية تبرير أنشطتها بتصوير نفسها كمظلومين وضحايا للمجتمع أو النظام، وبالتالي تحاول تبرير أعمالها الإجرامية كوسيلة للنضال أو البقاء في السلطة. ناهيك عن استغلال القضايا الاجتماعية مثل الفقر والبطالة وعدم المساواة والترويج للولاء الجماعي بين أعضائها من خلال الأيديولوجيا الشعبوية والرموز والتقاليد الخاصة بها. مما يجعل من الصعب على الأعضاء الانخراط في التعاون مع السلطات القانونية والأمنية لكسر أساليب الدعم الأيديولوجي والاجتماعي والعقائدي التي تستخدمها جماعات الفساد.
حكم اللصوص ليس حكما تاريخيا أو سلطة حكومية رسمية. إنما نشاط إجرامي يستخدم التحايل والعنف للحصول على ممتلكات الآخرين بما فيها الدولة بشكل غير قانوني. تاريخيا، يمكن العثور على أنشطة لصوص ومجرمين في مختلف العصور والمجتمعات. تارة يتم التعامل مع هذه الأنشطة بشكل أكثر تنظيما وشفافية من خلال تأسيس أجهزة قانونية وقضائية نزيهة، وتارة أخرى بقمع هذه الأنشطة بشكل صارم حفاظا على أمن الدولة ومصالحها الوطنية. لذلك، ليس هناك عصرا محددا أو فترة زمنية تحدد فيها ظهور حكم اللصوص. إنها ظاهرة تمتد عبر تاريخ البشرية وتظهر في مختلف العصور والثقافات.
لكن “حكم اللصوص” في العراق المعاصر كما تشير العديد من الوقائع، ظاهرة معقدة يمتزج فيها العديد من العوامل الفكرية والسياسية والتاريخية… من الناحية الفكرية، أنه لا يرتبط بالقيم والأخلاق، ويشير إلى مفهوم الظلم والاستغلال والتجاوز على حقوق الآخرين بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة. كما يعبر عن السلوكيات اللاإنسانية وغير الأخلاقية التي تستند إلى جشع (اللصوص المستبدين) والاستفادة على حساب الآخرين. أما من الناحية السياسية، فإن “حكم اللصوص” يرتبط في العديد من الحالات بالسياسة الحكومية. بالإشارة إلى أن الحكومات المتعاقبة منذ 2010 متهمة بممارسة الفساد واستغلال موارد الدولة وامتهان الاستيلاء على الثروات الوطنية دون مراعاة للمصلحة العامة. في هذا السياق، يكون مفهوم حكم اللصوص، مرتبطا بالفساد وسوء الإدارة. ومن الناحية التاريخية، فيما يتعلق الأمر بالعراق، فإن “حكم اللصوص” ارتبط بالحروب والاستبداد والظلم التي شهدتها المجتمعات العراقية على مدى عقود، جعلت الفاسدين من الناحية السياسية، أصحاب سلطة دون منازع.
إن نظام “حكم اللصوص” هذا، أصبح له تأثير كبير على المجتمعات العراقية. وبالنتيجة أدى إلى الفساد وسوء الإدارة وتدهور الخدمات العامة وتفشي الفقر وإنعدام العدالة الاجتماعية. وبالتالي إلى تداعيات احتجاجية وسياسية. يكون فيها مكافحة حكم اللصوص جزءا أساسيا من النضال السياسي والاجتماعي. يشمل ذلك، ليس المطالبة بالشفافية والمساءلة وتعزيز حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية وحسب، بل الدعوة لتغيير نظام الحكم وانتزاعه من يد “اللصوص” بشكل جذري. وإن لم يكن للشعب مقدرة لتحقيق مثل هذه الأمور، يصبح من المهم النظر في استراتيجيات وتكتيكات أخرى لمكافحة هذا النوع من الحكم العبثي. كاستخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الرصينة لتسليط الضوء على “حكم اللصوص” وكشف ممارساته ومخاطره على الساحة الدولية. تصعيد مطالبة المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان والمحاكم الدولية لتحمل المسؤوليته القانونية عند الضرورة، كتقديم شكاوى أمام الهيئات الدولية لعزل النظام ومعاقبته.
إن مكافحة حكم اللصوص في العراق المعاصر قد يأخذ وقتا وجهدا طويلين، وربما يتعرض لتحديات كبيرة. إلا أن بناء تحالفات بين العناصر الداخلية الداعمة للتغيير والإصلاح وحماية المواطنين المعارضين الذين يسعون للكشف عن الفساد والقمع. والاستمرار في التحرك واستخدام الضغط على المسؤولين وتعزيز مبادئ التعليم والوعي السياسي من ناحية الإمكانيات البشرية والفكرية والقانونية لدى المواطنين، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تغيير إيجابي وإنهاء “حكم اللصوص” وتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء دولة المواطنة.