الأزمات لم تنته… والهيمنة الخارجية تعيق تطور العراق وإعماره
عصام الياسري
بعد مضي عقدين على غزوه، والبلاد لم تجد حتى الآن استقرارا دائما. يعود ذلك في نفس الوقت إلى حقيقة أن على العراق أن يتعامل اليوم مع العديد من الأزمات والصراعات السياسية والعقائدية والفئوية التي تحيط به كمنظومة جيوديموغرافية من كل الجهات. وكان على الشعب العراقي أن يتحمل خلال العقدين الأخيرين الكثير: التدخل الأجنبي في شؤونه الداخلية، فقدان الأمن والفساد والابتزاز والانقسامات الاجتماعية، مظالم معيشية وإنسانية وحقوقية وآثار نقص المياه والكهرباء ومراكز الصحة والتطبيب وتغير المناخ. في حين أن أيا من الأزمات لن يكون من الممكن التغلب عليها والبلاد تسير في طريق سياسي وإداري مسدود، لدرجة أن أي حكومة فاعلة تاتي، ستجد صعوبة في مواجهة كل تلك التحديات…
في وقت مبكر من عام 2019، نزل الشباب العراقي على وجه الخصوص إلى الشوارع بأعداد كبيرة، طالب المشاركون في ما عرف بحراك تشرين: وضع حد للتدخل الخارجي وإلغاء ما يسمى بنظام المحاصصة وعودة الدولة للسيطرة على مركز القرار لإنقاذ البلد ووضع حد لتقاسم المغانم بين الأحزاب على أساس عرقي- طائفي. كانت هذه الأهداف للمنتفضين تهدف إلى وقف التمييز العرقي الطائفي في أعقاب تمدد “الدولة الإسلامية” داعش… في تشرين الأول أكتوبر 2022 شكلت حكومة أخرى ووعد رئيس الحكومة الجديد، محمد السوداني، باتخاذ إجراءات ضد الفساد والتحضير لانتخابات جديدة في المستقبل القريب. ولكن بعد ستة أشهر، لم يحدث أي شيء وبات من الواضح بشكل متزايد أنه لا يمكن توقع بداية سياسية جديدة ووضع نهاية لسياسة الأحزاب الطائفية المستأثرة بالسلطة ومؤسسات الدولة ومواردها.
وعلى ما يبدو، أن الفصل الطائفي في المجتمع العراقي لا زال لم يتجاوز السياسة. فمثلا حتى عام 2003، عاش الشيعة والسنة والكرد والمسيحيون وغيرهم من القوميات جنبا إلى جنب في العديد من الأماكن في العاصمة العراقية بغداد وغيرها من المحافظات. لكن الصراعات العنيفة على السلطة بين الجماعات المختلفة، سيما بين الطائفتين الشيعية والسنية، أدت في أعقاب سقوط صدام حسين، وانتشار الإرهاب في أجزاء كثيرة من البلاد إلى تعميق الانقسامات في المجتمع العراقي. اليوم، بغداد مقسمة إلى حد كبير حسب الدين والعرق، ولا يوجد سوى عدد قليل من الأحياء المختلطة.
بعد عام 2003، تم ملء فراغ السلطة في العديد من الأماكن في البلاد من قبل الميليشيات المسلحة. وكان لها دور في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014، وكان العديد من هذه الجماعات تنتمي إلى قوات الحشد الشعبي، وأصبحت فيما بعد جزء من القوات المسلحة العراقية. لكن ولاءها للدولة في الواقع، ضعيف، وجزء كبير منها له علاقات وثيقة مع إيران. وبعد الانتصار على داعش في عام 2017، قامت قوات الحشد الشعبي في ظل انهيار مؤسسات الدولة ببسط نفوذها في الأعمال السياسة والإدارية والاقتصادية.
إن توزيع عشرات الآلاف من الأسلحة النارية على الميليشيات: “عندما تكون الدولة في وضع غير مستقر للغاية، فإن عقيدة فكرة بسيطة لديك، تعتقد أنه عليك فقط تسليم المسدس إلى الأخيار، عندئذ، سينتهي الأمر حتما إلى فوضى مطلقة” ويصيح في بلد كالعراق، يعاني منذ أكثر من ستة عقود أوضاع سياسية معقدة، نادرا ما تناقش العواقب النفسية للحروب والأزمات التربوية والبيئية والمعيشية والمجتمعية. في دراسة أجرتها عام 2016 مجلة نيويورك تايمز عن الاضطرابات النفسية بين الشباب العراقي “إناث وذكور”، أن 56 في المائة من المشاركين لديهم علامات اضطراب ما بعد الصدمة وأكثر من 60 في المائة لديهم أعراض الاكتئاب. ومع ذلك، بالكاد توجد نقاط تواصل معهم: في عام 2019، قدرت وزارة الصحة العراقية عدد الأطباء النفسيين في البلاد ب 138 طبيبا- حوالي واحد لكل 300000 شخص تقريبا.
أما الاقتصاد لا يزال متعثرا، يعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط دون بذل الجهود لتطوير الصناعة والزراعة، مما يجعله عرضة للأزمات. فيما يمنع الفساد والمحسوبية القيام بإصلاحات ضرورية، لأن السلطة السياسية مقسمة بحكم الأمر الواقع في المناطق ذات الغالبية العربية بين السنة والشيعة، وفي المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال العراق، بين عائلتين كبيرتين، هما بارزاني وطالباني. أدت في السنوات الأخيرة للاحتجاج ضد الظلم والفساد وزيادة القيود على حرية التعبير وحقوق الإنسان، سيما في المحافظات الجنوبية التي يسيطر عليها أحزاب الإسلام السياسي والميليشيات، ولكن أيضا في المحافظات الشمالية التي يسيطر عليها الحزب البارتي والاتحاد.
ولا يزال ما يقرب 1.2 مليون عراقي يعيشون كنازحين داخليا. بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يجد العائدون مصدر رزقهم مدمرا بالكامل مع نقص في العمل والسكن والحصول على الخدمات الأساسية. فيما وصل حد الفقر بين طبقات المجتمع العراقي المختلفة حسب أحدث تقارير المنظمات الدولية الرصينة إلى أكثر من 38 % مقابل 31 % في عام 2020، والبطالة ارتفعت إلى 21 %، غير أن المسؤولين يغضون النظر عن هذه الأوضاع المعيشية الخطيرة. أما ندرة المياه وآثار أزمة المناخ، فقد أصبحت واضحة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. فأقل من عشر كميات المياه التي تتدفق تصل إلى العراق من إيران، وثلثها فقط من تركيا. الأمر الذي يؤدي إلى الجفاف وتغير المناخ في العراق بالإضافة إلى اجتياح العشرات من العواصف الرملية البلاد وازدياد حدتها وتواترها بسبب التصحر وتضاؤل الغطاء النباتي. دون عمل المسؤولين ما يكفي لمعالجة هذه الظواهر واتخاذ موقف حازم إزاء تركيا وإيران، إن لم تلتزم بتنفيذ استحقاقات العراق المائية وفقا لما تنص عليه القوانين والاتفاقيات الدولية.
أوضاع العراق صادمة. وليس هناك متسع من التفكير الطويل للبحث عن الحلول أو الإجابة على كيفية إجراء ذلك، عندما الشك يكون: بأننا نعتقد أو نفكر بان الأمر انتهى. دون التأكد من أننا موجودون، والاهم، وفقا لنظرية الفيلسوف “رينيه ديكارت”: لا يمكننا أن نحلم إذا لم نكن موجودين. لذلك نستنتج بان دورة الاستيقاظ من النوم قادمة لا محال، ولا يمكن لأي إنسان أن يفكر في شيء مثالي بمفرده!