إلى متى سيبقى العراق رهينة أمراض الأزمات السياسية الطائفية؟
عصام الياسري
فيما مر عقدين على غزو “تحالف اللاعبين” بقيادة الولايات المتحدة لتدمير العراق، لم تتمكن البلاد لحد الآن على تحقيق الاستقرار الدائم أيضا، على العراق منذ 2006 إلى اليوم أن يتعامل مع الاحتجاجات المستمرة في عموم البلاد بسبب العديد من الأزمات والصراعات السياسية التي تصنعها الأحزاب المسيطرة على الدولة والسلطة معا.
لقد كان على سكان العراق أن يتحملوا الكثير في العقود الأخيرة: الحروب والخلافات، والفساد والانقسام الاجتماعي، وإرهاب داعش وتأثيرات نقص المياه وتغير المناخ. ورغم أن أيا من الأزمات لن يكون من الصعب التغلب عليها بمفردها، فإن العراقيين اليوم يواجهون العديد من المشاكل في وقت واحد، حتى أن أي حكومة فاعلة ستجد صعوبة في التصدي لهذه التحديات بسبب تمرد الميليشيات المسلحة عليها. وبدلا من ذلك، دخلت البلاد مرات عدة في مأزق سياسي تلو الآخر. أكثرها شيوعا، الفساد المستشري والأزمة الحكومية المتكررة على المستويين التشريعي والتنفيذي. انقسام المجتمع العراقي على المستويين الطائفي والعرقي، الميليشيات المسلحة وتنظيم داعش، الدمار والصدمات والتهجير الناجم عن الحروب والصراعات السياسية، أزمة المناخ وشح المياه، الصراع المستمر بين المركز وحكومة إقليم كردستان شمال العراق من جهة، وبين أحزاب السلطة وإدارات المجالس المحلية للمحافظات من جهة أخرى…
في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، كانت هناك لحظة ارتياح في العراق: لمدة عام بعد الانتخابات البرلمانية لعام 2021، لم يتمكن أي فصيل من تشكيل ائتلاف قابل للحياة وفقط بعد انسحاب 73 نائبا من التيار السياسي الشيعي التابع لمقتدى الصدر من البرلمان، تمكن “الإطار التنسيقي” من تشكيل حكومة مرة أخرى. ووعد رئيس الحكومة الجديد محمد السوداني باتخاذ إجراءات ضد الفساد والتحضير لإجراء انتخابات جديدة في أسرع وقت ممكن. لكن بعد مرور ما يقرب من عام ونصف، لم يحدث أي شيء تقريبا، وأصبح الأمر واضحا بشكل متزايد: لا يمكن توقع بداية سياسية جديدة ونهاية للمحسوبية من قبل السوداني أيضا.
النظام السياسي في البلاد في أزمة مستمرة. في وقت مبكر، خرجت أعداد كبيرة من الشباب العراقي على وجه الخصوص إلى الشوارع: المشاركون في حركة تشرين عام 2019 الذين تم قمعهم بعنف من قبل قوات الأمن والميليشيات الموالية لإيران وقتل فيها أكثر من 800 متظاهر. طالبوا بإنهاء التدخل الأجنبي وإلغاء نظام المحاصصة وتوفير الأمن والاستقرار وتحقيق العدالة الاجتماعية. إلا أن الذي بموجبه تم عدم تحقيق أي من تلك المطالب على مدى عقدين، هو تمسك طبقة شللية بالسلطة السياسية على أساس عرقي طائفي. وكان الهدف من العمل بهذا النظام غير المشرع دستوريا أو قانونيا هو منع القوى المدنية والمجموعات العرقية المضطهدة في المدة التي تلت سقوط نظام صدام الديكتاتوري من انتزاع حقوقها المشروعة…
اليوم، في نظر العديد من النقاد، إنهم، أي “اصحاب السلطة” يعززون الانقسام في المجتمع فالأحزاب السياسية لا تتنافس على المحتوى بقدر ما تتنافس على خصخصة السلطة السياسية والمال لأفراد مجتمعها واحزابها. وبناء على ذلك، ذهب عدد قليل من الناس إلى صناديق الاقتراع في جميع انتخابات وبلغت نسبة إقبال الناخبين في افضل الاحوال على 25 بالمئة منذ عام 2005. فالدولة، التي أضعفها الفساد والإدارة المتضخمة، لا تتمكن حتى من توفير القدر الكافي من الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه، ناهيك عن معالجة المشاكل الملحة العديدة التي تواجهها البلاد.
ومع ذلك، فإن الفصل في المجتمع العراقي يذهب إلى ما هو أبعد من السياسة. فحتى عام 2003، على سبيل المثال، كان الشيعة والسنة والمسيحيون يعيشون -جنبا إلى جنب- في العديد من الأماكن في العاصمة العراقية بغداد. وكان الصراع العنيف على السلطة بين مختلف الجماعات، وخاصة بين الأغلبية الشيعية والأقلية السنية بعد سقوط صدام حسين، فضلا عن الهجمات الإرهابية العديدة في أجزاء كثيرة من البلاد، سببا في تعميق الانقسامات في المجتمع العراقي. واليوم، تنقسم بغداد إلى حد كبير حسب الدين، ولم يتبق سوى عدد قليل من الأحياء المختلطة…
وقد ساهمت الولايات المتحدة في تعزيز العديد من الظواهر الخطيرة على مستقبل العراق، ذلك من خلال توزيع عشرات الآلاف من الأسلحة على الميليشيات المتعاطفة وقوات الأمن المنشأة حديثا على قاعدة عندما تكون في وضع غير مستقر للغاية، والذي لا تكاد يكون لديك أي فكرة عن تعقيده، تعتقد أنه عليك فقط وضع سلاح في أيدي الأخيار، ثم ينتهي الأمر حتما إلى الفوضى المطلقة. ووفقا لتقرير صدر عام 2007 عن وزارة الدفاع الأمريكية، بعد أربع سنوات فقط، لم يكن من الممكن تعقب 110.000 بندقية آلية و80.000 مسدس. وبحسب بيانات منظمة مسح الأسلحة الصغيرة، كان هناك حوالي 7.6 ملايين قطعة سلاح مملوكة للقطاع الخاص في العراق في عام 2018 لنحو 40 مليون نسمة.
الخطير، نادرا ما تتم مناقشة العواقب النفسية للأزمات المتراكمة. ووفقا لدراسات أجرتها منظمات دولية عن الاضطرابات النفسية بين الشباب العراقيين عام 2016 وجدت علامات اضطراب ما بعد الصدمة لدى 56 بالمئة من المشاركين وأعراض الاكتئاب لدى أكثر من 60 بالمئة. ومع ذلك، لا تكاد توجد أي نقاط اتصال معهم: ففي عام 2019، أفادت وزارة الصحة العراقية أن عدد الأطباء النفسيين في البلاد يبلغ 138 طبيبا، أي حوالي طبيب واحد لكل ما يقرب من 300 ألف شخص يعاني دون إعادة هيكلة أوضاعه النفسية والمجتمعية…